للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


العقائد من الأمالي الدينية [*]
الدرس (٣٧)

في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام
(المسألة ال١٠٣) حكمة ظهور الإسلام في العرب:
نذكر هنا كلمة من مقالة (إعادة مجد الإسلام) التي كتبناها في الجزء الرابع
من المجلد الثالث هي:
كان العالم الإنساني قبل ظهور الإسلام في غمرة من الشقاء والتعاسة وظلمات
من الفتن وفساد الأخلاق وتداعي أركان المدنية السابقة وصدع بنيانها فأراد الحي
القيوم أن يحيي هذا النوع حياة طيبة ويقيم بناء مدنيته على أساس من الحكمة ليثبت
ويبقى إلى ما شاء الله تعالى، ويبلغ به الإنسان كماله المستعد هو له في أصل الفطرة
القويمة، فأظهر له - جل ثناؤه - الإسلام في الأمة العربية فحملته وطافت به العالم
المستعد لقبوله بما سبق له من المدنية فما كان إلا كلمح البصر أو هو أقرب، حتى
عم نوره المشرق والمغرب، ودخل الإنسان في طور جديد وأقام أركان مدنيته على
أسس جديدة ثابتة لا تتزعزع ولا تتزلزل مادامت الأرض أرضًا والسماء سماءً.
وكيف تتزلزل نواميس الفطرة أو تزول سنن الخليقة وقد أخبر مبدعها الحكيم
الخبير بأنها محفوظة من التبديل والتحويل.
لماذا اختار الله الأمة العربية لهذا الإصلاح على سائر الأمم؟
اختارهم وهو أعلم لأسباب ووجوه:
(أحدها) أنها كانت وسطًا بين الأمم التي سبقت لها المدنية والبلاد التي أقيم
فيها من قبل بناء الحضارة وهي بلاد مصر وسوريا والجزيرة والعراق وفارس،
حيث كان التمدن الكلداني والآشورى والبابلي والفارسي والفينيقي والمصري
واليوناني والروماني فيسهل عليها بذلك أن ترمي بذور المدنية في الأرض القابلة
وتلقي مبادئ الإصلاح في النفوس المستعدة.
(ثانيها) أنها كانت - ولا مدنية لها سابقة (معروفة) - أشد استعدادًا من
تلك الأمم التي سبقت لها المدنية لمبدأ الإصلاح الإسلامي الجديد ووضع أساسه
الأول، وهو استقلال الإرادة واستقلال الفكر والرأي؛ لأنه لم يكن لها رؤساء في
الدين والسياسة يحكمونها بالجبروت والاستبداد فتفنى إرادتها في إرادتهم، وتتلاشى
آراء أفرادها في آرائهم، فلا يرجع إليهم أحد قولاً، ولا يملك لنفسه من دونهم ضرًّا
ولا نفعًا، وأما تلك الأمم فقد كان المرؤوسون فيها ذائبين في رؤساء الدين والدنيا
حتى لم تبق لهم إرادة ولا فكر ولا رأي إلا ما ينفذ إرادة الرؤساء ويمثل أفكارهم
وآراءهم (ومن هنا نفهم حكمة ظهور الإسلام بمظهر السيادة وعناية خلفائه بالفتح
والاستيلاء وهي إزالة ذلك السلطان الغاشم والاستبداد القاهر ليكون الناس أحرارًا
فيما يعتقدون ولهم بعد ذلك الخيار في الإسلام وعدمه إذ {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الغَيّ} (البقرة: ٢٥٦) وزال المانع من طريق الإدراك والفهم) .
(ثالثها) أن رقة الوجدان وقوة الفهم والإدراك كانتا بالغتين فيها درجة الكمال
بمجرد سلامة الفطرة، وأمة هذا شأنها تكون أقبل الأمم لدين الفطرة الذي جاء يخاطب
العقل والوجدان معًا ويمحو من الكون أثر التقليد الأعمى ويطمس رسومه، وتكون
أسرع انفعالاً بالمؤثرات، وأشد تمسكًا بالمعتقدات.
(رابعها) أنه كان عندها من عزة النفس وشدة البأس وكمال الشجاعة
والحرية الشخصية وما يتبع هذا من الفضائل ما يحملها على حفظ ما تعتقده حقًّا
والاستماتة في المدافعة عنه على حين أمات نفوس الأمم الأخرى وذهب بإرادتها -
ما تواتر عليها من الظلم والاضطهاد أحقابًا طويلة - حتى سهل عليها مشايعة الظالمين
على خذل الحق وتأييد الباطل كما هو واقع في غير أهل البادية من المسلمين لهذا
العهد. وهذا الوجه يقرب في المعنى من الوجه الثاني.
