للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تتمة الاجتماع الثاني عشر لجمعية أمُّ القُرَى

قال (الأستاذ الرئيس) : ها نحن أولاً قد استوفينا قراءة القانون للمرة الثانية
ولم يستدرك عليه أحد من الإخوان شيئاً فهل أنتم مُقِرُّوه؟ فأجاب جميع الأعضاء:
نعم نُقرّه.
قال (العلامة المصري) : إني بالنيابة عن هيئة الجمعية أشكر لحضرة
الأستاذ المكي الرئيس براعته في حسن إدارة الجمعية، كما أنني أقدر للمدقق
التركي ورفقائه وَاضِعي سانحة القانون قدر فضلهم وحُسْن إحاطتهم.
وإني لأرى في هذا القانون أشبه نور بين القضايا والسطور نور يشرق
على المنارات فيبدر الأهلة ويبهر النسور، نور معقود اللواء لنشأة جديدة وحياة
حميدة وعاقبة سعيدة، نور يمزق دَيْجور القبور ويحيي ميت الشعور، وما ذلك على
الله بعزيز.
قال (المحقق المدني) : بمناسبة أني جار النبي صلى الله عليه وسلم أرى
كأن رسول الله مسرور بكم أيها الإخوان الكرام، يتضرع إلى ربكم أن يوفقكم في
مشروعكم خدمة لدينه وأُمّته خدمة تُلْحِقُكم بالمجاهدين الصديقين الأولين.
قال (الأستاذ الرئيس) إذا تقرر أن يكون تأسيس الجمعية الدائمة ابتداءً في
بور سعيد أو الكويت بصورة غير علنية في الأول فأرى أن نفوض اتخاذ أسباب
هذه المهمة للعلاّمة المصري والسيد الفراتي فهما بعد ستة أشهر يجتمعان في مصر،
وبعد تهيئة الأسباب وترتيب ما يلزم ترتيبه يسعيان أولاً بطبع هذه المذاكرات مع
القانون ثم يهتمان بترجمة ذلك إلى بقية أمهات اللغات الإسلامية التركية والفارسية
والأوردية فيطبعانها وينشرانها ذكرى وبشرى للمؤمنين.
ثم بعد استطلاعهما ما يلزم استطلاعه من آراء وأفكار ذوي الهمم السامية،
يباشران أسباب تشكيل الجمعية مع التروي والتأني اللازمَيْنِ حكمة، وربما لا
يساعدهما الزمان فيحتاجان لترقب الفرصة ولو تأخر الأمر إلى اجتماعنا الثاني،
وأخونا السيد الفراتي يعدنا بأنه لا يقطع عنا سائله وإعلامنا بسير المسألة والأمل
بعنايته تعالى أن نجد في اجتماعنا الثاني بعد ثلاث سنين الجمعية الدائمة متشكلة
على أحسن نظام.
ثم قال (الأستاذ الرئيس) : وإني على أمل أن الجمعية الدائمة ستُلْحِقنا
بأعضائها الفخريين فنخدم مقاصدها الجليلة المتعلقة بإعزاز ديننا وإخواننا وأنفسنا
فننال بذلك أجر المجاهدين وشرفًا عظيمًا نفتخر به نحن وأحقابنا من بعدنا إلى يوم
الدين.
ثم قال: وإن جمعيتنا هذه قد اختارت أن تجعل مركزها المؤقت في مصر،
ومصر دار العلم والحرية وكانت أخذت في العمران بسرعة ولولا تهاون سعيد
وتطاول إسماعيل، وسقوط نفوذ الفرنسيين بحرب السبعين، وانفراد الإنكليز ويأسهم
من قبول المريض التمريض وتهاتر قوات الدول بتوازنها لبقيت تلك الحركة
العمرانية مستمرة ولما رجع الشيخ إلى دور الانحلال، ولا وقع الابن في دور
الاحتلال.
ثم خاطب (السيد الفراتي) هيئة الجمعية فقال: أيها السادة لا غَرْو أن أكون
أكثر الإخوان سرورًا بإنتاج سعيي وسياحتي هذه الخطوة الكبيرة في هذا السبيل
وإني مستبشر من تسهيل المولى تعالى البداية أن يسهل السير إلى النهاية ولا يعز
على الله شيء والعزائم لا شك تذلل العظائم.
