للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد فريد وجدي


(كيف يكون المستقبل للمسلمين)

قرأت في (المنار) الزاهر مقال سماحة السيد البكري فأيقظ في نفسي آمالاً
كبارًا، وهاج من قلبي مرامي بعادًا، ورأيته يتفق معي في الغاية، ويلاقي قلمه
قلمي في النهاية، إلا أنه سار إليها مِن طرق المعارف التشريحية، وانتحى إليها
وجهة علم الظواهر الجوية، وناط ذلك المستقبل بالفواعل الطبيعية، والأحوال
الوسطية مِن كثرة السكان وخصوبة المكان وعدم إمكان الإنسان المعيشة في كل
مكان، وهي قضايا يتناولها النقد، ويمكن فيها الأخذ والرد والإقبال والصد، إن
رضيها (جوستاف لوبون) رفضها (لينيه) و (كاترفاج) و (داروين)
و (وروسل ولاس) و (هكسلي) و (لامارك) و (كوفييه) و (بوفون)
وغيرهم من إخوانه الفسيلوجيين، على أن تعليق حياة الإسلام على مؤثرات الوسط
وعوامل المكان لا يناسب مجده وعلو شأنه، وأهميته أكبر مِن أن تدفع الكاتب إلى
تحري أفكار الأفراد لتسكين الخواطر على نجاة بلدانه، وسلامة أوطانه، فإن كان
الإسلام له المستقبل الباهر والآتي الزاهر، فليس ذلك إلا لكونه الحق الصميم،
والنور الصريح، والكلمة العليا، والمحجة البيضاء، أنشودة الإنسان وضالة العرفان
ونظام العلم والدين؛ وسلك الفلسفة الحسية واليقين، إن كان ينشره الصوفية اليوم بين
الشعوب الشرقية المنحطة في درجات المدنية والعلوم الكونية، فسينشره غدًا
لَهَامِيم الفلسفة الحسية، ويَآفِيخ المعارف الطبيعية، ليس لكونه كما اعتدنا أن نقول
دينًا جمع بين المصالح الروحية والجسدية ويربط بين الأمور الدنيوية والأخروية
فقط، هذه بعض مزايا الإسلام تابع بسيط لتعاليم نسردها سردًا لبعض العقول البسيطة
التي لا تدرك غيرها، ولا تتمسك بالدين إلا مِن أجلها؛ أما غدًا وليس ببعيد يوم
تجيء دولة الروح ويخرج الإنسان مِن قهر المادة العمياء وسلطة الطين الأصم
وينتهي دور الزخارف الحيوانية، وتزول سلطنة البطن والأميال البهيمية، وينقلب
شأن الإنسان مِن حال مادي إلى حال روحاني كما انقلب مِن حال فطري إلى حال
فكري عقلي؛ فتشرق الروح في عالمها وتزعج الإنسان إلى أداء مطالبها، وتصيح
به لأنْ يَعرُجَ بها إلى محتدها، ويصعد معها إلى أوجها، كما كانت تزعجه المادة
إلى القيام برغائبها، وتميل به إلى عالمها، وتطالبه بالركون إلى طينها، ذلك اليوم
تطلب الروح بابًا لعروجها، وترتاد طريقًا لصعودها، تلتفت إلى جثمانها فتراه عبئًا
ثقيلاً ومانعًا كثيفًا، وأنّى له اختراق طبقات اللطافة الملكوتية بها؟ وكيف له السبح
في العوالم النوارنية معها؟ هنالك يكون التنازع بين الروح والجسد لا كما هو الآن
تنازع بين مطالب غذائية. وزخارف مادية، وأغذية دهنية وشحمية وألبسة قطنية
أو حريرية، بل تنازع في كيفية اعتمادهما معًا على السبح في سبحات النور
الأقدس، والجري يدًا بيد في باحات الكمال الأقدم.
هنالك سيدور الإنسان على نفسه دورة أخرى على محور لا يتخيله الآن إلا
كبار الأفئدة كبار العقول، هنالك سيكون الإسلام قائد تلك الحركة وسلطان تلك
الدولة والداعي إلى الكمال بلسان العدالة المطلقة والمؤاسي بمراهمهه الشافية القلوب
اليائسة، هنالك سيحوم الناس حول الإسلام كما يحول الفراش حول النور يطلبون
نجاة أرواحهم وأجسادهم معًا لا أرواحهم فقط. هذه حقائق لا خيالات إلا أن تجليها
للأذهان يحتاج إلى كلام كثير بل سَفَرٍ كبير.