(خامسها) أنه لم يكن عند العرب من التقاليد الدينية شيء يستندون فيه على
وحي سماوي على سلف من الأنبياء أو الحكماء والربانيين فيدافع ما جاء به الإسلام
أو يزاحمه. وإنما كان عندهم الشرك في العبادة الذي يسهل إبطاله بالبرهان، على
وجه يقبله العقل وينفعل له الوجدان، إذا وجد استقلال الفكر والرأي وكذلك كان اهـ.
ونزيد الآن سببًا سادسًا هو السبب الأظهر، والوجه الأنور، ونذكره على
النسق السابق فنقول:
(سادسها) كون العرب أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب ولم تمارس الأحكام
السياسية والمدنية والقضائية. وبيان هذا من وجهين:
(أحدهما) ما فهم من الأسباب السابقة وهو وجوب كون الإصلاح الجديد
الذي احتاجته الأمم كلها غير مشوب بشيء من أمشاج الأديان والمدنيات السابقة؛
لأن تلك الأديان قد انطمست وجوهها وتلك المدنيات قد انقلبت إلى ترف مفسد
وبهيمية محضة. فلو ظهر الإصلاح في أهلها لصدهم عنه ما هم فيه ولضاع الزمن
الطويل في مكافحة الجديد للقديم وكانت الأقوام قد تقيدت بما هي فيه حتى لا طريق
لخروجها منه إلا قارعة من دونهم تحل بهم فتزلزل ما هم فيه زلزالاً!
كانت تلك الأمم تقيم بناء مدنيتها على أركان الدين والعلم والسياسة المنتظمة
وأحكامها، وهذه هي أركان السعادة البشرية في هذه الحياة ولكنها أساءت استعمالها
فلفحها هجير الشقاوة فكانت من تلك الأركان في ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا
يغني من اللهب، بل كان كل ما حل بها من الشقاء هو من دخان ذلك الظل الذي
ذهب بكل نور، فالأديان كانت قد انقلبت وثنية تضل العقول، وتذل النفوس،
والعلوم كانت وسائل الترف، وذرائع السرف، والأحكام كانت سوط البغي والعتو،
وسيف القهر والعلو، فكانت جميع آلات الرقي آلات للتدلي والهويّ.
وكانت العرب في إبان ذلك خلوًا من كل ذلك ولكنها كانت على جهلها وفساد
أخلاقها ترتقي في بداوتها ارتقاءً فطريًّا، وتستعد لقبول الهداية استعدادًا طبيعيًّا،
حتى إذا جاءها العلم والإصلاح كانت كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبًا خاليًا فتمكَّنا
(والوجه الثاني) وهو أوجه الوجوه وأظهر الأسباب والحكم، ظهور الآية
الكبرى والحجة العظمى، ظهور العلم الأعلى، والتعليم الأجلى، على يد أمي نشأ
في الأميين، وتربى بين الجاهلين، ولو نشأ في أمة من تلك الأمم لقيل إنه عالم
نقح العلوم وهذبها، وحرر الشرائع وشذبها، وحكيم نظر في تاريخ البشر فاستخرج
منها الحكم والعبر: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا
لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: ٤٨) .
(م ١٠٤) حال النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته:
لم يكتب الكاتبون في هذا المقام مثل ما كتبه في رسالته الأستاذ الإمام ذلك أنه
بيَّن ما كانت عليه الأمم قبل البعثة من الفساد والشرور ثم قال:
أفلم يكن من رحمة الله بأولئك الأقوام أن يؤدبهم برجل منهم يوحي إليه رسالته،
ويمنحه عنايته، ويمده من القوة بما يتمكن معه من كشف تلك الغمم، التي أظلت
رءوس جميع الأمم؟ نعم، كان ذلك ولله الأمر من قبل ومن بعد.
