للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


سخافة بشائر السلام في الجاهلية والإسلام

نشرت مجلة بشائر السلام الإنجيلية في جزئها التاسع نبذة في الجاهلية
والإسلام زعمت فيها أن الإسلام في عقائده وأعماله دون الجاهلية، وقد توسعت في
الكلام على الركن الأعظم في الإيمان وهو توحيد الله تعالى فزعمت أن الإسلام زاد
الجاهلية وثنية على وثنيتها! ! ! واحتجت على ذلك بستة أمور:
(١) كون الإيمان بمحمد محتمًا بعد الإيمان بالله تعالى فجعلت هذا شركًا بالله
وما هذا الإيمان بالوحي والرسل فإن من ينكر نبوة موسى أو عيسى كافر عند
المسلمين كمن ينكر نبوة محمد عليهم الصلاة والسلام. فيظهر أن الإيمان بالوحي
شرك ووثنية عند الكاتب الإنجيلي. وتعبيره بمقارنة الاسمين في الشهادتين لا يزيد
الشبهة قوة فإن صيغة الشهادة المروية في الصحيحين هي (أشهد أن لا اله إلا الله
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله) فهل يكون العبد ربًّا وإلهًا؟ ! وأما المقارنة في
الذكر قولاً وكتابة فهي لا تمتنع إلا إذا حرم ذكر الله تعالى ومنع بالمرة! ألا يقول
الكاتب: رحم الله فلانًا ونحو هذا؟ وقد كبرت على الكاتب كلمة توجد في بعض
كتب المسلمين وهي أن كلمتي الشهادة مكتوبتان على العرش قبل خلق السماوات
والأرض.
القول بهذه الكتابة ليس من عقائد الإسلام فمن عاش ومات ولم يسمع بها، أو
سمع ولم يصدق بأنها وردت في الحديث بالمرة فلا يعدّ هذا ولا ذاك نقضًا لإيمانه
ولا نقصًا منه. وإذا قلنا إن هذه الكتابة ثبتت وصحت فأيّ وثنية فيها والإله إله
والعبد عبد؟ نعم إن ذلك يدل على التشريف. وهل يقول الكاتب أن جميع عباد الله
سواء في معرفته وعبادته ونفع خلقه وأن تشريف بعضهم وتفضيله على الآخر
شرك بالله؟ وأن التوحيد الخالص هو أن يعتقد الإنجيلي بأن موسى كفرعون
وإبراهيم كنمرود بلا فرق؟ هذا هو فهم دعاة النصرانية في الدين، وهذا ما ينقمون
من المسلمين، والحمد لله رب العالمين.
(٢) زعم الكاتب أن المسلمين أنزلوا حديث النبي منزلة القرآن وجعلوهما
سواءً في أخذ الأحكام مع اعتقادهم بأن القرآن كلام الله والحديث كلام محمد. وزعم
أن الشيعة تركوا الحديث فأسخطوا أهل السنة. وكل من الزَّعْمَين باطل فأهل السنة
لا يقولون بأن القرآن والأحاديث سواء، والشيعة لم يرفضوا الأحاديث.
القرآن أصل الدين، والسنة مبينة له قال تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: ٤٤) ، وللقرآن خصائص ومزايا
ليست للسنة كوجوب الإيمان بجميع ما فيه وكالتعبد بتلاوته. وأما الأحاديث فلا يضر
في الإيمان إنكار أي حديث منها (ومن ثبت عنده شيء بالتواتر لا يستطيع إنكاره وإن
لم يكن حديثًا فلا يجيء الحديث المتواتر هنا) ، وهي على أقسام فيما كان منها
متعلقًا بأمور الدنيا لا يجب الأخذ به، ويجوز أن يكون خطأً كما في حديث تأبير
النخل الصحيح وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وما كان
متعلقًا بأمر الدين فإما أن يكون عن اجتهادٍ، وإما أن يكون عن وحي. أما اجتهاد
الأنبياء فقد جوّز علماء أهل السنة أن يقع فيه الخطأ ولكن لا يُقَرُّون عليه، بل يأتيهم
الوحي بيان الحق إليه كما في واقعة أسرى بدر. وأما ما يقولونه عن وحي من الله
فيجب الأخذ به، ويفرق المسلمون بين القرآن وبين الوحي الذي يعبر عنه النبي
بعبارة من عنده، ويسمى عند المسلمين خبرًا وحديثًا بما تقدم، وبأنه إذا وقع تعارض
بينهما ولم يمكن الجمع بعمل بالقرآن دون الحديث. فالحديث الصحيح في المرتبة
الثانية لا يمكن أن يساوي القرآن ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا عندما
أرسله إلى اليمن بماذا يحكم، فقال: بكتاب الله وأنه إذا لم يجد يحكم بالسنة، فأجازه
على ذلك. وهذا هو المروي عن أبي بكر وعمر وغيرهم من أئمة الدين أي: إنهم
ينظرون في القرآن أولاً فإن رأوا فيه حكم ما يطلبون قضوا به وإلا بحثوا في السنة
وعملوا بها. فلينظر المسلمون كيف يخترع المسيحيون لهم أصولاً للدين، ويبنون
عليها رميهم بالشرك المبين، فهذا هو تعصيبهم وهذا تساهلنا والحمد لله رب
العالمين.