فمستقبل الإسلام فيما أعلم وأرى مِن هذا الباب دون غيره وهو أليق بعلو شأنه
وأنسب لرفعة مكانه وأولى به دينًا إلهيًّا ووحيًا عُلويًّا؛ ولكن متى نصل إليه، وأيّ
نوع من أنواع الوسائل نُعوِّلُ عليه؟ هذه جهة الخلاف بيني وبين سماحة السيد.
يرى أنّ أَنْجَعَ الوسائلِ لذلك فتحُ المدارس وترتيبها؛ وترجمة الكتب العلمية ونشرها،
ومشاطرة الأجانب في لغاتهم والتعمق فيها؟ ويرجو لذلك أن تعقد جمعيات وتشكل
هيئات، وتنضم أصوات وتتحد وجهات وتتفانى هِمم أبيّة، وتتكاتف عزائم إسلامية،
وتبذل أنْفس عزيزة وأرواح، وتباع في سبيل الوحدة بيع السماح، وكلها مطالب
سامية ورغائب عالية، ولكن هل تتحقق؟ لِنُجِلْ في إمكانها نظرًا ونعمل في
احتمالها فكرًا، فإن لاح لنا برق أمل ضممنا صوتنا إلى صوته وإلا أبدينا فيها
رأينا، وعززناه بأسلوبنا.
حكم السيد بأن لا وطن للإسلام ولا جنسية، وأن رابطتنا الوحيدة هي جامعة
العقيدة وآصرة الإيمان ووشيجة اليقين، فلينظر هل تلك الرابطة اليوم صالحة لأن
تضم أجزاءنا وتلمّ شعثنا وتوجّه عواطفنا إلى تيار واحد لنحقق بذلك آمالاً
عظامًا، ونرأب بها مِن جسم هيئتنا صدوعًا جسامًا؟ يضربُ لنا السيد مثلاً
بالجمعيات الأجنبية التي تألّفت للوحدة الإيطالية؛ والجامعة السلافية، والجنسية
السكسونية، وعاج مِن ذلك على ذِكر الثورات الأرمنية والمقدونية والكريدية، ثم
قال إنها: (تعمل أعمال الجبابرة في الخلاص مِن حضيضِ الأسر، إلى أوج النسر،
والأمة الإسلامية التي ملأت المشرقين والمغربين تنتفض انتفاض الطائر في شباك
الصائد، ولا تعمل للنجاة عملاً، وكيف ترجو الوصول إلى الغاية وهي لا تنقل إليه
قدمًا، ولا تحرك شفة ولا قلمًا، ومَن طَلَبَ شيئًا وَجَدَهُ، ومَن تَرَكَهُ فقده) ثم أَرْدَفَ
ذلك لقوله: (ولا يعتذر الجبان المفقود القلب بأنّ عَقْدَ هذه الجمعيات مما يتعذّر
حصوله في البلاد الإسلامية الآن؛ إذ أي جمعية أنشئت قبل هذه فلم تقابل بالكفران
وتُحط بالنيران، لكنها العزيمة التي ترى أن الموت في حياة الأمة خيرًا من الحياة
في موتها وأن لا محيص من الصَدْرِ أو القبر) .
نقول ولسنا بجُبَناء ولا مفقودي القلب ولا يائسين ولا مفتونين: لقد سلك
السيد في مقاله مسلك الكاتب الحماسي، ولكنه لم يَسِرْ سَيْرَ العالم ولا الفيلسوف
العمراني. ولو كان قبل أن كتب مقالته تدبّر في ألوف المقالات التي كتبت قبل
مقالته بعشرين سنة وكان فيها مِن ضُرُوب الحَضِّ والحَثِّ والتحميس ما لا يمكن
المزيد عليه، ومع ذلك لم تنتج أثرًا، ولم تحقق لكاتبها ولا لخلافه أملاً، لكان رجع
إلى نفسه وعلم أن المانع للأمة مِن سماع تلك الصيحات، والإصاخة لتلك الهيعات
أمر جَلَلٌ وخطب كبير. ولتراءت له أدواء يجب فحصها وعلل لا ينجع دعاء
بوجودها.