في الليلة الثانية عشرة من ربيع الأول عام الفيل (٢٠ أبريل سنة ٥٧١ من
ميلاد المسيح عليه السلام) ولد محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي
بمكة. ولد يتيمًا توفي والده قبل أن يولد، ولم يترك له من المال إلا خمسة جمال
وبعض نعاج [١] وجارية ويروى أقل من ذلك، وفي السنة السادسة من عمره فقد
والدته أيضًا فاحتضنه جده عبد المطلب وبعد سنتين من كفالته توفي جده فكفله من
بعده عمه أبو طالب وكان شهمًا كريمًا غير أنه كان من الفقر بحيث لا يملك كفاف
أهله. وكان صلى الله عليه وسلم من بني عمه وصبية قومه كأحدهم على ما به من
يُتم فقد فيه الأبوين معًا وفقر لم يسلم منه الكافل والمكفول ولم يقم على تربيته مهذِّب،
ولم يُعنَ بتثقيفه مؤدب، بين أتراب من نبت الجاهلية، وعشراء من حلفاء الوثنية،
وأولياء من عبدة الأوهام، وأقرباء من حفدة الأصنام، غير أنه مع ذلك كان ينمو
ويتكامل بدنًا وعقلاً وفضيلةً وأدبًا حتى عرف بين أهل مكة وهو في ريعان شبابه
بالأمين، أدب إلهي لم تجرِ العادة بأن تزين به نفوس الأيتام من الفقراء خصوصًا
مع فقر القَوَّام. فاكتهل e كاملاً والقوم ناقصون، رفيعًا والناس منحطون، موحدًا
وهم وثنيون، سلمًا وهم شاغبون [٢] ، صحيح الاعتقاد وهم واهمون، مطبوعًا
على الخير وهم به جاهلون، وعن سبيله عادلون.
ومن السنن المعروفة أن يتيمًا فقيرًا أميًّا مثله تنطبع نفسه بما تراه من أول
نشأته إلى زمن كهولته ويتأثر عقله بما يسمعه ممن يخالطه لا سيّما إن كان من ذوي
قرابته وأهل عصبته، ولا كتاب يرشده، ولا أستاذ ينبهه، ولا عضد إذا عزم
يؤيده فلو جرى الأمر فيه على جاري السنن لنشأ على عقائدهم. وأخذ بمذاهبهم إلى
أن يبلغ مبلغ الرجال، ويكون للفكر والنظر مجال، فيرجع إلى مخالفتهم إذا قام له
الدليل على خلاف ضلالاتهم، كما فعل القليل ممن كانوا على عهده [٣] ولكن الأمر
لم يجرِ على سنته بل بُغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره، فعاجلته طهارة العقيدة،
كما بادره حسن الخليقة، وما جاء في الكتاب من قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} (الضحى: ٧) ، لا يفهم منه أنه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد أو على
غير السبيل القويم قبل الخُلق العظيم، حاش لله؛ إن ذلك لهو الإفك المبين، وإنما
هي الحيرة تلم بقلوب أهل الإخلاص، فيما يرجون للناس من الخلاص، وطلب
السبيل إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين، وإرشاد الضالين، وقد هدى الله نبيه
إلى ما كانت تتلمسه بصيرته باصطفائه لرسالته، واختياره من بين خلقه لتقرير
شريعته.
وجد شيئًا من المال يسد حاجته - وقد كان له في الاستزادة منه ما يرفه
معيشته - بما عمل لخديجة رضي الله عنها في تجارتها وبما اختارته بعد ذلك زوجًا
لها وكان فيما يجتنيه من ثمرة عمله غناءً له وعونًا على بلوغه ما كان عليه أعاظم
قومه؛ لكن لم ترقه الدنيا ولم تُغْرِهِ زخارفها، ولم يسلك ما كان يسلكه مثله في
الوصول إلى ما ترغبه الأنفس من نعيمها، بل كلما تقدم به السن زادت فيه الرغبة
عما كان عليه الناس كافة ونما فيه حب الانفراد والانقطاع إلى الفكر والمراقبة
والتحنث بمناجاة الله تعالى والتوسل إليه في طلب المخرج من همه الأعظم في
تخليص قومه ونجاة العالم من الشر الذي تولاه، إلى أن انفتق له الحجاب عن عالم
كان يحثه إليه الإلهام الإلهي، وتجلي عليه النور القدسي، وهبط عليه الوحي من
المقام العلي، في تفصيل ليس هذا موضعه.
لم يكن من آبائه ملك فيطالب بما سلب من ملكه وكانت نفوس قومه في
انصراف تام عن طلب مناصب السلطان، وفي قناعة بما وجدوه من شرف النسبة
إلى المكان، دل عليهما ما فعل جده عبد المطلب عند زحف أبرهة الحبشي على
ديارهم. جاء الحبشي لينتقم من العرب بهدم معبدهم العام، وبيتهم الحرام، ومنتجع
حجيجهم ومستوى العلية من آلهتهم، ومنتهى حجة القرشيين في مفاخرتهم لبني
قومهم، وتقدم بعض جنده فاستاق عددًا من الإبل فيها لعبد المطلب مئتا بعير وخرج
عبد المطلب في بعض قريش لمقابلة الملك فاستدناه وسأله حاجته فقال: هي أن ترد
إليَّ مئتي بعير أصبتها لي، فلامه الملك على المطلب الحقير، وقت الخطب
الخطير، فأجابه: أنا رب الإبل أما البيت فله رب يحميه، هذا غاية ما ينتهي إليه
الاستسلام وعبد المطلب في مكانه من الرياسة على قريش فأين من تلك المكانة
محمد صلى الله عليه وسلم في حالة من الفقر ومقامه في الوسط من طبقات أهله
حتى ينتجع ملكًا أو يطلب سلطانًا؟ ، لا مال، لا جاه، لا جند، لا أعوان، لا
سليقة في الشعر، لا براعة في الكتاب، ولا شهرة في الخطاب، لا شيء كان عنده
مما يُكسب المكانةَ في نفوس العامة، أو يرقى به إلى مقامٍ ما بين الخاصة.
