للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاجتماع الثامن لجمعية أم القرى

في مكة المكرمة يوم الخميس الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة ١٣١٦.
في صباح ذلك اليوم انتظمت الجمعية وقرأ البليغ الإسكندري ضبط اليوم السابق علي العادة المألوفة وأذن الأستاذ الرئيس للسيد الفراتي بإتمام بحثه.
فقال (السيد الفراتي) : إنَّ من أعظم أسباب الفتور في المسلمين غرارتهم
أي عدم معرفتهم كيف يحصل انتظام المعيشة؛ لأنه ليس فيهم مَن يُرشِدُهم إلى شيء
من ذلك بخلاف الأمم الأخرى فإنَّ من وظائف خدمة الأديان عندهم رفع الغرارة أي
الإرشاد إلى الحكمة في شئون الحياة، وأما الأقوام الذين ليس عندهم خدمة دين أو
الشراذم الذين لا ينتمون لخدمة دينهم فمستغنون عن ذلك بوسائل أخرى من نحو
التربية المدرسية والأخذ من كتب الأخلاق وكتب تدبير المنزل ومفصلات فن
الاقتصاد والتواريخ المتقنة والرومانات الأخلاقية والتمثيلية أي الحكايات الوضعية
نحو ذلك مما هو مفقود بالكلية عند غير بعض خاصة المسلمين.
على أن الخاصة السالمين من الغرارة علمًا لا يقوون غالبًا على العمل بما
يعلمون لأسباب شتى منها بل أعظمها جهالة النساء المفسدة للنشأة الأولى وقت
الطفولية والصبوة ومنها عدم التمرن والألفة [١] ومنها عدم مساعدة الظروف المحيطة
بهم للاستمرار علي نظام مخصوص في معيشتهم.
ثم قال: ولا أرى لزومًا للاستدلال على استيلاء الغرارة علينا؛ لأنها مدركة
مسلمة عند الكافة وهي ما ينطوي تحت أجوبتنا عند التساؤل عن هذه الحال بقولنا:
إن المسلم مصاب، وإن الله إذا أحب عبدًا ابتلاه، وإن أكثر أهل الجنة البُلْهُ،
وحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، وإن غيرنا مستدرجون، وإنهم كلاب الدنيا،
وإنهم يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، وإنهم في غفلة عن الموت وغفلة عن أنّ
الدنيا شاخَتْ.
ثم قال فمن (الغرارة) في طبقاتنا كافة من الملوك إلى الصعاليك أننا لا نرى
ضرورة للإتقان في الأمور، وقاعدتنا أن بعض الشيء يغني عن كله، والحق أن
الإتقان ضروري للنجاح في أي أمر كان بحيث إذا لم يكن مستطاعًا في أمر يلزم
ويتحتم ترك ذلك الأمر كليًّا والتحول عنه إلى غيره من المستطاع فيه إيفاء حق
الاتقان.
(ومن الغرارة) توهمنا أن شئون الحياة سهلة بسيطة فتظن أن العلم بالشيء
إجمالاً ونظريًّا بدون تمرن عليه يكفي للعمل به فيقدم أحدنا مثلاً على الإمارة بمجرد
نظره في نفسه أنه عاقل مدبر قبل أن يعرف ما هي الإدارة علمًا ويتمرن عليها
عملاً ويكتسب فيها شهرة تعينه على القيام بها.
ويقدم الآخر منا على الاحتراف مثلاً ببيع الماء للشرب بمجرد ظنه أن هذه
الحرفة عبارة عن حمله قِرْبة وقدحًا وتعرضه للناس في مجتمعاتهم ولا يرى لزومًا
لتلقي وسائل إتقان ذلك عمن يرشده مثلاً إلى ضرورة النظافة له في قربته وقدحه
وظواهر هيئته ولباسه وكيف يحفظ برودة مائه وكيف يستبرقه (كذا) ويوهم
بصفائه ليشهي به، ومتى يغلب العطش ليقصد المجتمعات ويتحرى منها الخلية له
عن المزاحمين، وكيف يتزلف للناس ويوهم بلسان حاله أنه محترف بالإسقاء كفًّا
لنفسه عن السؤال إلى نحو هذا من دقائق إتقان الصنعة المتوقف عليها نجاحه فيها
وإن كانت صنعته بسيطة حقيرة.
