للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء
(عربي كريم وولي حميم)
في أوائل هذا الشهر جاءنا نبأ برقي من بومبي (الهند) يقول فيه مرسله:
إن صديقكم (محمد عبد الوهاب باشا شيخ دارين) قد سافر اليوم إلى الحجاز في
باخرة (الإمبراطور) وسيعرج على السويس، وقد علمت أن باخرة الإمبراطور
تصل إلى السويس مساء الأربعاء (١١ فبراير) فيممت السويس في ذلك اليوم
للقاء صديق مخلص أحبني وأحببته على البُعد - أحبني في الله بحبه للمنار ورضاه
عن خدمته وإعجابه به وعمله بما يرشد إليه ويفتي به في أمر الدين- وأحببته في
الله لما تنسمته في كتبه إلي من الغيرة الدينية والإخلاص في كل ما يقول.
لقيته فلقيت منه الفضائل العربية، والأخلاق الإسلامية، الأناة والوقار
والشهامة وكرم النفس واليد، ومن كرمه أنك ترى منه أبا القِرى، يقصد أمُّ القُرَى،
فهو يسير إليه بركب يبلغ ثلاثين رجلا أكثرهم من جماعته وحاشيته العرب الكرام،
وبعضهم من مسلمي الهند، ومن كرمه أنه يمد لكل غداء وعشاء الخوان، وينصب
الجفان، وفيها ما شئت من الألوان، ومن كل فاكهة زوجان، ومن كرمه أنه رأى
في السويس كثيرًا من الفقراء الغرباء يبغون الحج ويلتمسون المساعدة عليه بأن
يُحْملوا بغير أجرة في سفينة الخاصّة الخديوية فارتاح إلى حملهم على نفقته وأرسل
يطلب من محافظ السويس بيان عددهم وأسماءهم وإن كثروا، ومن كرمه أنه لم
يمض عليه في السويس يوم أو يومان، حتى عرف منزله فقراء البلد فانتحَوه من
كل مكان، فألفوه لا يرد سائلا، ولا يخيب آملا، حتى إننا عذلناه على بسط يده لهم،
عندما كاد يتعذر علينا أن ننفذ معه من بينهم، ولعَمْري إن هذا الجواد قد أرانا
خير نموذج من كرم خلفاء العرب وأمرائهم الأولين الذين حفظ التاريخ مناقبهم وخلد
مآثرهم.
وقد اختار أن يسافر بجماعته في باخرة الخاصة الخديوية (البحيرة) إذ رأى
معنا ما فيها من النظافة وتيسير العبادة وأخبرناه أن سموّ عزيز مصر قد أنشأ هذه
الباخرة لتسهيل سبيل الحج على المسلمين وأنه يَسُرّه أن تكون العبادة متيسرة فيها
للمسافرين؛ ولذلك جعل مستخدميها من المسلمين فسُرّ صاحبنا بذلك ورفع إلى سمو
العزيز رسالة برقية يشكر لسموه عنايته بإنشاء هذه الباخرة لتسهيل الحج بها على
الفقراء ويشكر حفاوة حكومته به لا سيما محافظ السويس ووكيل المحافظة ويعتذر
بضيق الوقت عن عدم التشرف بزيارة سموه وتقديم الشكر الشفاهي، فأجابه سموه
بالبرق جوابًا لطيفًا هذا نصه:
(سراي عابدين)
حضرة الأمير الجليل محمد بن عبد الوهاب أمير دارين تحت لواء نجد
بالسويس، نشكر حضرتكم خالص الشكر على التلغراف الذي أرسلتموه إلينا ونتمنى
لكم حجًّا مبرورًا وصحة وسلامة في السفر والإقامة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (عباس حلمي)
***
(موكب الحجّ المصري وضعف الدين في مصر)
احتفل في هذه السنة بموكب الحج المصري أو المحمل المصري كما كان
يحتفل في غيرها من السنين، وما المحمل وموكبه إلا تعظيم وإشهار لركب الحج،
ومن العار العظيم والخزي القبيح على مصر، وهي المملكة الإسلامية الثانية التي
للحاج فيها موكب رسمي أن يكون الحجاج منها أقل من حجاج قرية من قرى سائر
البلاد الإسلامية أو أقل من الركب الذي جاء به صديقنا الفاضل الهُمَام محمد عبد
الوهّاب باشا من بلده الصغيرة (دارين) .
