للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تتمة تقريظ رسالة الشيخ محمد بخيت

قال المؤلف بعد ما تقدم: ومن هذا القبيل بلا شبهة الاجتماع للصلاة على
النبي صلى الله عليه وسلم لأنها جماع الخير ومفتاح البركات بإجماع المسلمين.
أقول: إن الصلاة على النبي والدعاء له مشروع ولكن لم يقل أحد من السلف
ومن ينظر إلى قوله من الخلف بمشروعية الاجتماع لها وكونها شعارًا دينيًّا يُعيَّن له
وقت مخصوص وصيغ مخصوصة واجتماع مخصوص. وإذا كان الشعار لا يثبت
إلا بشرع كما تقدم فعلى المصلين أن يتحاموا ذلك وليصلوا ويدعوا مجتمعين وفرادى
ما تحاموا جعل ذلك شعارًا. ولا معنى لهذا الإجماع الذي ذكره. فالذين ينعقد بهم
الإجماع لم يُنقَل عنهم هذا القول: (إنها جماع الخير ومفتاح البركات) وإن أراد
أنهم قالوا ما هو بمعناه قلنا: إن معناه غير محدد متعين وما ذاك الذي قالوه بمعناه ومن
الذي نقله بالإجماع؟ الذي يقوله كل مسلم إنها مشروعة وكل مشروع خير نافع
ومفيد وبهذا القدر كفاية.
بدع المواسم:
ثم قال: ومن هذا القبيل الاجتماع لقراءة وسماع نحو قصة المعراج وفضائل
ليلة النصف من شعبان وليلة القدر في لياليها المشهورة؛ لأن الأولى سيرة النبي
وأحاديثه الصحيحة والثانية والثالثة آيات قرآنية وأحاديث نبوية جاءت في فضل
الليلتين وبيان معاني ذلك مما يرغّب في العمل الصالح.
ونقول: الاجتماع لهذه القصص صار له كيفية مخصوصة، ووقت مخصوص
ويكون في المساجد ويقتضي نفقات كثيرة تؤخذ من أوقاف المسلمين بغير حق
فيكثرون فيه إضاءة القناديل والشموع في المساجد والمنائر وتدار في بعض المساجد
أقداح الشراب الحلو على الحاضرين وقد تكون هذه الأقداح من الذهب أو الفضة
وذلك حيث يكون الأمراء ومن يتبعهم من الحكام والعلماء وبعض القصص التي تقرأ
فيها تشتمل على الأحاديث المكذوبة والواهية، لا سيّما قصة المولد التي تدخل في
كلامه بمقتضى كلمة (نحو) .
ثم إن هذا الشعار المبتدع يستتبع بدعًا أخرى كاجتماع أهل اللهو الباطل
المصبوغ بصبغة الدين بطبولهم ومزاميرهم في المسجد يعزفون ويغنون ويصفقون
ويهزأون بأسماء الله تعالى إذ يذكرونها في لهوهم هذا ويجتمع عليهم في بعض
المساجد (كمسجد القلعة) الغوغاء والإفرنج نساءً ورجالاً فيكونون في نظر هؤلاء
سخرية وآية على أن دين الإسلام دين المجانين والحمقى (حاشاه) .
هذا بعض وصف هذه الاجتماعات التي جعلت شعائر إسلامية تقام في بيوت
الله تعالى، ومن يقرأ رسالة المؤلف لا يفهم منها إلا كون هذا الاجتماع المعروف
مشروعًا في الإسلام ومن القرائن أن الناس يرون العلماء يحضرون هذه الاحتفالات،
نعم، إنه قال في جملة أخرى: لا يجوز التكلف في تغيير الصوت في الذكر
والصلاة على النبي e كما يفعله العوام فيمنع، ثم قال: وكذا يمنع كل منكر وكل
شيء اشتمل عليه مجلس الذكر والخير دون نفس الذكر والخير، وهذا القول يشبه
أن يكون احتراسًا من الانتقاد فإن الاجتماعات التي ذكرها معظمها بدع ومنكرات
حتى صار الأقرب أن يؤمر بتكريم ذكر الله أن يكون فيها احترامًا له فإن هذه
الاجتماعات قد تكونت هكذا من المنكرات فلا سبيل إلى إجازتها وجعلها مشروعة
واعتبار المنكرات عرضًا لاحقًا بها يخص بالإنكار دونها. وهذه الآيات وتفسيرها
والأحاديث وشرحها تقرأ في مجالس العلم ولا يخطر في بال أحد أن يقول إنها منكرة.