قال: (الثالث ذكرُ اسم محمد مع اسم الله في مواضع جمة من القرآن نظير
شريك له في الأمر والنهي والحل والربط ووجوب الطاعة له والمحبة) إلخ، وقال
الكاتب إنه لا يذكر الشواهد إلا من سورة التوبة وحدها ولكنه ذكر ثلاث آيات: اثنتان
منهما من التوبة والثالثة من الأحزاب. وقد حرف الآيتين مع وضعهما بين علامات
تدل على أنه نقلهما بنصهما فكتب (إن الله بريء مما يشركون ورسوله) والله
تعالى يقول: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (التوبة: ٣) وكتب (وما
كان لمؤمن أو مؤمنة) إلخ، والله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا
قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} (الأحزاب: ٣٦) الآية. أما الجواب عن الشبهة فهو
واضح وهو أن أحكام الله تعالى إنما تؤخذ عن رسوله، فكل ما يقضي به الرسول من
أمر الدين فهو مبلغ له عن الله تعالى ويصح إسناده إليه كما يصح إسناد الحوادث
الطبيعية إلى أسبابها؛ لأن الله تعالى جعلها مرتبطة بها ولا يسمى شيء من هذا
شِركًا. وكأني بالكاتب يقول: إن دينه يحكم بشرك من يقول: (ينبغي للإنسان أن
يستحي من الله ومن الناس) ونحو هذا؛ لأنه قرن اسم الناس باسم الله في حكم
واحد.
فلينظر المسلمون إلى ثقة دعاة النصرانية في النقل وليقابلوا بين ما ذكر من
التحريف في الآيات والخطأ في العزو إلى السورة وبين ما وقع لنا مع أحد كبار
العلماء وهو أنه نبهنا إلى وجوب التنبيه على غلطة وقعت في المنار نقلاً عن
الإنجيل وهي (لم تجربونني) وقد حذف نون الوقاية من الفعل بالطبع فطبعت
(تجربوني) . وليتأمل المنصفون في نقلنا عن القوم ونقلهم عنا للتمييز بين
الصادقين والكاذبين، والتزييل بين المتساهلين والمتعصبين، والحمد لله رب
العالمين.
قال: (الرابع اتخاذ المسلمين محمدًا سيدًا لهم) ثم استنبط من هذا أن
المسلمين يعتقدون بأنهم عبيد لمحمد وقال: إن هذا هو الشرك الذي عناه. وجوابه
أن المسلمين لم يوجبوا أن يقول أحد عند ذكر النبي كلمة (سيدنا) ولم يرد الأمر
بوصفه عليه الصلاة بذلك في الكتاب ولا في السنة، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن
إضافة لفظ (سيدنا) على صيغ الصلاة الملحقة بالتشهد مكروهة، وقال بعضهم
إنها مستحبة؛ لأن هذا اللقب من ألقاب التكريم التي اعتادها الناس مع الكبراء ومع
الأقران.
وأما استدلال الكاتب على هذه السيادة التي تستتبع الشرك عنده بآية {إِنَّ اللَّهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي} (الأحزاب: ٥٦) فهو غريب؛ لأن الصلاة من الله
الرحمة، ومن غير الله الدعاء كما صرح بذلك العلماء. فلو كان كل من تطلب له
الرحمة إلهًا لنا وكل من نخاطبه بلقب السيادة إلهًا لنا؛ لكان لنا وللكاتب آلهة لا
تحصى‍‍‍! ! ! نعم إن المسلمين يعتقدون أن محمدًا أفضل بني آدم وسيدهم ولكنهم
ليسوا عبيدًا له. أما وجه تفضيله فهو ظاهر بأثره وقد كتبنا فيه وسنكتب أيضًا إن
شاء الله. فليتأمل المتأملون في تمحّل هؤلاء الدعاة المسيحيين، واستنباطهم الذي
يضحك المحزونين، والحمد لله رب العالمين.