يتشدق الذين دِينُ ألسنتهم وأقلامهم قويّ متين، ودين عقولهم وقلوبهم ضعيف
مهين، يقولون: لا لوم ولا عار على الأمة المصرية إن لم يخرج إلى الحجّ منها
في هذه السنة إلا ٢٧ رجلاً، فإن الأغنياء الذين يستطيعون دفع ما فرضته الحكومة
والخروج إلى الحج إنما تركوه احتجاجًا على الحكومة (فالعار محصور في الحكومة!
وهذه الحجة أضعف من حجة من جاء المسجد فوجد الباب مغلقًا فترك الصلاة
معتذرًا بأن المسجد لم يقبله! وإنما كان عذر القاعدين عن الحج من الأغنياء أضعف؛
لأن باب الحرم أو باب الطريق غير مغلق في وجوههم، وإذا فرضنا أن المتشدق
بما ذُكِرَ غيدار (الغيدار هو الرجل يسيء الظن فيصيب) وكانت الحكومة تحب أن
تصدّ الناس عن الحج في باطنها أو بإلجاء المحتلين لها على ذلك فهل تقضي قوة
الدين بأن تضعف الأمة أمامها. وتجعل دينها هدفًا لسهامها، أم الواجب عليها بذل
النفس والنفيس في مقاومتها وحفظ شعار الدين، وإقامة هذا الركن الركين، الأمر
ظاهر ولكن ممن يلمز بالحكومة من هو أشد تنفيرًا وتثبيطًا عن إقامة ركن الإسلام
الذي يدعي الدفاع عنه فحسبنا الله ونعم الوكيل.
***
(سكة حديد الحجاز - وضريبة لها جديدة)
تعلقت إرادة مولانا السلطان بأن يؤخذ قرش صحيح عن كل ورقة تقدم
للحكومة في العدلية وغيرها من الدوائر سواء كانت الورقة مستقلة أو تابعة لأوراق
أخرى كالأوراق التي يحتج بها الخصماء في الدعاوى (المستندات) والمال الذي
يجمع من هذه الضريبة مخصوص بسكة حديد الحجاز لأن نفقاتها تزيد كل يوم
باتساع العمل.
وفي هذا المقام ننّوه بغيرة إخواننا مسلمي الهند واهتمامهم بهذا المشروع
الإسلامي الكبير، ونخص بالذكر الأستاذ الهمام الملا عبد القيوم فإن الجرائد الهندية
توافينا دائمًا بذكر تجواله في البلاد وخطبه المؤثرة في الحث على جمع مال الإعانة
للسكة، ولم نسمع بأن عالمًا مصريًّا أو تونسيًّا نبس بكلمة خير في هذا الموضوع،
نعم إن الحرية الممنوحة للمصريين لم تقدر أن تنقذ قلوبهم من الاستعباد للحكومة،
فلو أن حكومتهم أرادت جمع إعانة لأرادوا أو لو ظنوا أنها تريد ذلك لبادروا إليه
كما امتنعوا عن الحج لأنهم ظنوا أن حكومتهم لا تريد أن يحجوا في هذا العام (هذا
وما فكيف لو) .
***
(إصلاح لبنان - لائحة للمتصرف الجديد)
أهدتنا جريدة المناظر الغراء التي تصدر في البرازيل رسالة مطبوعة أو
(لائحة) من جماعة اللبنانيين المهاجرين إلى صاحب الدولة مظفر باشا متصرف
لبنان وهي رسالة جليلة صادرة عن فكر حيّ نقتطف منها ما يأتي:
(مولاي: الأمة اللبنانية مستقلة في شؤونها الداخلية فهل استقلت على سبيل
الاستعداد؟ ينبئنا التاريخ وتدلنا الحالة الحاضرة على أن الأمة لا تتحرك فيها عاطفة
الاستقلال إلا متى أَنِفَتْ من الرضوخ للسلطة الأجنبية، وأنها لا تأنف من هذا
الرضوخ إلا متى شعرت بطاقتها على أن تحكم نفسها، فالأمة اللبنانية لم تستقل
على سبيل الاستعداد.
(قد تقدم الاستقلال الداخلي اللبناني شيء مما يتقدم الاستقلال غالبًا تقدمته
دماء ولكن ليست كالدماء التي جرت في أمريكا سنة ١٧٧٥ وما يليها إلى سنة
١٧٨٣ تقدمته معارك ولكنها ليست كالمعارك التي حدثت في بولونيا سنة ١٨٣٠،
تقدمه جهاد ولكن ليس كالجهاد الذي حدث في جنوبي أفريقية في السنوات الثلاث
الأخيرة إنما الدماء التي تقدمت استقلالها كلها دماء لبنانية لم تمتزج بها نقطة من
دماء جيوش الدولة المتسلطة ولا دار في خلد اللبناني في السنوات التي تقدمت
استقلاله أن يخرج على الدولة التي كان ولا يزال يرفع رايتها، والمعارك التي حدثت
قُبَيْل الاستقلال كلها أهلية نَازَل فيها اللبناني أخاه اللبناني، والجهاد الذي حدث لم
يخالطه من الروح الوطني ولا نسمة دماء تعصب ومعارك صليبية وجهاد طائفي، تلك
مقدمة الاستقلال اللبناني أو مقدمة المؤتمر الدولي الذي التأم في بيروت في حزيران
سنة ١٨٦١ وقرر للبنان حالته السياسية الحاضرة.
