للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رأيٌ في إصلاح المسلمين
أو رأيان
كتب إلينا وكيل للمنار في بعض الأقطار رأيه في طريقة إصلاح المسلمين في
خاتمة جواب يتعلق بأمر الاشتراك والمشتركين؛ فأحببنا أن يطلع عليه القراء لِمَا
فيه من دقة النظر، وبُعْد الغَوْر، قال حياه الله:
(رأيك بالعناية في إصلاح النفوس والعقول والأفكار والأخلاق لا أظن أنه
يوجد من يخالفك فيه على شرط أن تجمع من أيدي الناس كتب التصوّف النظري،
وكتب العقائد التي أُلِّفت على طريقة أرسطو (لا كتب أرسطو نفسها) والتفاسير
التي ألبسها أصحابها لِبَاس الفلسفة اليونانية، وكذا الكتب الفقهية التي كتبها الأعاجم
ومَنْ احتذى حَذْوهم، لا الكتب التي كتبت بطريق الرواية كالموطأ وغيره، وطرح
القواعد التي دوّنها الأصوليون، وجعلوها من أصول تعاليم الدين، وتحويل تَكَايا
الطرق إلى مدارس تُعلَّم فيها العلوم الكونية بأسرها، على شرط أن تكون إدارتها
بيد أُناسيّ من علماء أمم أوربية صغيرة كسويسرة والبلجيك ويعزل الشباب
المتعلمون عن الأمة حتى يمتنع سريان عدوى الأخلاق التي أَرْزَأَت أمم الإسلام من
الأسلاف إلى الأخلاف، وبعد أن تندرس هذه الرمم التي صارت مع طول الزمن
رُكام أقذار مُفسِد للتمدن؛ يتسنّى للمصلحين أن يشيدوا على أنقاضها معاقل
إصلاح.
وهيهات هيهات أن يفوز المصلحون بتلك المطالب العسيرة التي أعيت هممًا،
وبيضت لِمَمًا، وأشفت أمما، ظهر كونفوشيوس قبل عصرنا هذا بإحدى وعشرين
قرنًا لمعاناة إصلاح مذهب سكياموني، وتجديد ما تداعى من بنيانه العتيق الذي
كرت عليه الدهور الدهارير، وبالرغم من مساعيه الكبيرة وهمته القَعْساء، وعزمه
الصارم بقيت آراء سكياموني كما هي محتكرة في الهياكل لكهنة الشعب، ولم يزدها
ذلك المصلح بقارعته العظمى إلا ثباتًا وتمكينًا، وهذا المسيح قام ليعدل سلطة
أكليروس اليهود وليجدّد ما اخلولق من مذهب التوراة فلم يقبل له رأيا إلا من خذله
في أداء الشهادة وقت المحاكمة.
وما عسى أن أقول ونبينا الكريم عليه السلام قد أرسله الله مهيمنا على الكتب،
ومجددًا لشرائع الكون التي اقتضت سنة العمران تجديدها بتجدد المقتضيات فلم
يقبل دعواه من أرباب تلك الأديان إلا مَن نكَّب عن فئته، وانحاز لغير بيئته، وهكذا
شأن كل مصلح يفلت من أسر العادة وينسلت من قيود المصطلحات، وتؤثر في
نفسه الحقائق، وتشعل بصيرته المشاهدات الصحيحة يستنكر ما يستحسنه الناس
ويستحسن ما استنكروه فيسفه أحلامهم، ويبين أوهامهم، إلى أن يثوبوا إلى رجعة
الهدى، أو يكوِّن نَشْأ جديدًا، ودون ذلك خَرْط القَتاد على فرض سلطة الظروف
المحيطة.
على أن هناك مَهْيَعًا آخر أقرب إلى السلامة، وأضمن للنتيجة، وهو سبيل
رجالات أوربا الكبار، ودهاقنها العظام، وبيانه أن يشتغل المصلح بعد ترقية نفسه،
وترتيب منزله، وتنظيم معيشته، وتدبير مأكله، بتنمية ثروته بالطرق القانونية
ويختار له منها الطريق الأضمن على شرط أن يحتذي مذهب الصدق ويتقيل نمط
الأمانة، ولا يعتمد إلا على نفسه فلا يمر عليه غير زمن قليل حتى يكون من أكبر
المُثْرين في العالم مثل مرجان وسيسل رود وغيرهم، فلا يصعب عليه بعد تكوين
الثروة تأسيس المشروعات، وعقد الشركات وإنشاء المدارس، وفتح المعامل،
وإرسال الفُلْك تمخر عُباب اليمّ تجمع له كنوز المخلوقات.
