للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاجتماع السادس لجمعية أم القرى

يوم الاثنين الثاني والعشرين من ذي القعدة سنة ١٣١٦
في الضحى الأول من اليوم المذكور تألفت الجمعية حسب معتادها وقرئ
الضبط السابق واستعدت الأذهان لتلقي ما يفيضه الله على ألسنة أهل الإيمان من
الإخوان.
قال (الأستاذ الرئيس) مخاطبًا (الشيخ السندي) : إنك يا مولانا لم تشاركنا
في البحث إلى الآن، فنرجوك أن تتكرم على إخوانك بنبذة من عرفانك تنور بها
أفكارنا، ونرجوك أن لا تحتشم من التلعثم في بعض التعبيرات اللغوية لغلبة العجمة
عليك فإن لك أسوة بالفيروزابادي والسعد والفخر وغيرهم.
فقال (الشيخ السندي) : إنكم أيها السادة الإخوان، سراة أفاضل الزمان،
وسباق فرسان كل ميدان، قد أفدتم وأجدتم ولم تتركوا لقائل من مجال، ولا لمثلي
غير الإصغاء والامتثال، وإني أحب أن أذكر لكم حالتي وفكرتي قبل هذه
الاجتماعات وما أثرته فيّ هذه المفاوضات فأقول: إنني من خلفاء الطريقة
النقشبندية، وإذ كان والدي المرحوم هو ناقل هذه الطريقة للأقاليم الشرقية
والجنوبية في الهند فقد صرت بعد والدي مرجعًا لعامة خلفائها ثم جرت لي سياحات
مكررة في تلك الأرجاء وفي أيالات كاشغر وقازان حتى سبيريا وتلك الأنحاء
وبسبب حرصنا على تعميم طريقتنا صار لها شيوع مهم وانتشار عظيم بين مسلمي
هاتيك الديار.
ومن المعلوم أن طريقتنا من أقرب الطرائق للإخلاص وأقلها انحرافًا عن
ظاهر الشرع وهي مؤسسة على الذكر القلبي وقراءة ورد خواجكان ومراقبة المرشد
والاستمداد من الروحانيات، وإني لم أكن أفكر قَطّ في أن الذكر وقراءة الورد على
وجه راتب فيه مظنة البدعة أو الزيادة في الدين ولا أن المراقبة والاستفاضة
والاستمداد من أرواح الأنبياء والصالحين فيها مظنة الشرك إلى أن حضرت هذه
الاجتماعات المباركة فسمعت وقنعت وأقلعت والحمد لله.
على أني عزمت أيضًا على أن أتلطف في الأمر بالنصيحة والموعظة الحسنة
عسى أن أوفق لهداية جماهير النقشبندية في تلك البلاد وإلى تصحيح وجهتهم بأن
يذكروا الله قلبًا ولسانًا بدون عدد مخصوص معين قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم بدون
هيئة أو كيفية معينة متى شاءوا وأرادوا بدون وقت مرتب فرادى ومجتمعين بدون
تداعٍ. وأن يتركوا المراقبة ويستعيضوا عنها بالدعاء بالغفران والرحمة لكل من
الشيخ بهاء الدين النقشي مرشدهم الأعلى ولخليفته مرشدهم الأدنى الذي
هم مبايعوه.
وقد فتح الله عليّ ببركة جمعيتنا هذه فهم أسباب ميل المسلمين في هاتيك البلاد
صالحهم وفاسقهم للانتساب إلى إحدى الطرائق الصوفية وكنت قبلُ أحمل ذلك على
مجرد إخلاص المرشدين، والآن اتضح لي أن السبب هو أن السادة الفقهاء عندنا
من الحنفية والشافعية قد ضيقوا على المسلمين العبادات تضييقًا لا يعلم أن الله
تعالى يطلبه من عباده وكثروا الأحكام في المعاملات تكثيرًا ضيع الناس وشوش
الإفتاء والقضاء حتى صار المسلم لا يكاد يمكنه أن يصحح عبادته أو معاملته ما لم
يكن فقيهًا.