(فانظر يا مولاي ما هي مقدمات الاستقلال اللبناني الداخلي؛ تعلم سر
اختلال اللبناني في حكومة نفسه سر اختلال اللبناني في حكومته لنفسه أو سر
الاختلال السياسي في لبنان هو الفساد الاجتماعي الذي كان مصدرًا لمقدمات
الاستقلال. فالإصلاح في لبنان يجب أن يكون اثنين: إصلاحًا اجتماعيًّا ينتهي
بالإصلاح السياسي الاختياري وإصلاحًا سياسيًّا يستمر حتى تستقر نتيجة الإصلاح
الأول. ما استقلت (يا مولاي) الأمة اللبنانية وهي قادرة على سيادة نفسها ولكنها
استقلت فيجب أن تجعلها أهلاً لهذه السيادة) .
ثم قال الكاتب بعد أن ذكر أن المصلحة العامة لم تربط اللبنانيين ولم تربطهم
وحدة اللغة بل قال: إنه ليس لهم حتى الآن مصلحة عمومية، وإنهم ما داموا كذلك فهم
في حكم العدم، وبعد أن أوجب البحث في سبب ذلك وجزم بأنه أهم ما يقال في
الفساد الاجتماعي، قال:
مولاي: الأرض التي يسكنها الدرزي اللبناني يسكنها المسيحي اللبناني،
الهواء الذي يتنشقه الواحد يتنشقه الآخر، اللغة التي يتكلم بها هذا يتكلم بها ذاك.
إذا راجت سوق الحاصلات اللبنانية في الخارج استفاد كلاهما معًا وإذا كسدت
تضرّرا معًا فلماذا وعَلامَ اقتتلا؟
مولاي: ما هو الفرق بين الأرثوذكسي والماروني وبين كل منهما والملكي،
وبين كل منهم والمسلم وبين كل من هؤلاء والشيعي في كل ما هو لبناني دنيوي
على الإطلاق؟ لا تستطيع يا صاحب الدولة أن تجد مِنْ فَرْق فما هو سبب استقلال
كل واحدة من طوائف لبنان عن الأخريات فيما هو دنيوي.
لا يوجد في لبنان إلا أربع مدارس دينية. والمدارس الدينية مشروعة
الاستقلال. فهل اقتصر الاستقلال عليها؟ كلا يا صاحب الدولة إن الاستقلال
الطائفي تناول كل مدارس الجيل الاستعدادية والعالية. فما هي مشروعية هذا
الاستقلال الطائفي في مدارس نقول أن تعاليمها دنيوية.
الإحسان لا ينكره دين ما فما سَوَاغِية انفراد أبناء هذه الطائفة عن أبناء تلك في
المشروعات الخيرية والآداب والعلوم المشتركة، فما معنى اصطباغ الجمعيات
الأدبية والعلمية بالصبغات الطائفية.
إذا أنعمت الحضرة العالية السلطانية على ابن هذه الطائفة بوسام أو رتبة عاليين
سر أبناء الطائفة نفسها واستاء أبناء الطوائف الأخرى.
المؤلف يشفع اسم في صدر كتابه بنسبته الطائفية، ومؤلَّفه عندئذ مفيد عند
طائفته غير مفيد عند الطوائف الأخرى.
الطبيب الدرزي طبيب الدروز، والمحامي الماروني محام للمارونة، والعالم
الأرثوذكسي موضوع ثقة الأرثوذكس فقط، والكاتب الملكي معتبر عند الملكيين
فقط.
فما هو سبب هذا التدافع، هذه المواربة، هذا التناقض، هذا الاستقلال في قوم
تجمعهم المصلحة الطبيعية واللغة؟ هو التعصب الديني يا صاحب الدولة - التعصب
الذميم الذي يُزَيِّن لكل طائفة في لبنان أنها مستقلة بمصلحتها عن الطوائف الأخرى،
ولا مصلحة لها في الحقيقة يصح أن تُسمَّى مصلحة طائفية عموميَّة، ولا فائدة من
استقلالها في مثل ما قدمنا من الأمثلة إلا فائدة رؤسائها الزمنية - فائدة استخدام هذا
الاستقلال فيما يفيد الرئيس وأنسباءه وأصدقاءه باسم الطائفة - فائدة استخدام الدين في
المنافع الذاتية، التعصب الديني هو سبب الاستقلال الطائفي، وهذا الاستقلال هو
سبب انتفاء المصلحة العمومية، فكيف نلاشي هذا الاستقلال لتستتب لنا تلك
المصلحة.