قررت العلوم النفسية، وحكمت المشاهدات الوجودية أن الإنسان لا يعمل
عملاً بل ولا يتحرك حركة إلا وهو معتقد صلاحية ما يعمله أو يتحرك مِن أجله
ومتيقن مِن الوصول إلى غايته فهل لدى فُضلائنا الذين يُطلب منهم تأليف تلك
الجمعيات مِن العقيدة الراسخة واليقين الثابت ونحن في القرن العشرين ما يحملهم
على تشكيل الجمعيات وبذل نفوسهم ونفائسهم دفاعًا عن حقيقتهم وقراعًا دون
حريمها؟
أنا أول مَن يقول بأنّ المستقبل للإسلام وكُتبي ومُؤلفاتي تشهدُ لي بذلك؛ ولكني
لا أحب أنْ أجعلَ للخيال سلطانًا على قلمي، ولا للحماسة التي تنطفئ بمجرد الكتابة
نفوذًا على إحساسي؛ بل أعلم أني عائش في عصب الفلسفة الحسية والمدنية
المادية، والمعارف الطبيعية. وصَرَفْتُ زمنًا ليس بالصغير في فَحْصِ وَسَطِي الذي
أعيشُ فيه وأمّتي التي أنا بين ظهرانيها، ورأيت بالحسّ أننا إن لم نسع لمداواة عللنا
من أصولها تُهنا في تطبيبها، وضللنا في علاجها وذهبت كل صيحاتنا أدراج الرياح
كما ذهبت خاصتنا لأداء وظيفتها الصحيحة فوهن العقيدة وضعف الإيمان، وما دامت
على هذه الصفة فلا يرجى منها اجتماع على أمر ألبتة.
مجرد اعتقاد أن الإسلام دين يدعو إلى الفضائل ويحضّ على الأخذ بالماديات
والمعنويات معًا، وأنه آخذ في الانتشار بين القبائل الشرقية، أو أنه مَهِيبُ الجانب
في بعض البلاد الأجنبية، وكما اعتاد كثير من خاصتنا التفكه به في المجالس
إظهارًا لِغَيْرَتِهم على الإسلام وتحمّسًا لكثرة براهينه لا يفيدُهم في اليقين شيئًا؛ لأن
كلهم تقريبًا ممّن تعلّموا اللغات الأجنبيّة، ودرسوا العلوم الطبيعية، والمعارف
التشريعية، ووقفوا على تعاليم (داروين) و (جوستاف لوبون) الذي استَشهد به
السيد وعرفوا منهما ومن أمثالهما أنّ أصل الإنسان قِرْدٌ وأنه لا آدم ولا حواء ولا
كتابًا سماويًّا ولا روح ولا نفس ولا حَشْر ولا نشر ومَن يرد أن نعطيه صورة
موجزة مِن فلسفة هذه المدنية التي يقرأها خاصتُنا مِن عَرفة اللغات الأجنبية
ويعتقدون حقيتَها فإليه غير مضنون عليه.
يقولون: يا معشر المتدينين، إنكم لو جرّدتم نفوسكم عن الهوى، ووجّهتم
وجوهكم شَطْرَ الهدى، لرأيتم أنه ليس دينكم إلا أثرًا مِن آثار الماضين، وبقية من
بقايا أوهام السالفين، ليس لها مِن القِيمةِ والقَدْرِ إلا كما لسائرِ آثارهم الأخرى مِن
العلوم الطبيعية، والصناعات اليدوية، فقد حكم العلم - معاذ الله - بأن نواميس
الكون كافية في تعليل ظواهره، وقوانينه قد فسّرت أكثر غوامضه، فلا داعي
لفرض وجود قوىً وراء الطبيعة، ولا موجب لتوهُّمِ عالم علوي بعد هذه المرئيات
المحسوسة، أما الوجود فقديم إن لم يكن بصورته فبمادته الأولى. وأما القوى التي
تصرفه فلا استقلال لها في ذاتها بل هي صفة لهيولاه الأصلية فلا مادة بلا قوة ولا
قوة بلا مادة بل المادة في نفسها مَظْهر مِن مظاهر القوّة المتحركة في الأثير مِن
الأزل.