وأما طريقة إصلاح الأمم أو النفوس بإلقاء الخطب، وكتابة المقالات، فلا
تفيد المسلمين في شيء، اللهم إلا من كان له هَوَس منهم فيهما؛ لأن العالم والصانع
والزارع والصراف والتاجر في البلاد المربلة [١] لا يُصِيخُون الأسماع للخطب، ولا
يعيرون الأبصار للمقالات إلا في أوقات الفراغ من الأعمال فهي عندهم بمثابة
المسليات والمنبهات، والذي يُصيخ وينظر في بلادنا القاحلة هو المِكْسال المتقاعس
عن حير نفسه ونفع جنسه؛ وإذا تنبه لبُّه واستنارت بصيرته فلا يكون منه غير
التأوه على الإسلام، والبكاء على المسلمين، ولهذا اتفقت كلمة العمرانيين على أن
ترقي الأمم لا يفيد إلا إذا كان ماديًّا بحتًا، مطهيًا على أثافي الصناعة والزراعة
والتجارة، وطهاته الإقدام والحزم والعزم والنشاط والثبات، وحققوا أنه لا يتوقف
على دين، ولا يحتاج إلى بعثة رسول، وإنما تدعو إليه الحاجة، ويبعث إليه
اختلاط العناصر المختلفة ببعضها) .
يدين سكان الجابون بدين وثني، أخمد نفوس أهله آلاف السنين، وأبقاهم
خاملين تحت سُجُف طقوسه الواهنة، حتى ذاق أفراد منهم عُسَيْلة الإثراء؛ فانبرت
نفوسهم ساعية وراء التأسيسات النافعة، وما فتئوا يفكرون حتى تنبه لهم الأقران؛
فتلاحقوا بهم ثُبى، وما كادت تتنبه لهم الحكومة حتى اضطرها تفاقم المساعي إلى
التنازل عن كثير من حقوقها المكللة بطيلسان الكهنوتية المقدس، وأتاحت لهم بغير
عناد حكومة مقيدة باحتساب الأمة عليها، وقد صارت الآن تضارع أعظم الأمم
شوكة واقتدارا، وما دين المسيحية بأصفى منهلاً من المنبع البوذيّ، وهذا مبتدع
وذاك مخترع، والمنزع القديم في الغالب مقتبس ومتبع (كذا) ومع ما هو عليه من
التشويش والتشويه والتبلس بتلك الحجب التي حاكتها يد المجامع المقدسة لم يزل
دينًا للأمم الراقية ذات الطول والحَوْل والمَنَعَة والعزة رغمًا عن النهضة العلمية
والأخلاقية.
لا أحاول الجدال، ولا أريد الحوار، وإنما غايتي أن أطلعك على فكري
الخاص في إصلاح الأمة الإسلامية بالوسائل الصحيحة التي لا تستلزم زمنًا طويلاً
ولا تكلف تعبًا كبيرًا، وهي أن نترك القادري يَعْمُه في قادريّته، والرفاعيّ يعشو
في رفاعيته، كما تركنا النصراني يتخبط في ظلام نصرانيته والوثني يهرف في
وثنيته، ونسعى مع الجميع متكاتفين لنحصل فرنكًا واحدًا عن كل شخص من
المسلمين، ذاك لروح شيخه، وهذا باسم وَلِيّه، وذا في سبيل النهضة، وهذا باسم
الوطنية، إلى أن نتمكن من جمع مال كثير؛ فنؤسس به مشروعًا يكون جزيل
الفائدة، كبير العائدة، وما علينا والصراخ في الهواء، والنداء في الأجواء،
والاحتراس من السياسة، والتوقي من الرياسة، فذاك في مذهبي شيء لا يجدي
والسلام) .