ثم بُيِّنَ بعد ذلك في اللائحة كيفية الملاشاة وسنذكرها في الجزء الآتي إن شاء
الله تعالى.
***
(المنار في البلاد الإسلامية)
جاءنا من طهران كتاب يقول فيه مرسله أن للمنار ذكرًا سائرًا في مجالس
العلماء والمجتهدين وأن الإمام العلام، ملاذ الأنام، السيد محمد الطباطبائي المجتهد
المشهورة (قد بالغ في مجلسه الغاص بالعلماء في تقريض مجلتكم والثناء عليكم) وأن
الفاضل القمقام، علامة علماء الإسلام، الحاج الشيخ زين الدين، الملقب بملك
الواعظين؛ لأنه أول واعظ ومتكلم على المنبر في هذه الأقطار، كان يعظ في شهر
رمضان في أحد جوامع طهران الموسوم بالجامع المروزي، وهو جامع كبير
معروف، وفيه مدرسة كبيرة للفقه وسائر العلوم..... (وقد أثنى عليكم وقرض مجلة
المنار على منبر الجامع أثناء الوعظ والمسجد مملوء بجماهير الناس من الخاص
والعام.
والمنار يفتخر بصداقة هذين العلمين في الأمة المحمدية، ولا غرو فالبلاد
الفارسية جديرة بهذه الأريحية، فإنها كانت ينبوع العلم والاجتهاد وستبقى كذلك إلى
يوم التناد.
وجاءنا من تونس أن الجزء الواحد من المنار يدار على عشرات من الناس.
وجاءنا من بلاد أخرى عربية أن أهلها لا يرجحون على فتوى المنار فتوى
وأن بعض القضاة الشرعيين يعتمد على المنار في حجج بعض الأحكام ويحتج به
وهذا دليل على حياة العلم هناك لأننا لا نقول في الدين إلا بالدليل فهم يأخذون به لا
بقولنا.
وجاءنا من بعض المدرسين في بلاد روسيا أنه سمع كثيرًا صدى المنار
وخدمته للإسلام وأحب أن يطلع عليه ولكنه لم يعرف اسم صاحبه فاكتفى بأن يكتب
إلينا باسم (المنار في مصر) طالبًا إرسال المنار إليه. فنشكر لهؤلاء الفضلاء
الأعلام تنشيطنا على هذه الخدمة المِلّية ومساعدتنا عليها بالدعوة إليها والتنويه بها.
***
(انتقاد المقتطف الأغرّ)
قرّظ المقتطف الأغرّ كتاب الإسلام والنصرانية وانتقد علينا ما أوردناه في
مقدمته من تمثيل الإسلام بينبوع تفجر في أرض ثم فاض في أرض أخرى فأنشأ به
أهلها حدائق ذات بهجة إلخ، وتلطف كاتب الانتقاد الفاضل فأورد النقد بصفة سؤال
سنجيب عنه في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.
***
(تنبيه لقراء المنار)
قد أصدرنا الجزء التاسع عشر الذي موعده غرة شوال مع الجزء العشرين في
نصف شوال فجعلناهما جزءًا واحدًا مؤلفًا من عشر كراسات فلم تنقص
المشتركين من حقهم شيئًا، وقد غفل عن كِبَر الجزء وعما كتب عليه من العدد
(١٩، ٢٠) بعضهم فكتبوا يطلبون منا الجزء التاسع عشر.
***
(إزالة وهم)
يتوهم بعض الناس أن مما ينشر في المنار غير معزوّ إلى أحد ما هو بقلم
الأستاذ الإمام أو بإيعازه وقد تذكرنا هذا عند نشر تعريب (مسألة الشيخ محمد شاكر)
وبهذه المناسبة نذكر أن كل ما ينشر في المنار غير معزوّ أصلاً فهو لصاحب
المنار فكرًا أو عبارة، وهذا لا ينافي أننا اقتبسنا كثيرًا من المسائل العلمية التي
ننشرها من معارف الشيخ في الدروس والمذاكرات ولكن الذي نودُّ بيانه أن منشئ
المنار مستقلّ في عمله استقلالاً تامًّا لا دَخْل لأحد فيه.