أما الإنسان وما نسبتموه إليه مِن نفس مستقلّة عن الجسد وما منحتموها مِن
مزية الخلود بعد فنائه، وتبعثر ذراته فما تبطله الشواهد العلمية، وتحيله البدائية
التشريحية، فقد قرّر العلم - معاذ الله - أنه لا فرق بينه وبين غيره مِن الكائنات
السفلية ولا ميزة له على سواه مِن الأنواع الحيوانية، بل ليس هو في ذاته إلا حيوانًا
فاق في قوة التعقل والإدراك غيرَه مِن أبناء نوعه، على أن أبناء نوعه - الحيوانات-
غير محرومة مِن قِسْطٍ مناسب مِن التعقّل والإدراك. وإذا أردت الدليل فدونك كتب
حياة الحيوان ترى مِن آثار الفِكْرِ ونتائج التعقّل ما يدلّك تمام الدلالة على أنّ العقل ليس
بوقف على الإنسان ولا هو وصفه المميز، فإذا نسبت للإنسان روحًا مستقلة عن
الجسد ومنحتها مزية الخلود والبقاء اعتمادًا على القوة العقلية فلِمَ لا تحكم هذا الحكم
نفسه بالنسبة إلى الحيوانات أيضًا؟ أليس هذه من آثار المعلومات السابقة النافعة
حينما كان الناس لا يميزون بين ما يؤيده الحس والعيان. وبين ما هو من قبيل
الخيالات التي تنشأ في الوجدان بلا روية ولا إمعان؟ أما الفضائل التي تقرعون
الآذان بها، وتضربون وجوه مناظريكم بسلاحها مُدّعين أنكم قادتها وزعماؤها،
وأنّ لكم حق السيطرة على الناس بها، فليست في الحقيقة تبعًا لتعليم من التعاليم
القديمة لكتب خاصة يقوم بها رجال ذوو صفات خاصة؛ بل هي تابعة لنواميس
طبيعية تظهر في الأمم الحية ظهور سائر آثار النواميس الأخرى فلا علاقة لها
بدين ألبتة.
ألا ترون أنّ كثيرًا مِن المتدينين بُعداء عن الفضيلة، مغمورين في غمرات
الرذيلة، ودونك الإحصائيات المدققة التي يعتني بجمعها علماء الإنسان؛ ترى أن
أكثر أصحاب الجرائم من المتدينين المتشددين في الدين، وإليك كتب علماء الجرائم
مثل (لومبروزو) و (فريرو) و (سيرجي) ترى العجب العجاب، بل انظر
بعينيك إلى الأمم التى تزعم أن لها ارتباطًا بالدين وغيرة على اليقين، ألا تراها في
حالة مِن الإجرام والتسفّل تفضل عليها معها الأمم التي تركت الأديان، وجعلتها
خبرًا لكان، والتفتت للمدنية والعلوم الطبيعية، فأصلحت شئونها ودبرت أمورها،
فقامت على قطب الاستقامة والاستقلال، ونحت منحى الكرامة والجلال، فكشفت لها
المدنية عن وجهها الباسم، وتجلّت لها الحضارة في شكلها الفاتن، فسيطرت على
الأمم الأخرى بعلومها وصنائعها، وقهرتهم بقوتها وسطوتها، كما صارت بالنسبة
إليهم عَلَمًا في فضائلها وآدابها؟ إذا كان لا فضيلة بغير الدين وأنها لا تخرج
عما حددتم لها مِن القيود في كتبكم، فما سبب هذه الآثار المدهشة للعقول المضللة
للمدارك؟ إذا كان الإنسان كما تقولون خلق مستقلاً بذاته مِن طبيعة علوية، وأنه
مستعد لأنْ يسمو بروحه أسمى منصّة للحياة الملكيّة، فماذا هبطتم وعلا عليكم أولئك
الذين يزعمون أنّ الإنسان مِن سلالة القردة، وأن بينه وبين الحيوانات أواصر من
القربى ووشائج مِن الرّحم؟ إذا كانت الفضيلة كما تقولون لا تثبت للإنسان بغير
دين ولا تطبع بضميره إلا بطابعه، فلماذا حرمتم من أصغر أنواعها
وسبقكم في باحتها من يقول: إن الفضيلة صفة من صفات الحياة الإنسانية والرذيلة
كذلك تنشأ الأولى عندما تكون شئون تلك الحياة جارية على سمت منتظم ملائمة
لقوانين الخلقة وتبرز الثانية في ضد تلك الحالة.
