للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: مؤرخ عثماني


الدولة العلية وماليتها
بقلم المؤرخ العثماني صاحب التوقيع الرمزي

إن بالمال قوام الدول وعزها وقد كثر الكلام في إصلاح الدولة العلية ما كان
منه وما يجب أن يكون، وأكثر المتكلمين في ذلك على جهل بحقيقة الحال فرأينا أن
نكتب في مالية الدولة وأحوالها كتابًا نستقي مسائله من الموارد الرسمية.
لا يظن ظانٌّ أن الخلل في مالية الدولة حديث بل هو قديم يصعد تاريخه إلى
أواسط حكم السلطان عبد العزيز، وإنما زاد في الأدوار الأخيرة الإسراف والترف من
جهة وسوء سلوك المستخدمين بتحصيل الأموال من جهة أخرى، فسرى داء الخلل
في سائر فروع الحكومة حتى استعصى الداء وعز الدواء.
وأضحت الخزينة العثمانية يضرب بها المثل في الإفلاس، وصارت تؤخر دفع
رواتب المستخدمين أشهرًا متصلة فكان لذلك ضرر عظيم حتى على سياسة
السلطنة؛ إذ لو كانت الحكومة تدفع رواتب المستخدمين في أوقاتها كباقي
الحكومات المنظمة لما كان الظلم وصل إلى هذا الحد، ولما كان ظهر هذا التألم
العام والشكوى من الحكومة وأعمالها ولما كان للأجانب منفذ للتداخل في شؤون الدولة
الداخلية ويا ليتهم يتداخلون لمصلحة جميع رعايا الدولة بدون تفريق بين الملل
والأجناس إنما يتداخلون انتصارًا لفئة دون أخرى، فإذا كان المستخدم لا يقبض
راتبه في السنة سوى شهرين أو ثلاثة شهور فلا بد أن يظلم العباد لسلب أموالهم حتى
يسد رمقه ورمق عياله وأولاده، على أن أكثر صغار المستخدمين في الحكومة
العثمانية هم من أفقر الناس لا يملكون شروى نقير سوى الراتب الرسمي الذي
تجده قليلاً جدًّا بالنسبة إلى الوظيفة.
وكثيرًا ما نسمع بأن الحكومة ألفت لجنة لإيجاد طريقة تعطي بها الرواتب
لأربابها، وبعد أن تعقد تلك اللجنة بضع جلسات وتنشر بعض شذرات عن أعمالها
في الجرائد يختفي أثرها ولا نعود نسمع لها ذكرًا حتى تنقضي شهور فتزف الجرائد
حينئذ إلينا بشرى تأليف لجنة أخرى بناءً على إرادة سنية ولم نَرَ حتى الآن نتيجة
تلك اللجان الكثيرة العدد.
تقسم دواوين الحكومة من حيث دفع الرواتب في عاصمة الدولة إلى ثلاثة
أقسام:
قسم تغطي رواتب مستخدميه كل شهر بصورة منظمة مثل نظارة البوستة
والتلغراف وأمانة الرسومات (الجمارك) وما يتبعها من الفروع ونظارة الدفتر
الخاقاني وصندوق الدين العثماني والبنك الزراعي؛ ولهذا السبب يتهافت طلاب
الاستخدام على الدواوين المذكورة تهافت الجياع على القصاع.
وقسم يقبض ثمانية أو تسعة شهور في السنة ومن هذا القسم وزارة المعارف
ووزارة العدلية (الحقانية) وأمانة الشهر (مشيخة المدينة) .
والقسم الثالث لا يقبض إلا أربعة شهور أو أقل مثل وزارة المالية والخارجية
والداخلية ويستثنى من هذه مصلحة النفوس ذات الريع؛ لأنها تدخل في القسم الأول
وشورى الدولة ونظارة الضبطية ومستخدمي المابين الهمايوني ووزارتي البحرية
والحربية، وهذه الأخيرة هي أسوأ حالاً من جميع الوزارات لكثرة المطالب عليها
واتساع نفقاتها وكثرة عدد الضباط العظام.
أما الحالة المالية في الولايات، فهي أسوأ منهما بالعاصمة؛ لأن الولاة
يضطرون إلى امتثال الأوامر التي تصدر دائمًا من الآستانة قاضية بإرسال كل ما
جمع عندهم من الدراهم قليلاً كان أو كثيرًا إلى الآستانة، وإذا لم يتمكن الوالي من
سرعة الامتثال يأتيه التوبيخ وراء التوبيخ حتى يعزل من وظيفته شر عزلة؛ فلذا
ترى الولاة يتسابقون إلى إرسال الدراهم إلى العاصمة ولا يبقون عندهم لدفع
الرواتب أو للمشروعات المفيدة شيئًا.
وقد كانت الحكومة في السنين الأخيرة اتخذت طريقة زعمت أنها ترضي
الناس فما كان منها اتساع دائرة الخلل اتساعًا عظيمًا واشتداد الأزمة المالية وهذه
الطريقة هي إرضاء كل من يشكو أو يتألم من شيء أو ينتسب إلى أحد العظماء
بوظيفة عضو في أحد المجالس أو بإعطائه راتبًا كبيرًا يقبضه وهو جالس في منزله
والإنعام بالرتب ذات الرواتب الكبيرة جزافًا بدون تفريق بين المستحق وغير
المستحق. والجدول الآتي المستخرج من سجلات الحكومة العثمانية الرسمية لسنة
١٢١٨ هجرية يظهر صدق ما نقول.