ومن الغرارة ظننا أن الكياسة في (أدْرِي وأقدرُ) جوابًا للنفس في مقاصد
كثيرة شتى، والحقيقة أن الكياسة لا تتحقق في الإنسان إلا في فن واحد فقط يتولع
فيه فيتقنه حق الإتقان كما قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (الأحزاب: ٤) فالعاقل من يتخصص بعمل واحد ثم يجاوب نفسه عن كل شيء
غيره: لا أدري ولا أقدر؛ لأن الأول يتكلف أعمالاً لا يحسنها فتفسد عليه كلها،
والثاني يتحرى لكل عمل لازمه من يحسنه فتنتظم أموره ويهنأ عيشه.
فالملك مثلاً وظيفته النظارة العامة وانتخاب وزير يثق بأخلاقه ويعتمد على
خبرته في انتخاب بقية الوزراء والسيطرة عليهم في الكليات، فالملك مهما كان
عاقلاً حكيمًا لا يقدر على إتقان أكثر من وظيفته المذكورة، فالملك إذا تغرر وتنزل
للتداخل في أمور السياسة أو الإدارة الملكية أو الأمور الحربية أو القضاء فلا شك
أنه يكون كربّ بيت يُداخل طبّاخه في مهنته، ويشارك بستانيه في صنعته؛ فيفسد
طعامه ويبور بستانه فيشتكي ولا يدري أن آفته من نفسه.
ومن (الغرارة) اللوث في الأمور أي تركها بلا ترتيب، والحكمة قاضية
على كل إنسان ولو كان زاهدًا منفردًا في كهف جبل فضلاً عن سائس رعية أو
صاحب عائلة أن يتخذ له ترتيبًا في شئونه وذلك بأن يرتب:
(أولاً) أوقاته حسب أشغاله ويرتب أشغاله حسب أوقاته والشغل الذي لا
يجد له وقتًا كافيًا يهمله بالكلية أو يفوضه لمن يفي حق القيام به عنه.
(ثانيًا) يرتب نفقاته على نسبة المضمون من كسبه، فإن ضاق دخله عن
المبرم من خرجه يغير طرز معيشته ولو بالتحول مثلاً من بلده الغالية الأسعار أو
التي مظهره فيها يمنعه من الاقتصاد إلى حيث يمكنه ترتيبها على نسبة كسبه.
(ثالثًا) يرتب تقليل غائلة عائلته عند أول فرصة ملاحظًا إراحة نفسه من
الكد في دور العجز من حياته فيربي أولاده ذكورًا أو إناثًا على صورة أن كلا منهم
متى بلغ أشده يمكنه أن يستغني عنه بنفسه معتمدًا على كسبه الذاتي ولو في غير
وطنه.
(رابعاً) يرتب أموره الأدبية على نسبة حالته المادية، أعني يرتب أموره
الدينية ولذاته الفكرية وشهواته الجسمية ترتيبًا حسنًا فلا يحمل نفسه منها ما لا تطيق
الاستمرار عليه.
(خامسًا) يرتب ميله الطبيعي للمجد والتعالي على حسب استعدادة الحقيقي
فلا يترك نفسه تتطاول إلى مقامات ليس من شأن قوته المادية أن يبلغها إلا بمحض
الحظ أي المصادفة، وخلاصة البحث أن الغرارة من أقوى أسباب الفتور الشخصي
ليس من عقيمات الأمور.