بل نقول: إن مجالس العلم في نحو الأزهر لا تخلو من منكر في الغالب ولكن ذلك
هو المنكر العارض والأصل في المجلس والاجتماع إفادة العلم واستفادته.
بدع الجنائز:
وقد أحسن المصنف عقيب ذلك في الجزم بحظر ما يكون في الجنائز من
(رفع أصوات المشيعين للجنازة بنحو قرآن أو ذكر أو قصيدة بردة أو يمانية) وعده
ذلك من البدع المذمومة وعلل ذلك بأن النبي e تركه مع قيام المقتضى لفعله قال:
(فيكون تركه سنة وفعله بدعة مذمومة) كما هو الحكم في مثله بل نقل حديثًا رواه
أبو داود مرفوعًا وهو: (لا تتبع الجنائز بصوت ولا نار) . ثم ذكر أن بعض
المتأخرين جوز رفع الصوت بالذكر (مخالفة لأهل الكتاب؛ لأنهم يمشون في الجنائز
ساكتين) رد عليه هذا القول بوجهين: أحدهما اتباع النص الناهي عنه والنافي أن
العلة ممنوعة فإن أهل الكتاب يرفعون أصواتهم في الجنائز لهذا العهد ونزيد عليه
أن هذه العادات سرت إلى المسلمين منهم. ثم قال ما نصه: (وأما ما يفعل في
زماننا أمام الجنائز من الأغاني ورفع الصوت بالبردة واليمانية على الوجه الذي
يفعل في هذا الزمان والمشي بالمباخر فلا يقول بجوازه أحد) ثم بيَّن أن عرف
الناس لا يعتبر في هذا الزمان كما صرح به فقهاؤهم.
أقول قد أحسن في القول بحظر هذه البدع ومثل هذا الذي ذكره في كونه مبتدعًا
مذمومًا ما تقدم الكلام فيه من الاجتماع لقصة المعراج وليلة النصف وليلة القدر وليلة
المولد. وأما العرف المحكم شرعًا فلا معين لاشتراط كونه جرى في عهد الصحابة
وإلحاقه بالإجماع كما قال، وإنما هو العرف الذي يجري في المعاملات الدنيوية
ويتواطأ الناس عليه لموافقته لمصلحتهم وهو لا يخالف نص الكتاب والسنة ولا
يتعلق بالأمور الدينية المحضة.
لا عبرة بسكوت العلماء على المنكر:
وأحسن أيضًا كل الإحسان في قوله بعد إبطال عرفهم فيما ذكر: (وكذا ما
تعارفوه من التغني أي بمدح السلاطين والترضي وغير ذلك وقت الخطبة فإن كل
ذلك ممنوع اتفاقًا يثاب من منعه أو أمر بمنعه كما أن فعل شيء مما علم أنه بدعة
مذمومة شرعًا في بعض المواضع التي يكون بها العلماء كالجامع الأزهر مع
سكوتهم عليه لا يصلح دليلاً على الحل؛ لأن المعول عليه في الأحكام الشرعية هو ما
ذكرنا من الأدلة الأربعة) ، فليتأمل قول هذا العالم الأزهري أولئك العوام الذين
يحتجون على المنار في إنكار بدع الموالد والمساجد بأن العلماء يشاهدونها ولا
ينكرونها بل يقرون الناس عليها. وهذا آخر ما أردنا كتابته في تقريظ هذه الرسالة
الوجيزة انتقادًا واستحسانًا وذلك عناية منا بمؤلفها فما كل مَن كتب يبالى بكلامه.