فتوسيع الفقهاء دائرة الأحكام أنتج تضييق الدين على المسلمين تضييقًا أوقع
الأمة في ارتباك عظيم ارتباكًا جعل المسلم لا يكاد يمكنه أن يعتبر نفسه مسلمًا ناجيًا
لتعذر تطبيق جميع عباداته ومعاملاته على ما يتطلبه منه الفقهاء المتشددون الآخذون
بالعزائم، فبذلك أصبح الجمهور الأكبر من المسلمين يعتقدون في أنفسهم التهاون
اضطرارًا فيهون عليهم التهاون اختيارًا كالغريق لا يحذر البلل؛ لأنه كيف يطمئن
الحنفي العامي حق الاطمئنان في الاستبراء لتصح طهارته، وكيف يحسن مخارج
الحروف كلها وقد أفسدت العجمة لسانه لتصح صلاته. وكذلك كيف يصحح
الشافعي العامي نيته على مذهب إمامه في الصلاة أو يعرف شدات الفاتحة الثلاث
عشرة ويتنبه لإظهارها كلها ليكون أدَّى فريضته؟
بل أيُّ عامّيٍّ يعرف وصف الكلام ومعنى الاستواء وتأويل الوجه واليد
واليدين وتعيين الجزء الاختياري وإضافة الأعمال له أو لله إلى غير ذلك ليكون عند
الحنفية الماتريدية والشافعية الأشاعرة مسلمًا مقلدًا يرجى له قبول الإيمان؟ ومَنْ مِن
العامّة يحيط علمًا بكل ما ثبت بالنص القاطع حتى صفرة بقرة بني إسرائيل مثلاً
لكيلا يعتقد خلافه فيكفر فيحبط عمله ومن جملته انفساخ نكاحه؟ وكم من مسلم يحكم
عليه الفقيه الشافعي بأنه نسل سِفَاحٍ ومقيم على السِّفَاحِ وراضٍ لمحارمه بالسِّفَاح إلى
غير ذلك مما ينافي سماحة الدين ومزية التدين به في الدنيا قبل الآخرة.
فبهذا التضييق صار المسلم لا يرى لنفسه فرجًا إلا بالالتجاء إلى صوفية
الزمان الذين يهونون عليه الدين كل التهوين. (مرحى) وهم القائلون: إن العلم
حجاب و: بلمحة تقع الصلحة. و: بنظرة من المرشد الكامل يصير الشقي وليًّا،
وبنفخة في وجه المريد أو تفلة في فمه تطيعه الأفعى وتحترمه العقرب التي لدغت
صاحب الغار عليه الرضوان [١] وتدخل تحت أمره قوانين الطبيعة. وهم المقررون
بأن الولاية لا ينافيها ارتكاب الكبائر كلها إلاّ الكذب، وأن الاعتقاد أولى من الانتقاد
وأن الاعتراض وجب الحرمان؛ أي: أن تحسين الظن بالفسَّاق والفجَّار أولى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك من الأقوال المهونة للدين والأعمال
التي تجعله نوعًا من اللهو الذي تستأنس به نفوس الجاهلين.
على أن الناس لو وجدوا الصوفية الحقيقيين - وأين هم؟ - لفروا منهم فرارهم
من الأسد؛ لأن ليس عند هؤلاء إلا التوسل بالأسباب العادية الشاقة لتطهير النفوس
من أمراض الإفراط في الشهوات وتصفية القلوب من شوائب الشره في حب الدنيا
وحمل الطبائع بوسائل القهر والتمرين على الاستئناس بالله وبعبادته عوضًا عن
الملاهي المضرة، وذلك طلبًا للراحة الفكرية والعيشة الهنية في الحياة الدنيا والسعادة
الأبدية في الآخرة. وأين التهوين السالف البيان لصوفية الزمان من هذه المطالب
التهذيبية الشَّاقَّة، ومن حقائق العرفان المعنوية التي لا يعرفها وتلمس بها إلاّ من
وفقه الله وكشف عن بصيرته. وذلك نحو العرفان عن يقين وإيمان أن من أعز
كلمة الله أعزه الله، ومن نصر الله نصره الله، ومن توقع الخير أو الشر جازمًا نال
ما توقع، ومن ت‍َصْفُو نفسُه يُلْهمُ رشده ومن اتكل على الله حقًّا كفاه الله ما أهمه،
ومن دعا الله مضطرًا أجاب دعاءه إلى غير ذلك من الحقائق المقتبسة من القرآن
وأسرار حكمة سيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم (مرحى) .