ثم قال إن لانحلال أخلاقنا سببًا مهمًا آخر أيضًا يتعلق بالنساء وهو تركهن
جاهلات على خلاف ما كان عليه أسلافنا حيث كان يوجد في نسائنا كأم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها التي أخذنا عنها نصف علوم ديننا وكمئات من الصحابيات
والتابعيات راويات الحديث والمتفقهات فضلاً عن ألوف من العالمات والشاعرات -
اللاتي في وجودهن في العهد الأول بدون إنكار- حجة دامغة ترغم أنف الذين
يزمعون أن جهل النساء أحفظ لعفتهن فضلاً عن أنه لا يقوم لهم برهان على ما
يتوهمون حتى يصح الحكم بأن العلم يدعو للفجور وأن الجهل يدعو للعفة، نعم،
ربما كانت العالمة أقدر على الفجور من الجاهلة ولكن الجاهلة أجسر عليه من
العالمة، ثم إن ضرر جهل النساء وسوء تأثيره في أخلاق البنين والبنات أمر
واضح غنيّ عن البيان، وإنما سوء تأثيره في أخلاق الأزواج فيه بعض خفاء
يستلزم البحث فأقول:
إن الرجال ميالون بالطبع إلى زوجاتهم، والمرأة أقدر مطلقًا من الرجل في
ميدان التجاذب للأخلاق ولا يتوهم عكس ذلك إلا من استحكم فيه تغرير زوجته له
بأنها ضعيفة مسكينة مسخرة لإرادته حال كون حقيقة الأمر أنها قابضة على زمامه
تسوقه كيف شاءت، وبتعبير آخر يغره أنه أمامها وهي تتبعه فيظن أنه قائد لها
والحقيقة التي يراها كل الناس من حولهما دونه أنها إنما تمشي وراءه بصفة سائق لا
تابع، وما قدَّر قدْر دهاء النساء مثل الشريعة الإسلامية حيث أمرت بالحجب
والحجر الشرعيين حصرًا لسلطتهن وتفرغهن لتدبير المنزل فأمرت باحتجابهن
احتجابًا محدودًا بعدم إبداء الزينة للرجال الأجانب وعدم الاجتماع بهم في خلوة أو
لغير لزوم، وأمرت باستقرارهن في البيوت إلا لحاجة ولا شك أنه ما وراء هذه
الحدود إلا فتح باب الفجور، وما هذا التحديد إلا مرحمة بالرجال وتوزيعًا لوظائف
الحياة.
والصينيون وهم أقدم البشر مدنية التزموا تصغير أرجل البنات بالضغط عليها
لأجل أن يعسر عليهن المشي والسعي في إفساد الحياة الشريفة ذاك الشرف الذي هو
من مقاصد الشرقيين بخلاف الغربيين الذين لا يهمهم غير التوسع في الماديات
والملذات.
وقد أمرت الشريعة برعاية الكفاءة في الزوج وذلك أيضًا مرحمة بالرجال
ولكن الأئمة المجتهدين أغفلوا لزوم تحري الكفاءة في جانب المرأة للرجل وأوجبوا
أن يكون هو كفؤًا لها فقط لكيلا تهلكه بفخارها وتحكمها على أن لرعاية الكفاءة
في المرأة بالنسبة إلى الرجل أيضًا موجبات عائلية مهمة منها التخير للاستسلام
والتخير لتربية النسل، وللتساهل في ذلك دخل عظيم في انحلال الأخلاق في المدن؛
لأن للتزوج بمجهولات الأصول أو الأخلاق أو بسافلات الطباع والعادات أو
بالغربيات جنسًا أو الرقيقات مفاسدَ شتى؛ لأن الرجل ينجر طوعًا أو كرهًا لأخلاق
زوجته فإن كانت سافلة يتسفل لا محالة، وإن كانت غريبة بَغَّضَتْ إليه قومه
وجرته إلى موالاة قومها والتخلق بأخلاقهم ولا شك أن هذه المفسدة تستحكم في
الأولاد أكثر من الأزواج.
وربما كان أكبر مسبب لانحلال أخلاق الأمراء من المسلمين أتاهم من جهة
الأمهات والزوجات السافلات؛ إذ كيف يُرجى من امرأة نشأت سافلة رقيقة ذليلة [٢]
أن تترك بعلها وهو في الغالب أطوع من خلخالها أن يجيب داعي الشهامة أو المروءة
أو أن تغرز في رءوس صبيتها مقاصد سامية أو تحمسهم على أعمال خطرة! كلا،
لا تفعل ذلك أبدًا، إنما تفعله الشريفات اللاتي يجدن في أنفسهن عزة وشهامة [٣] وهذا
هو سر أن أعاظم الرجال لا يوجدون غالبًا إلا من أبناء وبعول نسوة شريفات أو
بيوت قروية، وهذا هو سبب حرص أمراء العرب والإفرنج على شرف الزوجات.