* * *
شورى الدولة
هذا المجلس ينقسم إلى ثلاثة فروع: الأول دائرة الملكية، والثاني دائرة
التنظيمات، والثالث دائرة المحاكمات.
ودائرة المحاكمات هذه تنقسم إلى محاكم ابتدائية استئنافية ويحاكَم فيهما أكابر
المستخدمين الذين يرتكبون ما يحط بقدر وظيفتهم، أو يخل بمواد القانون.
وكان الأعضاء في مجالس شورى الدولة الثلاثة قبلاً لا يتجاوزون الأربعين
أما الآن فإن عددهم يزيد على مئة وخمسين بينهم ٧ برتبة وزير و٥ برتبة بالا
وواحد برتبة صدر روم إيلى وواحد برتبة صدر أناطولي و٢٠ برتبة أولى من
الصنف الأول و١٢ برتبة روم إيلي بكلر بكي و٢٠ برتبة أولى من الصنف الثاني
والباقون من أصحاب رتبة المتمايز فما دونها.
ولا يخفى أن عضو شورى الدولة الذي هو أعظم مجالس الدولة الحائز لرتبة
وزير أو بالا أو روم إيلي بكلر بكي لا يمكن أن يكون راتبه أقل من مائة
وخمسين جنيهًا في الشهر وليس بين أعضاء هذا المجلس من يقبض أقل من
عشرين جنيهًا في الشهر فإذا فرضنا لكل عضو في المجلس - ومنهم أصحاب
الرتب السامية وهم الأكثرون - ٤٠ جنيهًا شهريًّا يكون المجموع ٦٠٠٠ جنيه، هذا
أقل ما يمكن تصوره للأعضاء ويزيد عليه رواتب المستخدمين من الرؤساء والكُتَّاب
وغيرهم.
* * *
وزارة المعارف
يوجد في وزارة المعارف مجلسان يقال لأحدهما مجلس المعارف والآخر
يسمى (أنجمن تفتيش) وكان هذا قبل أن تعطى الوظائف جزافًا يتألف من بضعة
أعضاء مقتدرين ذوي أهلية واستعداد لإدارة معارف السلطنة بخلاف ما نرى عليه
أعضاءهما الآن، ولا نخوض غمار هذا الباب؛ لأنه ليس من خصائص رسالتنا هذه
وربما عدنا إليه في رسالة أخرى.
أعضاء المجلسين اليوم هم خمسة وستون ماعدا الرؤساء وكتبة أقلامهما
وراتب كل منهم لا يقل عن ١٥ ج ولا يزيد عن ٥٠ ج في الشهر فإذا فرضنا لكل
منهم ١٠ جنيهات يكون المجموع ٦٥٠ ج شهريًّا ولا يدخل في هذا الحساب رواتب
الكتبة والرؤساء.
والمدارس التابعة لوزارة المعارف كثيرة جدًّا وأغلبها مجانية وهذا هو سبب
الإقبال عليها. ويوجد في الآستانة وحدها ٤٢ مدرسة تتبع الوزارة المذكورة منها
ست عالية، وهي المكتب الملكي ومكتب الحقوق ومكتب الطب الملكي ودار الشفقة
ودار المعلمين ومدرسة الفنون الجميلة وخمس تجهيزية، واحدة منهن خاصة
بالتجارة. وللبنات ثلاث عشرة مدرسة واحدة منها عالية وهي مدرسة المعلمات
وثلاث للصنائع وتسع ابتدائية.
أما مدرسة الصنائع للذكور فإنها تتبع ديوان الأشغال كما أن كثيرًا من
المدارس عالية وتجهيزية وابتدائية تتبع ديوان المعارف العسكري التابع لوزارة
الحرب، وسيجيء بيانه في الكلام على الوزارة المذكورة. ولهذه الوزارة في أغلب
عواصم الولايات وبعض حواضر الألوية (اللواء في الولايات كالمديرية في مصر)
مدرسة تجهيزية ماعدا بعض الولايات الآسيوية ومدارس ابتدائية وأما مراكز
القضاء فقلما يوجد فيها مدارس.
والتعليم في المملكة العثمانية إجباري قانونًا لا عملاً وكل من لا يعلم ابنه أو
بنته يعاقَب حسب المادة الواردة في نظام المدارس فيجب - والحالة هذه - على
الدولة أن تعتني اعتناءً تامًّا بإدارة هذه المدارس المهمل أمرها وتختار لها أساتذة
مقتدرين ذوي كفاءة تامة، وتحور بروجراماتها وتجعلها على أساس متين كمدارس
أوربا مع العناية بالعلوم الدينية والعقائد وتنفذ أحكام القانون القاضي بإجبار الناس
على تعليم أولادهم وتنشئ مدارس ابتدائية في كل مركز قضاء ومدارس تجهيزية
في حواضر الألوية وتكثر من مدارس الصنائع والتجارة في عواصم الولايات ولا
بأس من فرض مبلغ جزئي على تلميذ نظير أجرة التعليم ليساعد على نفقات
المعارف.
ولهذه الوزارة حصة معلومة من أعشار الدولة قدرها اثنان في المئة غير
إيراداتها الخاصة بها. فلو أُنفقت هذه الأموال في الوجوه الموضوعة لها لعادت
على الأمة بالنفع العظيم.
... ... ... ... ... ... ... ... (العثماني) (م. ق.) ...
(لها بقية)