وإني أيها الإدارة سأريكم إن شاء الله بمهمات ما يحصل ويتم ولا أستغني أن
توفدوني بآرائكم ولو عن بُعد وتسعفوني بأدعيتكم بالتوفيق، وليس هذا اليوم آخر
عهد جمعيتنا بل يلزم أن نجتمع أيضًا في هذا المحفل رابع أيام التشريق فتكون تلك
جمعية الوداع، وفيها يكاشفكم حضرة الأستاذ الرئيس ببعض تدابير وبشائر يجب
إسرارها فتُوقَرُ في الصدور لا تسجل ولا تذاع، وفي ذاك اليوم يتم بتسهيل الله طبع
سجل مذاكرات جمعيتنا إلى هذه الساعة (بمطبعة الجلاتين) فيوزع عليكم نسخ منها
كما يعطى لكم نسخ من ضبط المناقشات على القانون ونسخ جديدة من مفتاح الكتابة
الرمزية والمفتاح المختصر الأول مذيلاً بتراجم الإخوان بصورة أكثر تفصيلاً من
الأولى وعلى الله التيسير.
ثم قال (السيد الفراتي) : أخبركم أيها السادة بأني أخذت بالأمس رسالة من
أخينا الأديب البيروتي الذي لم يمكنه القدر من موافاة الجمعية كما بينت ذلك قبلاً
فهو يقرئكم السلام ويدعو للجمعية بالتوفيق ويطلب أن أتلو عليكم قصيدة له يخاطب
بها المسلمين.
فقال (الأستاذ الرئيس) وعليه السلام وأمر بقراءة القصيدة فقرئت وأُثْبَت منها
بإشارة الأستاذ الرئيس بعضُ أبيات وهي:
غيَّرْتُمُوا يا حيارى ما بأنفسكم ... فغير الله عنكم سابغ النعم
الله لا يهلك القرى إذا كفرت ... وأهلها مصلحون في شؤونهم
ترك التآمر بالمعروف أورثكم ... ما حاق من نُذُر يا زلة القدم
يا قومنا صححوا توحيد بارئكم ... بدون إشراك أحياء ولا رمم
ونقحوا الشرع من حشو ومخترع ... رُجْعَى إلى دين أسلاف ذوي ذمم
خذوا بمحكم آيات منزلة ... وسنة بينت في الفعل والكلم
دعوا البدائع في الدين وإن حسنت ... ولا يغرنكم تأويل محتكم
سماحة الدين مَنَّ الله خالقكم ... بها عليكم دعوا الكفران بالنعم
وحافظوا ملة بيضاء ساطعة ... وسمحة قد حبتكم كل مغتنم
راقت فضائلها في كل فلسفة ... قوامها حكمة تفضي إلى شمم
هَذِي وسيلتكم لا غيرها أبدا ... فاسعوا لنهضتكم يا خيرة الأمم
في غير جامعة التوحيد لن تجدوا ... من جامع لكمو لستم ذوي رحم
سياسة الدين أولى ما تساس به ... شتى الخلائق من عرب ومن عجم
فيها الحياة وفيها حفظ رايتكم ... خضراء سوداء حول الركن والحرم
* * *
ذيل
قررت الجمعية في اجتماع الوداع المنعقد في رابع أيام العيد بعض أمور مهمة
ينبغي أن تُسرّ ولا تذاع غير أنها رأت أن يلحق منها بهذا السجل ما يأتي فقط.
* * *
قرار عدد ٦
إن الجمعية بعد البحث الدقيق، والنظر العميق في أحوال وخصال جميع
الأقوام المسلمين الموجودين وخصائص مواقعهم والظروف المحيطة بهم واستعدادهم
وجدت أن لجزيرة العرب ولأهلها بالنظر إلى السياسة الدينية مجموعة خصائص
وخصال لم تتوفر في غيرهم، فرأت الجمعية أن حفظ الحياة الدينية متعينة عليهم لا
يقوم فيها مقامهم غيرهم مطلقًا وأن انتظار ذلك من غيرهم عبث محض. على أن
لبقية الأقوام أيضًا خصائص ومزايا تجعل لكل منهم مقامًا مهما في بعض وظائف
الجماعة الإسلامية. مثل أن معاناة حفظ الحياة السياسية ولا سيما الخارجية متعينة
على الترك العثمانيين [١] ومراقبة حفظ الحياة الدينية التنظيمية يليق أن تناط
بالمصريين، والمقام بمهام الحياة الجندية يناسب أن يتكفل بها الأفغان وتركستان
والخزر والقوقاس يمينًا ومراكش وإمارات أفريقيا شمالاً، وتدبير حفظ الحياة
العلمية والاقتصادية خير من يتولاها أهل إيران وأواسط آسيا والهند وما يليها.
ولما كانت الجمعية لا يعنيها غير أمر النهضة الدينية رأت من الضروري أن
تربط آمالها بالجزيرة وأهلها العرب عمومًا وذلك لأجل رفع التعصب السياسي أو
الجنسي ولأجل إيضاح أسباب ميل الجمعية للعرب فنقول:
١- (الجزيرة) : هي مشرق النور الإسلامي.
٢- (الجزيرة) . فيها الكعبة المعظمة.