قال: (الخامس مغالاة المسلمين في قِدمية محمد إلى أن قالوا: إنه نور كائن
قبل البشر) إلخ. ونقول إن هذه المغالاة ليست من الدين في شيء فلا توجد في
القرآن ولا في كتب السنة الصحيحة ولا في كتب العقائد، وإنما توجد في كتب
القصص والموالد التي لا اعتبار لها، والدين ينهى عن القول بغير علم. على أن
العامة الذين يروج عندهم هذا الغلو لا يختلفون في حدوث نبيهم وغيره من الأنبياء
فلا يصح أن يسمّى القائل بذلك مشركًا بوجه ما. ولينظر الناظرون مبلغ علم هؤلاء
الناس بالأديان التي يحكمون ببطلانها ويدعون أهلها إلى تركها وليدلونا على مسلم
يتكلم مثلهم بغير علم، ويعتدي عليهم في الدعوى ثم في الحكم، وحسبنا أننا من
المسلمين، والحمد الله رب العالمين.
قال: (السادس والأخير اتخاذ المسلمين محمدًا شفيعًا) ثم قال: (واتخاذ
المخلوق شفيعًا عند الله هو عين الشرك الذي كان عليه العرب في الجاهلية لا أكثر
ولا أقل) ، ثم ذكر أن اتخاذ الجاهلية شفعاء كثيرين أخف شركًا من حصر المسلمين
الشفاعة في شفيع واحد. على أن المسلمين لم يحصروا، والجواب أن الشفاعة عند
المسلمين هي الدعاء، ولذلك يقولون في الصلاة على الميت: (وقد أتيناك راغبين
إليك شُفَعَاءَ له، اللهم إن كان محسنًا فزد في إحسانه) إلخ. فكل مسلم شفيع، بل كل
مؤمن بالله يدعو الله تعالى لنفسه ولغيره والدعاء للغير يسمّى شفاعة. كأن الكاتب
الإنجيلي يقول: إن دينه يحكم بشرك كل من يذكر ميتًا كوالده أو غيره ويقول رحمه
الله تعالى. فهكذا يفعل (دين التساهل) بفتات أهله على المخالفين، وإذا أجابوهم
بالحق يدعونهم متعصبين، ولكن هذا لا يخرجنا عن تساهل المسلمين. والحمد لله
رب العالمين.
وإن تَعْجَبْ فعجبٌ قول من اتخذوا نبيّهم إلهًا: إن الذين يقولون إن نبيهم عبد
لله ولكنه أفضل عباده؛ لأنه نفع خلقه أفضل منفعة وهداهم بإذنه أكمل هداية هم
مشركون بالله لأنهم يعرفون فضل نبيهم ويسألون له رحمة الله تعالى ويطيعونه فيما
يبلغه عن الله تعالى. قال الكاتب بعد إيراد ما يقدم: (ويردّ على ذلك اتخاذنا نحن
النصارى السيد المسيح شفيعًا وحيدًا بين الله والناس على ما جاء في الإنجيل.
فأجيب إذا كنا معتقدين أن المسيح مخلوقًا (كذا واتخذناه) شفيعًا وحيدًا أو معه غيره
نكون بلا شك مشركين ولكن إذا كان المسيح بالحقيقة كلمة الله الأزلي وهو الخالق
وغير المخلوق الذي كان به كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان، فلسنا مشركين
بل نعبد إلها واحدًا تبارك اسمه) ! ! ! يعني أن الشرك هو اعتقاد أن نبيهم عبد لله
وأن شفاعته دعاء لله وأن التوحيد الخالص هو اعتقاد الناس أن نبيهم الذي ولد منذ
١٩٠٢ هو الله القديم الأزلي الخالق لكل شيء مما كان قبله وما يكون بعده. وأنه
شفيع بمعنى أنه وساطة بين الناس وبين نفسه؛ يصلبها ويلعنها لإنجائهم! ! بخ بخ
ما أحسن هذا التوحيد. هذه شبهات المسيحيين المصلحين. فلله الشكر والمنة أن
جعلنا مسلمين، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.