(ثم قال السيد الفراتي) أيضًا: وإني أرى أن هذا الفتور بالغ في غالب
أهل الطبقة العليا من الأمة ولا سيما في الشيوخ مرتبة (الخور في الطبيعة) لأننا
نجدهم ينتقصون أنفسهم في كل شيء ويتقاصرون عن كل عمل ويحجمون عن كل
إقدام ويتوقعون الخيبة في كل أمل، ومن أقبح آثار هذا الخور نظرهم الكمال في
الأجانب كما ينظر الصبيان الكمال في آبائهم ومعلميهم فيندفعون لتقليد الأجانب
وأتباعهم فيما يظنونه رقة وظرافة وتمدنًا وينخدعون لهم فيما يغشونهم به كاستحسان
ترك التصلب في الدين والافتخار به فمنهم من يستحي من الصلاة في غير الخلوات،
وكإهمال التمسك بالعادات القومية فمنهم من يستحي من عمامته، وكالبعد عن
الاعتزاز بالعشيرة كأن قومهم من سقط البشر، وكنبذ التحزب للرأي كأنهم خلقوا
قاصرين، وكالغفلة عن إيثار الأقربين في المنافع، وكالقعود عن التناصر والتراحم
بينهم كي لا يشم من ذلك رائحة التعصب الديني وإن كان على الحق - إلى نحو ذلك
من الخصال الذميمة في أهل الخور من المسلمين الحميدة في الأجانب؛ لأن الأجانب
يموهون عليهم بأنهم Hkkkkkkkkkkk يحسنون التحلي بها دونهم.
وهؤلاء الواهنة يحق لهم أن تشق عليهم مفارقة حالات ألفوها عمرهم كما قد
يألف الجسم السقم فلا تلذ له العافية فإنهم منذ نعومة أظفارهم تعلموا الأدب مع الكبير
يُقبّلون يده أو ذيله أو رجله، وألفوا الاحترام فلا يدوسون الكبير ولو داس رقابهم،
وألفوا الثبات ثبات الأوتاد تحت المطارق، وألفوا الانقياد ولو إلى المهالك، وألفوا
أن تكون وظيفتهم في الحياة دون النبات ذاك يتطاول وهم يتقاصرون، ذاك يطلب
السماء وهم يطلبون الأرض كأنهم للموت مشتاقون، وهكذا طول الألفة على هذه
الخصال قلب في فكرهم الحقائق وجعل عندهم المخازي مفاخر فصاروا يسمون
التصاغر أدبًا والتذلل لطفًا والتملق فصاحةً واللكنة رزانةً وترك الحقوق سماحة
وقبول الإهانة تواضعًا والرضاء بالظلم طاعةً كما يسمون دعوى الاستحقاق غرورًا
والخروج عن الشأن الذاتي فضولاً ومد النظر إلى الغد أملاً والإقدام تهورًا والحمية
حماقةً والشهامة شراسةً وحرية القول وقاحةً وحب الوطن جنونًا.
ثم قال وليعلم أن النَّشْءَ الذين تعقد الأمة آمالها بأحلامهم عسى يصدق منها
شيء وتتعلق الأوطان بحبال همتهم عساهم يأتون فعلاً مذكورًا هم أولئك الشبان
ومن في حكمهم المحمديون المهذبون الذين يقال فيهم: إن شاب رأى القوم عند
شبابهم الذين يفتخرون بدينهم فيحرصون على القيام بمبانيه الأساسية نحو الصلاة
والصوم ويتجنبون مناهيه الأصلية نحو الميسر والمسكرات الذين لا يقصرون بناء
قصور الفخر على عظام نخرها الدهر ولا يرضون أن يكونوا حلقة ساقطة بين
الأسلاف والأخلاف الذين يعلمون أنهم خلقوا أحرارًا فيأتون الذل والإسارة، الذين
يودون أن يموتوا كرامًا ولا يحيون لئامًا، الذين يجتهدون أن ينالوا حياة راضية
حياة قوم كل فرد منهم سلطان مستقل في شئونه لا يحكمه غير الدين وشريك أمين
لقومه يقاسمهم ويقاسمونه الشقاء والهناء وولد بارّ بوطنه لا يبخل عليه بجزء طفيف
من فكره ووقته وماله، الذين يحبون وطنهم حب من يعلم أنه خلق من ترابه، الذين
يعشقون الإنسانية ويعلمون أن البشرية هي العلم، والبهيمية هي الجهالة، الذين
يعتبرون أن خير الناس أنفعهم للناس الذين يعرفون أن القنوط وباء الآمال، والتردد
وباء الأعمال، الذين يفقهون أن القضاء والقدر هما السعي والعمل، الذين يوقنون
أن كل ما على الأرض من أثر هو من عمل أمثالهم البشر فلا يتخيلون إلا المقدرة
ولا يتوقعون من الأقدار إلا خيرًا.
