للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


سلطة مشيخة الطريق الروحية [*]
(تابع ما قبله)
لما رأى الفرنسويون عند تداخلهم في الجزائر نفوذ شيوخ الطريقة التيجانية
الروحي وشدة خضوع العامة وتسليم الخاصة لهم، اكتنهوا شؤونهم فألفوهم قد اتخذوا
هذه الرياسة وسيلة للمال والجاه، وذريعة للمكاثرة والمفاخرة، وظهر لهم إمكان
استخدام هذا النفوذ لمد ظلال فرنسا وتمكين سلطتها في تلك البلاد، وكذلك كان.
أظهر جماعة من الفرنسويين العارفين بالعربية الإسلام، وامتزجوا بشيوخ
الطريقة امتزاج الماء بالراح وأمدوهم بالمال، ففرقوا الكثير منهم في مراتب الطريقة،
كالنقابة والخلافة، وجعلوا منهم شيوخًا مسلكين، ثم صاروا أئمة وخطباء
ومدرسين، وناهيك بالأوروبي إذا صار رئيسًا مطاعًا كيف يخدم أمته وحكومته،
ولقد ساعد رؤساء هذه الطريقة البعوث الفرنساوية التي أرسلتها فرنسا للصحراء
الكبرى والسودان الغربي، ومكنوا لهم في أرض الجزائر وتونس، وكانوا أكبر
الخاذلين للأمير عبد القادر في محاربة فرنسا، حتى أنهم حاربوه جهاراً عند حصار
مدينة (عين المهدي) وبمساعدتهم حصل ليون روس الفرنساوي الذي تظاهر
بالإسلام على فتوى من علماء القيروان اتخذها الفرنسويون مع الفتوتين اللتين حصل
عليهما هذا الدخيل من مصر ومكة (بوسائط لا محل لها هنا) أدلة لإخماد حمية
مسلمي الجزائر ليقعدوا عن محاربة فرنسا، ونقلت الجرائد الفرنسوية عنهم في تلك
الأيام أنهم كانوا يلقون في نفوس عامة العرب: (أن الخوف من الفرنسويين هو
الخوف من الله تعالى) ولا غرابة في ذلك؛ فإن لشيوخ الطريق الجهال في كل
البلاد من الوساوس التي يمكن الاستعانة بها على مثل هذا الغرض ما لا يحصى.
منها: الرضا بالقضاء والاستسلام للقدر.
ومنها: أن هذا من علامات قيام الساعة وانتهاء الزمان، وإنه لواقع ما له من
دافع، فمعارضته عبث.
ومنها: أن وقوع هذه المصائب على المسلمين أمور أخبر بها النبي صلى الله
علية وسلم، فالسعي في إبطالها سعي في إظهار عدم صدقه، ولقد سمعت مثل هذا
التعليل الغريب عمن يدعي العلم ويُعرف بالصلاح.
ومنها: أن الولي الفلاني أو الشيخ الفلاني علم بالكشف والاطلاع على الغيب
أن الأمر الفلاني لابد من إنفاذه، ومن عارضه يخسر ولا يظفر.
ومنها: أن هذا شيء أشارت إلى حصوله الجفور، فمعارضته جهل وغرور.
ومنها: أننا نقاوم هذا الخَطب بالدعاء والتوجهات، أو بالخوارق والكرامات،
كما نقل عن أهل بخارى أنهم قالوا أن شاه نقشبند يرد روسيا عن بلادهم، وكما نقل
عنهم وعن غيرهم من الاجتماع لقراءة البخاري الشريف لرد الأعداء عن بلادهم.
أمثال هذه الوساوس المصادِمة للعقل والدين، منتشرة بين المسلمين في جميع
الأقطار، وهي على ضررها وعللها مأخوذة بالتسليم من غير إنكار، ومن أنكر عليها
وقال: إنها تَعِلاَّت غير صحيحة، أقاموا عليه النكير، وحرفوا الكلم عن
مواضعه، فبعضهم يقول: هذا معتزلي أو وهابي، لا يعتقد بالدعاء والكرامات
وشفاعة الأولياء، ولا يؤمن بالقضاء والقدر. وبعضهم يقول: إن هذا فلسفي لا
يصدق بقرب الساعة وانتهاء الزمان، وينكر بركة الحديث الشريف، وبعضهم يقول:
إن هذا عدو مبين؛ لأنه ينكر على المسلمين.
وهكذا تشيع بينهم تسمية خادم الدين عدو الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم.
ولننقل عن الفرنسويين أنفسهم ما يشهد بصحة كلامنا في استخدامهم أهل تلك
الطريقة، قال علامة تقويم البلدان (الجغرافيا) المسيو أليزيه روكلوا في الصفحة
٦٣٩ من المجلد الحادي عشر من كتابه المسمى: (رسم الأرض) ما نصه:
(إن بعضاً من رؤساء الطرق في الجزائر شرهون طامحون لنيل المال والجاه،
بُعَداء عن التمسك الحقيقي بالدين، لا يتحامون إدخال كثير من النصارى في زمرة
إخوانهم ولا يتخلفون عن مساعدتهم عند الحاجة) .
وجاء في رسالة طويلة للمسيو دوكنستان، نشرت في مجلة (العالمين) الشهيرة
في العدد الصادر في أول مارس سنة ١٨٨٦ شرح فيها الكاتب المساعدات العظيمة
التي يأتيها شيوخ الطريقة التيجانية خدمة للفرنساويين، فهي الطريقة المثلى التي
ينبغي أن تسلكها حكومة فرنسا في موالاتهم السرية؛ لأن المجاهرة قد تضر، كما
حصل في إبان محاربة الأمير عبد القادر.