ما هذا الذي رفع نفسه فوق النفوس، ما الذي أعلى رأسه على الرؤوس، ما
الذي سما بهمته على الهمم، حتى انتدب لإرشاد الأمم وكفالته لهم كشف الغمم بل
وإحياء الرمم؟ ما كان ذلك إلا ما ألقى الله في روعه من حاجة العالم إلى مقوم لما
زاغ من عقائدهم، ومصلح لما فسد من أخلاقهم وعوائدهم، ما كان ذلك إلا وجدانه
ريح العناية الإلهية ينصره في عمله، ويمده في الانتهاء إلى أمله، قبل بلوغ أجله،
ما هو إلا الوحي الإلهي يسعى نوره بين يديه فيضيء له السبيل، ويكفيه مؤنة الدليل،
ما هو إلا الوعد السماوي، قام لديه مقام القائد والجندي، أرأيت كيف نهض
وحيدًا فريدًا يدعو الناس كافة إلى التوحيد، والاعتقاد بالعلي المجيد والكل ما بين
وثنية مفرقة ودهرية وزندقة.
نادى في الوثنيين بترك أوثانهم ونبذ معبوداتهم وفي المشبهين المنغمسين في
الخلط بين اللاهوت الأقدس وبين الجسمانيات بالتطهر من تشبيههم وفي الثنوية
بإفراد إله واحد بالتصرف في الأكوان ورد كل شيء في الوجود إليه، أهاب
بالطبيعين ليمدوا بصائرهم إلى ما وراء حجاب الطبيعة فيتنورا سر الوجود الذي
قامت به، صاح بذوي الزعامة ليهبطوا إلى مصاف العامة في الاستكانة إلى سلطان
معبود واحد هو فاطر السموات والأرض والقابض على أرواحهم في هياكل كل
أجسادهم. تناول المنتحلين منهم لمرتبة التوسط بين العباد وبين ربهم الأعلى فبين
لهم بالدليل وكشف لهم بنور الوحي أن نسبة أكبرهم إلى الله كنسبة أصغر المعتقدين
بهم وطالبهم بالنزول عما انتحلوه لأنفسهم من المكانات الربانية إلى أدني سلم من
العبودية، والاشتراك مع كل ذي نفس إنسانية في الاستعانة برب واحد يستوي
جميع الخلق في النسبة إليه لا يتفاوتون إلا فيما فضل به بعضهم على بعض من علم
أو فضيلة.
وخز بوعظه عبيد العادات وأُسراء التقليد ليعتقوا أرواحهم ما استعبدوا له،
ويحلوا أغلالهم التي أخذت بأيديهم عن العمل، وقطعتهم دون الأمل، مال على
قراء الكتب السماوية والقائمين على ما أودعته من الشرائع الإلهية فبكّت الواقفين
عند حروفها بغباوتهم، وشدد النكير على المحرفين لها الصارفين لألفاظها إلى غير ما
قصد من وحيها اتباعًا لشهواتهم. ودعاهم إلى فهمها، والتحقق بسر علمها، حتى
يكونوا على نور من ربهم. ولفت كل إنسان إلى ما أودع فيه من المواهب الإلهية
ودعا الناس أجمعين ذكورًا وإناثًا عامة وسادات إلى عرفان أنفسهم وأنهم من نوع
خصه الله بالعقل وميزه بالفكر وشرفه بهما وبحرية الإرادة فيما يرشده إليه عقله
وفكره، وأن الله عرض عليهم جميع ما بين أيديهم من الأكوان وسلطهم على فهمها
والانتفاع بها بدون شرط ولا قيد إلا الاعتدال والوقوف عند حدود الشريعة العادلة
والفضيلة الكاملة. أقدرهم بذلك على أن يصلوا إلى معرفة خالقهم بعقولهم وأفكارهم
بدون واسطة أحد إلا مَن خصهم الله بوحيه. وقد وكل إليهم معرفتهم بالدليل كما كان
الشأن في معرفتهم لمبدع الكائنات أجمع والحاجة إلى أولئك المصطفَين إنما هي في
معرفة الصفات التي أذن الله أن تعلم منه، وليست في الاعتقاد بوجوده.