***
رأي المنار في الموضوع
لقد أحسن الكاتب النبيل القصد في قوله ولكن فيه إجمالاً يحتاج إلى بيان
ونظرٍ في بعض الجزئيات، وما كان الإجمال منه إلا لأنه كتبه لمن يغنيه الإجمال
عن التفصيل، وفرق بين ما كُتِب ليُطْوَى وما كتب لينشر، ولقد سرَّنا توارد
الخواطر وتلاقي الأفكار بيننا وبين الكاتب النبيل، والوكيل الأصيل، في وجوب
عزل المتعلمين عن الأمة؛ لأن قِوام التربية بالقدوة والمحاكاة المتولدتين من
المعاشرة والمخالطة، وقد بدأ الله تعالى تربية نبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله
وسلم) بعزله عن الناس فحبب إليه الوحدة، وألهمه الانزواء والعزلة، ثم علمه
بالوحي ما شاء أن يعلّمه، ولقد قال: (أدبني ربي فأحسن تأديبي) فعلينا أن نستفيد
من هذه الحكمة، مع من منحه الله العصمة، وموافقة أخرى في الرأي وهي
الاستعانة على تعليم الفنون والعلوم الكونية، بأساتذة من أصغر الشعوب الأوربية،
لأن هؤلاء أبعد عن السياسة التي تفسد كل صلاح، وتحول دون كل نجاح.
الذي لاح لي من كلام الكاتب في إخفاق رجال الإصلاح المعنوي هو أن
غرضه منه تحويل وجوه المتعلمين عنه؛ ليتولوا شطر الإصلاح المادي الذي يراه،
وإلا فإن كل واحد من المصلحين الذين ذكرهم قد كان له تأثير كبير في أنواع
الانقلاب الذي حدث في العالم المرة بعد المرة، وليس من شرط النجاح في
المشروع أن يأخذ به كل أحد، ولا أن يكمل فيه كل من أخذ به.
فإذا كان الإصلاح المعنوي لم يعم أفراد الأمم التي ظهر فيها فكذلك الإصلاح
المادي، والسبب في هذا وذاك أن الاستعداد في البشر متفاوت تفاوتًا كبيرًا وكل
يعمل بحسب استعداده؛ ففي أوربا من يملك ألوف الألوف وفيها من يموت جوعًا
وكأيَّنْ من عالم يطلب الثروة، وتعوزه الكِسْرة والحُسْوَة، وليس هذا مقام بيان تأثير
أولئك المصلحين العظام في الأمم، والكاتب يعرفه ولكن غرضه ما ذكرنا.
والقول في تأثير الخطب والمقالات يتصل بالقول في تأثير رجال الإصلاح
المعنوي؛ لأن الخطباء والكتّاب الداعين إلى الإصلاح هم ورثة الأنبياء والشارعين
وهم أركان الإصلاح الاجتماعي والسياسي، ومَنْ ينكر أن لِلُوثر وأشياعه وميرانو
وأضرابه تأثيرًا عظيمًا في تحويل أوربا عما كانت عليه، ونقلها إلى ما انتهت إليه،
ومن ينكر تأثير تلك المقالات والرسائل التي كانت تنشر في فرنسا قبل الثورة
الكبرى، وأن ذلك التأثير هو الذي ثلّ عرش الملك، وسلط الصعاليك على الأمراء
والنبلاء؟ فالإصلاح في جميع الأمم إنما جرى على أيدي الفقراء والمتوسطين؛
بباعث معنوي، ولم يوجد إصلاح في الأرض بدأ به الأغنياء؛ بتأسيس
المشروعات المادية النافعة، وإن شئت فقل إنه لم يوجد إصلاح ماديّ بحت، ولكن
كل إصلاح يُرَقِّي البشر ينتج العمران، والعمران المادي إنما يكون في النهاية لا في
البداية.
كل هذا يعرفه الكاتب الفاضل، ولكن الرأي الذي أبداه؛ إنما هو في اختيار
أقرب الطرق، ولَعَمْري إنه لطريق أُمم، لولا أن فيه من العقبات الكؤود ما يتعذر
معها سلوكه على الضعفاء المحتاجين إلى الإصلاح كالمسلمين.
فيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
يقول: إن الواجب على مريدي إصلاح المسلمين أن يسلكوا سبيل (سسل
روس) بعد إصلاح شؤون منازلهم وتنظيم طرق معيشتهم. مَنْ هم هؤلاء المريدون
للإصلاح، وما هي طبيعة بلادهم التي يعيشون فيها؟ هم نفر من وسط الناس سلمت
فطرتهم، وصَفَتْ فكرتهم، وحسنت في الجملة وبالمصادفة تربيتهم، وامتازوا
بالميل إلى البحث في الأمور العامة والاهتمام بأمر الأمة والملة، ولم يكن لهم
شيء من هذه الخصائص بواسطة تعليم وتربية أُودِعَا في نفوسهم؛ إذ لا يوجد
للمسلمين مدرسة في قُطْر من الأقطار تذكر فيها مصلحة الأمة، أو توجه نفوس
تلامذتها في تعليم كل علم وفن إلى أن المراد به الإصلاح وإنقاذ الأمة مما هي فيه،
وإنما هو الاستعداد الفطري مع مساعدة التوفيق الذي يعبرون عنه بالظروف
والمصادفات، ولو أن هؤلاء اشتغلوا بغير البحث في الأمور العامة، وطرق
الإصلاح؛ لضعف استعدادهم فيه؛ لأنه لم يتربَّوْا عليه، ولم يتعلموا طرقه
تعلمًا فيكون همّهم بعد المدرسة السعي في اتخاذ الوسائل لما وَجّههم إليه
المربون والمعلمون.
وأما طبيعة بلادهم فهي كما يعلم الكاتب ليس فيها موارد قريبة للثروة الواسعة
من الطرق القانونية كالثروة التي جمعها سسل رود. والأعمال الكبيرة التي يتوقف
عليها إيجاد الموارد لا تكون إلا مِنْ قوم تعلَّموا طرقها وفنونها، وتربَّوْا تربية
صاروا بها محلاَّ للثقة في إناطة الأعمال بهم، وأنَّى لبلاد المسلمين بهؤلاء العاملين
العالمين! !
وجملة القول أن الذين يفكرون في الإصلاح من المسلمين ليس عندهم استعداد
لجمع الثروة الكبيرة، وأن بلادهم ليس فيها الآن منابع لهذه الثروة مفجَّرة
يسهل عليهم ورودها وأن الأُمة التي يعيشون فيها ليس لها استعداد لتفجير ينابيع
الثروة الطبيعة التي خصّ الله بلادهم بها؛ لجهلهم وفساد تربيتهم، ونسكت عن حال
حكوماتها وما يُنْتظر أن يلاقيه منهم مريد الإصلاح إذا حاول سلوك الطريق
المشروعة الشريفة لجمع المال.
إن العمران المادي كان نتيجة للإصلاح المعنوي وكذلك يكون.
أما الجابون (اليابان) فلم يكن السائق لهم إلى الإصلاح طلب الثروة، ولم
يكن تقدُّمهم ماديًّا بحتا لا شائبة فيه للدين، بل كان السائق إليه هو صاحب السلطة
الدينية المقدسة والسلطة المدنية القائمة على أساس الدين، وهو عاهلهم ومليكهم
(الميكادو) فهذا العاهل العظيم هو الذي قيد سلطة نفسه بعد أن كانت حكومته
استبدادية مقدسة، وهو الذي دعَّ أمته إلى العلوم والفنون دعًّا، ولا نقول إنه دعاها
دعاء، ولقد كانت التقاليد الدينية مساعدة للسلطة الدينية في عمران اليابان الحاضر
كما يعلم من المقالات التي نشرت في المقتطف الأغرّ معرَّبة عن أصل
إنكليزي لبعض كبار الكُتَّاب السياسيين، ويذكر العارفون بالتاريخ أن أول عاهل
(إمبراطور) اشتغل بالإصلاح في أوربا هو (شارْلمان) كان مندفعًا بدافع
معنوي مَشُوبٍ بالاعتقاد الديني، ولولا الإصلاح الديني الذي قام به زعماء
البروستنت لحبط عمله وكان هباءً منثورًا.
والقول الفصل في الإصلاح الإسلامي هو أن الواجب على العقلاء الذين
يتألمون من ضعف الأمة وهوانها أن يسعوا في إصلاح العقول والنفوس بتعليم
الصغار وتربيتهم بالمدرسة، ووعظ الكبار وتنبيههم بالخطابة والكتابة ليكثر بذلك
حزبهم ولا بد لهم في سلوك هذه السبيل من مُسَالَمَة القوة، سواء كانت أهلية أو
أجنبية.