قال (الأستاذ الرئيس) : قد أحسن أخونا الشيخ السندي توصيفه المتفقهة
المتشددة والمتصوفة المخففة وإني ملحق تقريره بما يناسب أن يكون مقدمة تاريخية
لبحث التصوف فأقول:
قد كان التنسك في المسلمين شيمة لأكثر الصحابة والتابعين ثم إن التوسع في
الدنيا قلل عدد المتنسكين فصار لأهله حرمة مخصصة بين الناس، وصار بعض
المتفرغين يقصدون نيل هذه الحرمة بالتلبس بالتنسك وإلزام النفس بالتمرن عليه
وإذا كان من لوازم استحصال تلك الحرمة إظهار التقشف؛ اتخذوا الصوف دِثارًا
واسم الفقر شعارًا فغلب عليهم اسم الصوفية واسم الفقراء أن بعض العلماء من
هؤلاء المعتزين بالتنسك أحبوا التميز بالرياسة أيضًا فصاروا يدعون الناس إلى
التنسك ويرشدونهم إلى طرائق التمرن عليه ومن هنا جاء اسم الإرشاد واسم
الطريق.
وإذ كانت إرادة الاعتزاز بالدين إرادة حسنة؛ لأن فيها إعزازًا لكلمة الله فلا
يؤخذ بشيء على المرشدين الأولين ولا على البعض النادر من المتأخرين ولو من
أهل عهدنا هذا كالسادات السنوسية في صحراء أفريقيا.
أما دخول الفساد على التصوف وإضراره بالدين وبالمسلمين مما ذكره أخونا
الشيخ السندي وغيره من الإخوان الكرام فقد نشأ من أن بعض المرشدين من أهل
القرن الرابع لما رأوا توسع الفقهاء في الشرع وتفنن المتكلمين في العقائد فهم كذلك
اقتبسوا من فلسفة فيثاغورس وتلامذته في الإلهيات قواعد وانتزعوا من لاهوتيات
الكتابيين والوثنيين جملاً وألبسوها لباسًا إسلاميًّا فجعلوه علمًا مخصوصًا ميزوه باسم
علم التصوف أو الحقيقة أو الباطن. وهكذا بعد أن كان التصوف عملاً تعبديًّا
محضًا جعلوه فنًّا نظريًّا اعتقاديًّا بحتًا.
ثم جاء منهم في القرن الخامس وما بعده بعض غلاة دهاة رأوا مجالاً في جهل
أكثر الأمة لأن يحوزوا بينهم مقامًا كمقام النبوة بل الألوهية باسم الولاية والقطبانية
أو الغوثية وذلك بما يدّعون من القوة القدسية والتصرف في الملكوت فوسعوا فلسفة
التصوّف بأحكام تشبه الحكم بَنَوْها على زخرف التأويلات والكشف والتحكمات
والمثال والخيال والأحلام والأوهام وأَلفوا في ذلك الكتب الكثيرة والمجلدات الكبيرة
محشوة بحكايات مكذوبة وتقريرات مخترعة وقضايا وتركيبات لا مفهوم لها ألبتة
حتى ولا في مخيلة قائليها كما أن قارئيها أو سامعيها لا يتصورون لها معنًى مطلقًا
وإن كان بعضهم يتظاهر بحالة الفهم ويتلمظ بأن للقوم اصطلاحات لا تُدْرَكُ إلا
بالذوق الذي لا يعرفه إلا من شرب مشربهم.
وبعض هؤلاء الغلاة قُتِلُوا كفرًا، ومع ذلك شاعت كتبهم ومقالاتهم وحازوا
المقام الذي ادعوه بعد مماتهم؛ لأن في تعظيم شأنهم ترويج مقاصد المقتفين لآثارهم
كالإباحيين. وبعضهم لم يكن من الغلاة ولكن أخلافه إعظامًا لأنفسهم في نظر حمقى
ذلك حتى في عهدنا هذا ولا حول ولا قوة إلا بالله. (له بقية)
(المنار) لقد بالغ الرجل رحمه الله في النقد وأن للقوم في مجموعهم حسنات لم
يذكرها كما أن لهم سيئات وقد بينا ما لهم وعليهم من قبل.
((يتبع بمقال تالٍ))