وقرر أن لا سلطان لأحد من البشر على آخر منه إلا ما رسمته الشريعة
وفرضه العدل ثم الإنسان بعد ذلك يذهب بإرادته إلى ما سخرت له بمقتضى الفطرة،
دعا الإنسان إلى معرفة أنه جسم وروح وأنه بذلك من عالمين متخالفين وإن كانا
ممتزجين وأنه مطالَب بخدمتهما جميعًا وإيفاء كل منهما ما قررت له الحكمة الإلهية
من الحق. دعا الناس كافة إلا الاستعداد في هذه الحياة لما سيلاقون في الحياة
الأخرى وبيّن لهم أن خير زاد يتزوده العامل هو الإخلاص لله في العبادة والإخلاص
للعباد في العدل والنصيحة والإرشاد.
قام بهذه الدعوة العظمى وحده ولا حول له ولا قوة، كل هذا كأنه منه والناس
أحباء ما ألفوا وإن كان خسران الدنيا وحرمان الآخرة أعداء ما جهلوا وإن كان
رغد العيش وعز السيادة ومنتهى السعادة. كل هذا والقوم حواليه أعداء أنفسهم
وعبيد شهواتهم لا يفقهون دعوته. ولا يعقلون رسالته. عقدت أهداب بصائر العامة
منهم بأهواء الخاصة. وحجبت عقول الخاصة بغرور العزة عن النظر في دعوى
فقير أمي مثله لا يرون فيه ما يرفعه إلى نصيحتهم والتطاول إلى مقاماتهم الرفيعة
باللوم والتعنيف.
لكنه في فقره وضعفه كان يقارعهم بالحجة ويناضلهم بالدليل ويأخذهم
بالنصيحة ويزعجهم بالزجر وينبههم للعبر ويحوطهم مع ذلك بالموعظة الحسنة كأنما
هو سلطان قاهر في حكمه، عادل في أمره ونهيه أو أب حكيم في تربية أبنائه شديد
الحرص على مصالحهم رؤوف بهم في شدته رحيم في سلطته.
ما هذه القوة في ذلك الضعف؟ ما هذا السلطان في مظنة العجز؟ ما هذا العلم
في تلك الأمية؟ ما هذا الرشاد في غمرات الجاهلية؟
إن هو إلا خطاب الجبروت الأعلى، قارعة القدرة العظمى نداء العناية العليا.
ذلك خطاب الله القادر على كل شيء الذي وسع كل شيء رحمة وعلمًا، ذلك نداء
أمر الله الصادع يقرع الآذان ويشق الحجب ويمزق الغلف، وينفذ إلى القلوب على
لسان من اختاره لينطق به واختصه به وهو أضعف قومه ليقيم من هذا الاختصاص
برهانًا عليه بعيدًا عن الظنة بريئًا من التهمة؛ لإتيانه على غير المعتاد بين خلقه.
أي برهان على النبوة أعظم من هذا؟ أمي قام يدعو الكاتبين إلى فهم ما
يكتبون وما يقرءون، بعيد عن مدارس العلم، صاح بالعلماء ليمحّصوا ما كانوا
يعلمون، في ناحية عن ينابيع العرفان جاء يرشد العرفاء، ناشئ بين الواهمين هب
لتقويم عوج الحكماء. غريب في أقرب الشعوب إلى سذاجة الطبيعة وأبعدها عن
فهم نظام الخليقة والنظر في سننه البديعة أخذ يقرر للعالم أجمع أصول الشريعة
ويخط للسعادة طرقًا، لن يهلك سالكها ولن يخلص تاركها.
ما هذا الخطاب المفحم؟ ما ذلك الدليل الملجم؟ أأقول: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ
هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} (يوسف: ٣١) لا، لا أقول ذلك؛ ولكن أقول كما أمره الله
أن يصف نفسه: إِن هو بشر مثلكم يوحى إِلَيه: نبي صدّق الأنبياء، ولكن لم يأتِ
في الإقناع برسالته بما يلهي الأبصار أو يحير الحواس أو يدهش المشاعر؛ ولكن
طالب كل قوة العمل فيما أعدت له واختص العقل بالخطاب، وحاكم إليه الخطأ
والصواب، وجعل في قوة الكلام وسلطان البلاغة وصحة الدليل مبلغ الحجة وآية
الحق الذي {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: ٤٢) . ا. هـ
((يتبع بمقال تالٍ))