ومما جاء في تلك الرسالة قوله: (إنني - بغاية الأسف - ألاحظ انكباب
ضباطنا الفرنساويين في الجزائر على الدخول في زمرة الطريقة التيجانية وتهافتهم
على أخذ العهد بتظاهر زائد، وإلى حد لا يقبله الذوق والاستحسان، وإن كان من
الحكمة والرشد أن يدخل بعض رؤسائنا العارفين بلغة العرب في زمرة الطريقة
التيجانية، توصلاً للفوائد السياسية التي تنتج من ذلك، إذ لا ينكر أنهم بهذه الوسيلة
يمكنوننا من نشر الأمن في الأقطار والصحاري، ومن تقوية نفوذنا على العرب،
كما هو حاصل الآن بكل سهولة بسبب المصالح المتبادلة والمتكافئة بيننا وبين
رؤساء هذه الطريقة، فإذا أردنا أن نستفيد بانتظامنا فيها، ويقوى سلطاننا على
المسلمين وينتشر نفوذنا السياسي، وجب أن نقف في طريق أخذ العهود عند الحد
الملائم المقبول، وإلا صرنا وإياهم (أرباب الطريقة التيجانية) في موضع هزؤ
وسخرية أمام أعين العرب أجمعين.
ثم تكلم عن الشيخ السنوسي وما يجب من الوسائل لمقاومته وتشتيت طائفته،
ثم قال ما نصه: (يلزم أن يكون على حدود مستعمراتنا رجال من أصحاب الدهاء
والخبرة التامة بأحوال الطوائف الإسلامية الذين يعلمون دخائلها وعيوبها ليستعملوا
كل خلل يجدونه لصالح وطننا، ولا يصح للحكومة أن تغيرهم من مراكزهم إلا إذا
تعذر بقاؤهم فيها، على أنه لا ينبغي تغييرهم إلا بعد فرصة من الزمن، يوقفون
فيها من يخلفهم على تلك التجارب ويحيطونهم علمًا بكل من يوالينا محبة وإخلاصًا،
ويلزم أن يكون لهؤلاء العمال ارتباط تام وعلاقات شخصية مع الأهالي ومشايخ
الطرق ومن على شاكلتهم من أرباب المظهر الديني، مثل ما لضباطنا العسكريين مع
التيجانية، ولكن ينبغي أن تعطى لهم أوامر تقضي عليهم أن لا يتظاهروا بالمحبة
الزائدة للطوائف الخاضعة لنا، ولا بالكراهة الزائدة للطوائف المخالفة لنا، فإن
السياسة الممزوجة بالدهاء والمهارة تستلزم أن نتجافى ظاهرًا عن المصافين لنا،
ونتظاهر بالميل لأعدائنا، وتَنَكُّب هذه الطريقة يُنتج إضاعة نفوذ أولئك
الأصفياء، ويقوي نفوذ أعدائنا عليهم، وبعبارة أجمل: ينبغي أن تكون فوائدنا
الظاهرة موجهة منا إلى أعدائنا، إذ لا يصعب علينا أن نستميل من كان شرهًا
ناقص الشجاعة والدين، ونلجؤه إلى الدخول في زمرتنا والخضوع لنا، ثم نوالية سرًّا
بهدايانا الخفية، لكيلا يأسى على ما فرط في جنب الله من ترك دينه وخيانته وطنه.
أما تلك الطوائف الشديدة البغضاء لنا التي يخشى اجتماع كلمتها علينا، فمن
الحمق والغباوة أن نظهر لها الكراهة وعدم الرضا؛ لأننا بذلك نحملها على التألب
علينا والاجتماع لمصادتنا، وإنني لا أنكر أن مثل هذه السياسة عديمة الشرف،
ولكنها مملوءة بالفوائد العائدة على بلادنا، ولهذه الوجهة أرفض رأي القومندان
(رين) الذي يرى أن السياسة الحالية مع العرب لا تليق بشرف مملكة عظيمة مثل
فرنسا، فما على حكامنا الفرنساويين في تلك الجهات إلا أن يحصروا كل قواهم في
جلب أكابر مشايخها واستمالتهم بالمال والفوائد المادية والتظاهر بعلامات الاحترام؛
إذ بهذه الطريقة وحدها نحصل على سكوت هؤلاء الرؤساء وسكوت المرءوسين تبعًا
لهم، والإغضاء عن كل ما يحصل، وغض الطرف عن جميع أعمالنا ومساعينا،
فضلاً عن كوننا نتمكن بغاية السهولة من إلقاء بذور الشقاق والفتن بينهم، وأقرب
منفعة لنا من ذلك أننا نفرق شمل هذه الطوائف الدينية. انظر إلى كم شظية شظينا
الطريقة القدرية التي شتتناها ومزقنا لفيفها، وبمثل هذا نتمكن من جعل القوة
السنوسية التي هي أشد صلابة من الحجر الصلد مفتتة كأجزاء الرمل، فلا يبقى
ارتباط بين أجزائها، وإنما يكون ذلك إذا ثابرنا على بث الدسائس ونفخ روح
البغضاء فيها، وواظبنا على إسناد كل وصمة تلحق العار بها وتوجب احتقارها
والإزراء بها) . اهـ.
(البقية للآتي)