أمّا ما تزعمون مِن أن لا قوام للأمم بغير الدين، ولا نظام لهم سوى حبله
المتين، فمما لا نحتاج معكم فيه إلى كبير جدال، ولا كثير قيل وقال، فدونكم الأمم
الغربية الكبرى قد بنت عظمتها بملاشاته وأقامت وحدتها بمنابذة أشياعه، ومع ذلك
نرى لها كل يوم في سجل المعالي أثرًا جديدًا، وفي حدائق الفخار والمجد صرحًا
مشيدًا، فإن كان الحال كما تزعمون فما هذا الأثر المنعكس؟ وما تفسير هذا الأمر
الملتبس؟ أليست كل هذه البراهين المحسوسة دالّةً على أنكم متمسكون بأقوال لا
يقوم عليها مِن عالم الشهود شاهد، ولا ينهضَ لها من وقائع الحوادث مدافع، لا
جَرَمَ أنكم تتأخرون ونتقدم، وتخضعون ونتحكّم، ولا غَرْوَ أنْ عَلونا وسَفلتم،
وتعزّزنا وذللتم، كما لا عجب أن استخدمنا نواميس الكون وأسرتكم، واستغللنا
خيرات الطبيعة وحرمتم.
كل هذه الشبه المتعاصية قد نشأت في وسط العلم الأوروبي ونبع سمها من
بين ذرات دسم هذه المدنية العجيبة، فالتاثت بأكثر العقول أقذارها، وتسممت الفطر
بسمومها، وقد سَرَتْ هذه السموم إلى شبيبتنا الإسلامية التي نهلت مِن العلوم
الأجنبية فخلعتها عن مجموعها، وذهبت بها مذهبًا لا تجعلها مع هؤلاء ولا هؤلاء.
وكفى أمة عجزًا وضعفًا وقصورًا وتأخرًا أنْ لا يكون لشببتها وجهة تسير عليها،
ولا غاية تعتقدها وتتوق إليها، وتدأب للحصول عليها، حلت هذه الشكوك والشبه
من قادة النشأة وزعماء التقدم في البلاد الأجنبية محلاًّ علميًّا، وجعلتهم ينبذون
معتقداتهم ظهريًّا، ولكن قام مقامها لديهم موقتًا غيرة قومية، وحمية جنسية أو لغوية،
لمت شعثهم وضمت أجزاءهم حينًا ظنوا فيه إمكان قيامهم بدون الدين بل خالوا أن
مصدر رفعهم ومنبع نظامهم والتئامهم، ومنشأ ألفتهم ووئامهم، هدم تعاليمه وتذريتها
في الهواء مع الهباء، ثم لما استقاموا على هذه المفازة الخطرة حينًا من الزمن
ورأى قادتهم ورؤساء معارفهم أن هذه خطة عوجاء، وسراب ليس وراءه ماء،
وأن بالإدمان على متابعة السير في خطتهم هذه الهلاك المستأصل والجائحة الكبرى
التي تطفئ نور مدنيتهم، وتهدم صروح عظمتهم، وساعد هذا الأثر في نفوسهم
الإحساس بالفراغ الذي ألم بصميم معناهم الإنساني وجوهرهم البشري من جراء فَقْدِ
العقيدة التى هى لازم لوازم هذه النفس الناطقة تعطشت قلوبهم إلى الدين الصحيح
وحنت فطرهم إليه حنين البائس ينتظر فرجه، ويتنسم مِن شطر الخلاص نسمة.