٣- (الجزيرة) فيها المسجد النبوي وفيه الروضة المطهرة.
٤- (الجزيرة) أنسب المواقع لأن تكون مركزاً للسياسة الدينية لتوسطها بين
أقصى آسيا شرقًا وأقصى أفريقيا غربًا.
٥- (الجزيرة) أسلم الأقاليم من الأخلاط جنسية وأديانًا ومذاهب.
٦- (الجزيرة) أبعد الأقاليم عن مجاورة الأجانب.
٧- (الجزيرة) أفضل الأراضي لأن تكون ديار أحرار لبُعْدها عن الطامعين
والمزاحمين نظرًا لفقرها الطبيعي.
٨- (عرب الجزيرة) هم مؤسِّسو الجامعة الإسلامية لظهور الدين فيهم [٢] .
٩- (عرب الجزيرة) مستحكم فيهم التخلق بالدين لأنه مناسب لطبائعهم
الأهلية أكثر من مناسبته لغيرهم.
١٠- (عرب الجزيرة) أعلم المسلمين بقواعد الدين؛ لأنهم أعرفهم فيه
ومشهود لهم في أحاديث كثيرة بالمتانة في الإيمان.
١١- (عرب الجزيرة) أكثر المسلمين حرصًا على حفظ الدين وتأييده
والفخار به، والعصبية النبوية لم تزل قائمة بين أظهرهم في الحجاز واليمن وعمان
وحضرموت والعراق وأفريقيا.
١٢- (عرب الجزيرة) لم يزل الدين عندهم حنيفًا سلفيًّا بعيدًا عن التشديد
والتشويش.
١٣- (عرب الجزيرة) أقوى المسلمين عصبية وأشدّهم أنفة لما فيهم من
خصائص البدوية [٣] .
١٤- (عرب الجزيرة) أمراؤهم جامعون بين شرف الآباء والأمهات
والزوجات فلم تَخْتَل عزتهم.
١٥- (عرب الجزيرة) أقدم الأمم مدنية مهذبة بدليل سعة لغتهم وسمو
حكمتهم وأدبياتهم.
١٦- (عرب الجزيرة) أقدر المسلمين على تحمّل قشف المعيشة في سبيل
مقاصدهم وأنشطهم على التغرّب والسياحات، وذلك لبعدهم عن الترف المذلّ أهله.
١٧- (عرب الجزيرة) أحفظ الأقوام لجنسيتهم وعاداتهم فهم يخالطون ولا
يختلطون.
١٨- (عرب الجزيرة) أحرص الأمم الإسلامية على الحرية والاستقلال
وإباءِ الضَيْم [٤ {.
١٩- (العرب على الإطلاق) لغتهم أغنى لغات المسلمين في المعارف
ومصونة بالقرآن الكريم من أن تموت.
٢٠- (العرب) لغتهم هي اللغة العمومية بين المسلمين البالغ عددهم ٣٠٠
مليون.
٢١- (العرب) لغتهم هي اللغة الخصوصية لمائة مليون من المسلمين وغير
المسلمين.
٢٢- (العرب) أقدم الأمم اتباعًا لأصول تساوي الحقوق وتقارب المراتب
في الهيئة الاجتماعية.
٢٣- (العرب) أعرق الأمم في أصول الشورى في الشؤون العمومية [٥ {.
٢٤- (العرب) أهدى الأمم لأصول المعيشة الاشتراكية.
٢٥- (العرب) من أحرص الأمم على احترام العهود عزة واحترام الذمة
إنسانية واحترام الجوار شهامة وبذل المعروف مروءة [٦ {.
٢٦- (العرب) أنسب الأقوام لأن يكونوا مرجعًا في الدين وقوة للمسلمين فإن
بقية الأقوام قد اتبعوا هديهم ابتداءً فلا يأنفون من اتباعهم أخيرًا.
فهذه هي الأسباب التي جعلت جمعية أمّ القرى تعتبر العرب هم الوسيلة
الوحيدة لجمع الكلمة الدينية بل الكلمة الشرقية، والجمعية تسأل الله تعالى أن يوفق
ملوك المسلمين وأمراءهم للتصلب في الدين والحزم والعزم عساهم يحفظون عزهم
وسلطانهم إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها وأن يحميهم من التعصب السيئ
للسياسات والجنسيات ومن الكبر والأنفة، ومن التخاذل والانقسام ومن الانقياد إلى
وساوس الأجانب الأضداد لئلا ينتابهم الخطر القريب المحدق بهم وتتخاطفهم النسور
المحلقة في سمائهم، والله الموفق وإليه ترجع الأمور.
وهكذا تمت الاجتماعات وختمت المذاكرات وانفضّ الجمع على وعد التلاقي.
((يتبع بمقال تالٍ))