وأما النَّشء المتفرنج فلا خير فيهم لأنفسهم فضلاً عن أن ينفعوا أقوامهم
وأوطانهم شيئًا وذلك لأنهم لا خلاف لهم تتجاذبهم الأهواء كيف شاءت لا يتبعون
مسلكًا ولا يسيرون على ناموس مطرد؛ لأنهم يحكمون الحكمة فيفتخرون بدينهم
ولكن لا يعلمون به تهاونًا وكسلاً [٤] ويرون غيرهم من الأمم يتباهون بأقوامهم
ويستحسنون عاداتهم ومميزاتهم فيميلون لمناظرتهم ولكن لا يقوون على ترك
التفرنج كأنهم خلقوا أتباعًا [٥] ويجدون الناس يعشقون أوطانهم فيندفعون للتشبه بهم
في التشبيب والإحساس فقط دون التشبث بالأعمال التي يستوجبها الحب الصادق،
والحاصل أن شئون النشء المتفرنج أيضًا لا تخرج عن تذبذب وتلون ونفاق يجمعها
وصف (لا خلاق لهم) والواهنة خير منهم؛ لأنهم متمسكون بالدين ولو رياءً
وبالطاعة ولو عمياء على أنه يوجد في المتفرنجة أفراد غيورون كالراسخين من
أحرار الأتراك الملتهبين غيرة يقتضي احترام مزيتهم.
ثم قال (السيد الفراتي) : إن الخور المبحوث فيه علة معدية تسري من
الشيوخ إلى الشبان ومن الطبقة العليا إلى العامة وليت الشيوخ والكبراء يرضون بما
كتبه الله عليهم من الذلة والمسكنة والخمول وسقوط الهمة والدناءة والاستسلام
فيتركوا أهل النشأة الجديدة وشأنهم لا يستهزئون ولا يعطلون ولا يسفهون ولا
يثبطون وما أظنهم بفاعلين ذلك أبدًا إلا أن تتصدى لهم جرائد مخصوصة تقابلهم
باللوم والتبكيت وتتساقط عليهم أقلام الأدباء وألسنة الشعراء بوضع أهاجي وأناشيد
بعبائر بسيطة محلاة بنكت مضحكة لكي تنتشر حتى على ألسنة العامة، وبمثل هذا
التدبير تثور حرب أدبية بين النشء والواهنة لا تلبث أن تنتهي بانكسار الفئة الثانية
أولئك البائسين المتفاشلين المتواكلين المتقاعسين المتخاذلين المتشاكسين العاجزين
عن كل شيء إلا التعطيل.
ومن راجع تواريخ الأمم التي استرجعت نشأتها والدول التي جددت عصبيتها
يجد من حكمائها ونجبائها مثل حسّان قريش وكُميت العباسيين ولوثر الألمانيين
وفولتيير الفرنساويين قد تغلبوا على الفكر الواهن وأنصاره من الأشراف
والشيوخ وأهل العناد والفساد بحمل لواء النشء، وإثارة حرب أدبية حماسية بين
الفئتين على أننا نحن تكيفنا الضوضى ولا نحتاج قط للفوضى؛ لأن واهنتنا أضعف
من أن تحوجنا أن ننتظر أم حسان تلد حسانًا ورب حيلة أنفع من قبيلة. وهذا أنجع
دواء والله ولي النيات.
ثم ختم (السيد الفراتي) كلامة بقوله هذا ما سنح لي في هذا المرام وقام
وتبادل مع الفاضل الشامي والبليغ الإسكندري المقام.
قال (الأستاذ الرئيس) : إن مباحث الجمعية قد استوفت حقها وكفاني السيد
الفراتي تلخيص أسباب الفتور منها ولا أرى لزومًا لتلخيص بقية المباحث الدينية.
وقد أعطاني أخونا المدقق التركي رئيس لجنة القانون (السانحة) التي
وضعتها اللجنة مطبوعة في نسخ على عدد الإخوان لتوزع عليهم فيطالعها كل منهم
ويدققها قبل وضعها في اجتماعنا غدًا في موقع المذاكرة حيث يبحث فيها قضيةً
فقضية بدون جزاف، وأما اليوم فقد حل أوان الانصراف.
بادر (السيد الفراتي) وفرق على كل واحد من أعضاء الجمعية نسخة من
سانحة القانون فأخذوها وتفرقوا.
((يتبع بمقال تالٍ))