ولكن أين الدين؟ كانت الفلسفة الحسية فلسفة (أجوست كونت) وأشياعه القائلين
بأن المعقول إذا لم يؤيده شاهد مِن الحس جاز أن يكون ضلالاً -آخذًا مِن الأفكار
مكانة لا يمكن قلعه منها، وما دامت أسس الدين مِن عقيدة وجود الروح وخلودها في
دار بعد هذه الدار مما لا يمكن الاستدلال عليها بمحسوس جاز أن تكون وهمًا لا
حقيقة له في الواقع. فهي على حسب أسلوب هذا المذهب الكثير الأشياع من قبيل
ما لا يمكن إثباته، وما لا بد مِن عدم الخوض فيه، وما معنى دين بدون روح
وخلود وآخرة فيها نعيم مقيم أو شقاء مستديم؟
كيف الوصول إلى الاعتقاد بدين مهما كانت تعاليمه في عصرٍ هذه فلسفة بنيه
وتلك مبادئها؟ ولكنّ الله سبحانه أكرم من أن يُخيب سائلاً وأرحم مِن أن يطرد طارقًا؛
فأرسل عليهم مِن جهة فلسفتهم هذه آياتٍ تأخذُ بالأعناق خضوعًا، وبالأبصار
والبصائر دهشة وخشوعًا، فنشأت أبحاث سموها (أبنوتزم) و (مانيتزم)
التنويم المغناطيسي و (إسبرتزم) استحضار الأرواح، وغير ذلك استدل منها
عِليتُهم على أن للإنسان روحًا وخلودًا فأنشأوا مئاتِ المجلات والمجامع، وعقدوا لها
المؤتمرات والمحافل، وألفوا فيها الكتب والرسائل، وبلغ عددهم مِن العلماء
الأعلام، وقادة المعارف العظام والمحامين البارعين والكتاب المتفننين، ما يزيد
عن عشرين مليونًا - كما سنوضحه بعد إن شاء الله -. فهم على هذا لم يقعوا حتى
نهضوا ولم يضلوا حتى أوشكوا يهتدون. ولكن شبيبتنا التي جرّعت مِن حوض
علومهم، وشحنت في أذهانها صور معارفهم لم يشاءوا أن يوسعوا دائرة معارفهم،
وكأنهم لم يعلموا أن ما يدرس في المدارس مِن العلوم الطبيعية والرياضية ليس إلا
قطرة مِن بحرٍ لا تنقع صدًى ولا تروي غلة؛ بل كأنهم يعتقدون أن العلم واقف حيث
هو مِن عهد (لفوازيير) و (توسيلي) و (ماريوط) و (قولطا) وأن باب الرحمة
الإلهية أغلق في وجه بني آدم - معاذ الله - فلا مَرْمى بعد مرماهم ولا مذهب بعد
مذهبهم، ثم نسوا ما تعلموه أيضًا ولم تحفظ ذاكرتهم منه إلا شكلاً مشوّهًا مِن
استنتاجات عرجاء ليس لها أصل ترتكن إليه ولا أساس تعتمد عليه، فهم على مذهب
(أجوست كونت) و (داروين) بدون أن يكلفوا أنفسهم معرفة ماهية مذهبهما ولا
أصول نظرياتهما، وكأنهم كفاهم في أن يكونوا (أوجوستيين) و (داروينيين) أن
يروا في بعض المجلات نبأ مِن فلسفتهما لم يرد على أسلوب صحيح ولا سَلَكَ فيه
كاتبُه مسلك الاستقراء والتحليل.
ثم إنهم على فرض تعمقهم في فلسفة علماء هذا العصر وتغلغلهم في مناحيها
تدقيقًا وتمحيصًا لم يكلفوا أنفسهم النظر في ماهية الإسلام وأصوله ليروا إن كانت
مبانيه مما تهدمها هذه الأبحاث أو هي بالعكس تقوّيها وتؤيدُها.
أقول هذا ولا أنكر أن لدينا أفرادًا من رجال هذه النشأة صاروا لهامة علوم
العصر تاجًا وفي ذروة العلا الإسلامي عَلَمًا. ولكنهم - وياللأسف - قليلو العدد
مبعثرون في الجهات مشغولون بالوظائف يتألمون لهذه الحالة مثل ما نتألم ويرون
أدواءنا مثل ما نرى.