فعُلِمَ من هذا أن أول واجب على من يشعر بالحاجة إلى الإصلاح في بلد من
البلاد الإسلامية أن يشتغل بالدعوة إلى ما يعتقده في ذلك؛ ليكوّن له حزبًا والدعوة
خطابة وكتابة؛ فإذا صار له حزب فالواجب عليه وعليهم السعي في التربية المِليَّة
والتعليم الذي يعد الناشئين لأعمال العمران والاستعانة على ذلك بالأساتذة المَهَرة
الذين ليس بيننا وبينهم مطامع سياسية، وهذا يختلف باختلاف البلاد الإسلامية،
وأَتمُّها استعدادًا الآن بلاد الهند وبلاد مصر وقد بدأ مسلمو الهند يسعون في التعليم
الأهلي، وشعروا بأنه لا يكون تامًّا نافعًا إلا بإنشاء المدارس الكلية، فاقترح مؤتمر
التربية الإسلامي في هذا العام جمع ألف ألف روبية لإنشاء مدرسة كلية، والمرجو
أن يتم لهم ذلك في وقت قريب، وأن تكون التربية في هذه المدرسة مِليّة إسلامية،
كما وافق على ذلك كبراء الإنكليز هناك، ولا بد لمسلمي مصر أن يتلوا تلوّ مسلمي
الهند في ذلك عن قريب إن شاء الله تعالى، وسيكون للخطب والمقالات تأثير عظيم
في جمع المال اللازم لذلك، فإن الجرائد كالحُدَاة ولا حُدَاء إلا أن يكون مسيرٌ كما، قلنا
في العدد الثاني من منار السنة الأولى ولا يرجى من الذين اتخذوا من دون الله
أولياء، وربطوا قلوبهم بقبور الأموات وقيدوا عقولهم بخرافات الأحياء، أن
يساعدوا على إنشاء مدارس للعلوم الكونية، وهم يشعرون بأنها القاضية على
تقاليدهم الوهمية.
هذه هي الطريقة المثلى للإصلاح ولا يجد المصلحون من الأمة غيرها، أما
الملوك والأمراء فإن لهم إذا أرادوا الإصلاح عملاً آخر وهو أن يبدؤوا بالقوة
العسكرية؛ فيعززوها ما استطاعوا لتكون الدولة آمنة من اعتداء الأعداء الذين
يشغلونها عن الإصلاح الداخلي متى آنسوا منها الضعف ثم يوجهون الأمة إلى تعميم
التربية والتعليم، وتنمية الثروة بالزراعة، والتجارة، والصناعة، ويقيمون حكومة
الشورى، ويجتهدون في توثيق الصلات بينهم وبين أمثالهم من الأمراء والسلاطين،
ولكل حكومة إسلامية ضرب من السير في الإصلاح يختصّ بها، ولا تبلغ الغاية
بدونه. وقد أخطأ سلطان مراكش ما يليق بحاله من السير في طريق الإصلاح
فزلّت قدمه، وكان الواجب عليه قبل كل شيء إصلاح الجندية - كما سبق لنا القول
في غير هذا الجزء - ليأمن العدوان الداخلي والخارجي، ثم يشرع في تعليم الأمة
وتربيتها مستعينًا في أول الأمر بالمسلمين، كالمصريين الموافقين لأهل بلاده في
اللغة، ثم بالأجانب الذين لا طمع لهم في بلاده عندما تستعد بلاده لذلك فلا تأنف
منه.
على أن أملنا في جميع حكام المسلمين ضعيف، بل نحن أقرب إلى اليأس
منهم منا إلى الرجاء فيهم. وهكذا شأن الملوك الذين أَلِفُوا الاستبداد، وما كان عمل
عاهل اليابان؛ إلا فلتة من فلتات الزمان، والظاهر لنا أن كل ما هو مخبوء في
الغيب من الخير لهذه الأُمة؛ فإنما يكون بسعي بعض العقلاء من أفرادها دون
الملوك والأمراء، ولله في غيبه شؤون، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.