هذه صورة مصغرة من الشّبه والشكوك التي جرفتها إلينا مدينة أوربا،
وألصقتها بأذهان كثير مِن رجال نشأتنا التي اتسقت منها معلوماتها، وأخذت عنها
لغاتها، فهل بعد هذا يطوف بفكر عمرانيّ باحث أو تحليليّ مدقق أنه يمكن جمع
جمعية عصبيتها الدين وجامعتها العقيدة وسلاحها اليقين ويكون مِن أثرهم تشييد
معالي الإسلام وإرجاع مجده إليه ولو ببذل الأرواح، وبيع المهج بيع السماح؟ اللهم
لا. إذن فلنختر أحد أمرين: إما أن نقلب شكل هيئتنا الاجتماعية من شكلها الحالي
إلى شكل آخر، وروابطها الوطنية أو الجنسية أو أي أمر غيرهما، وهيهات أن يتم
لنا ذلك في ألفي سنة. وإما أن نتعهد رابطتنا الأصلية وهو الدين ونجليه لتلك الأذهان
في شكل يُذهب شكوكهم وشبههم، ويُرجع إلى تلك الفطر الإسلامية التائهة نورها
الصافي؛ حتى تدور على نفس القطب الذي كانت تدور عليه تلك الأرواح الطاهرة
والنفوس الكريمة روح سيد ولد آدم وأصحابه الذين كانوا حجة الحق الدامغة،
وأنوار الفضائل الساطعة، وخلفاء الله في أرضه وجيرانه في عالم قدسه، صلِّ اللهم
عليه وعليهم وتابعيهم آمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد فريد وجدي
(المنار) : ما دخل هذا القرن الميلادي إلا وكان شغل طائفة من كبار كتاب
أوربا البحث عن مستقبل الإسلام فيه فكتبوا في ذلك المقالات الطويلة كلٌّ يظهر
رأيه، فمنهم مَن بَشّر ومنهم مَن أنذر. وقد كنّا شَرَعْنا مِن عدة أشهر بكتابه مقالة
في ذلك عنوانها (مصير الأنام، ومستقبل الإسلام) ولكن شغلتنا عنها مقالات
(الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) ثم مقالة السيد البكري في الموضوع ثم
هذه المقالة. السيد البكري أحسن في بيان الأغراض التي رمى إليها ونتائجه
صحيحة وإن كان بعض البحث في المقدمات لا يسلم مِنَ النقد كما قال صاحب هذه
المقالة؛ ولكن لم يكن للتخيلات في كلامه ذلك السلطان الذي نُسب إليه؛ بل التخيلات
الخطابية والشعرية في هذه المقالة أكثر ولا بأس بذلك إذا أريد به التأثر فيما يحمد
وإنما يذم إذا كان خلابة وخداعًا.
وأما قوله: إن الجامعة الإسلامية لا ترجي لما رجاه السيد منها، وإن عقلاء
المسلمين الذين طالبهم السيد بالعمل لا يمكن أن يعملوا، أو استدلاله بعدم تأثير المقالات
الطويلة التي كتبت منذ عشر من السنين - فهو غير سديد فإن كل ما كتب بحق
وإخلاص قد أثّر حتّى أحدث حركة عظيمة في العالم الإسلامي وإنّ عقلاء المسلمين
يشتغلون الآن بما طالبهم به السيد، وإنما مطالبته لزيادة البيان والتنشيط والكمال
وإنما لم يظهر أثر كبير لسعيهم لضعف الاستعداد {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: ٣٨)
وفي هذه المقالة موافقة على هذا فإن الكاتب طالب المسلمين في آخرها بأحد أمرين
وهم قائمون بالثاني منهما، وهو السديد {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: ٨٨) .
التنويم واستحضار الأرواح لم يزل أمرهما مُبهمًا، ومستقبل أثرها مجهولاً
وتعليق مستقبل الإسلام عليهما لا يحث المسلمين على عمل، ولا يحيي في نفوسهم
ميّت الأمل، نعم؛ إننا نرجو من كل ما يكشفه العلم مِن أسرار الخليقة تأييدًا للإسلام
سواء كان السر روحانيًّا أو ماديًّا والقول الذي لا ريب فيه هو أن المستقبل للإسلام؛
لأنه دين الفطرة والاجتماع المرشد إلى مصالح الروح والجسد والهادي إلى الوفاق
بين وظائف العقل ووظائف القلب. فلا بد أن يكون الإسلامُ هو الحاكم الأعلى في
المدنية العليا عندما تكمل هي ويظهر هو خاليًا مِنَ التقاليد التي أضيفت إليه كما قلناه
مِرارًا. وسنزيدهُ بيانًا. أما ما كَرِهَ الكاتبُ مِن شبهاتِ أوربا على الدين فهو لا يمس
الإسلام؛ لأن عقائده مؤيَّدة بالعقل، وسيرة المسلمين أطهر سير البشر عندما كانوا
على الإسلام السليم مِن البدع، وعلى كل حال نشكر للكاتب الأول وللكاتب الثاني
إعمال قلميهما في هذا الموضوع الشريف وكل منهما أحسن في الوجه الذي كتب فيه
لا تنافي بينهما ولا تناقض في الحقيقة وكلّ ما كتبا لا يمنعنا مِن نشر ما كنا شَرَعْنا فيه
ولكنّه كفانا مؤنة التطويل {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب:٤) .