للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كتاب البؤساء

هو أشهر ما كتبه شاعر فرنسا الحكيم وأديبها العظيم (فيكتورهيجو) وهو هو
الكتاب الذي رفع به ذكره، وعلا في عالم المدنية قدره، حتى صارت فرنسا تفاخر
به العالمين. وتحتفل لشيخوخته ولوفاته احتفالات لا يعهد مثلها للملوك والسلاطين،
وقد نقلت جميع الأمم الحية هذا الكتاب إلى لغاتها وهمّ به بعض المشتغلين بالتعريب
فما أطاقوه وكأنهم هابوا بلاغته في لغته؛ لأنه في الذروة العليا مما كتب بالفرنسية
حتى أقدم عليها محمد حافظ أفندي إبراهيم المشهور برسوخ العرق في العربية
وآدابها وطول الباع في التنقيح والتحرير، والإجادة في المنظوم والمنثور، فشرع
فيه وسلخ في تعريب الجزء الأول منه اثني عشر شهرًا - كما قال في المقدمة -
وهو نحو ١٥٠ صفحة. وقد قدّم الكتاب إلى الأستاذ الإمام وحكيم الإسلام، فشكر
له الأستاذ ذلك بكتاب بليغ نستغني بنشره عن الكلام في مكانة التعريب من البلاغة،
ومحله من الفائدة. ونبدأ بما كتبه حافظ أفندي في أول النسخة المطبوعة وهو:
إلى الأستاذ الإمام..
إنك موئل البائس ومرجع اليائس وهذا الكتاب - أيدك الله - قد ألمَّ بعيش
البائسين، وحياة اليائسين، وضعه صاحبه تذكرة لولاة الأمور وسماه كتاب البؤساء
وجعله بيتًا لهذه الكلمة الجامعة وتلك الحكمة البالغة (الرحمة فوق العدل) .
وقد عنيت بتعريبه لما بين عيشي وعيش أولئك البؤساء من صلة النسب.
وتصرفت فيه بعض التصرف، واختصرت بعض الاختصار ورأيت أن أرفعه إلى
مقامك الأسنى. ورأيك الأعلى لأجمع في ذلك بين خلال ثلاث: أولها التيمن باسمك
والتشرف بالانتماء إليك. وثانيها ارتياح النفس وسرور اليراع برفع ذلك الكتاب إلى
الرجل الذي يعرف مهر الكلام ومقدار كد الأفهام. وثالثها امتداد الصلة بين الحكمة
الغربية والحكمة الشرقية بإهداء ما وضعه حكيم المغرب إلى حكيم المشرق.
فليتقدم سيدي إلى فتاه بقبوله والله المسؤول أن يحفظه للدنيا والدين وأن
يساعدني على إتمام تعريبه للقارئين اهـ.
فأجابه الأستاذ الإمام بهذا التقريظ وهو:
لو كان بي أن أشكرك لظنٍّ بالغت في تحسينه أو أحمدك لرأي لك فينا أبدعت
في تزيينه - لكان لقلمي مطمع أن يدنو من الوفاء بما يوجبه حقك ويجري في الشكر
إلى الغاية مما يطلبه فضلك، لكنك لم تقف بعرفك عندنا بل عممت به مَن حولنا،
وبسطته على القريب والبعيد من أبناء لغتنا.
زففت إلى أهل اللغة العربية عذراء من بنات الحكمة الغربية سحرت قومها،
وملكت فيهم يومها. ولا تزال تنبه منهم خامدًا وتهز فيهم جامدًا؛ بل لا تنفك تحيي
من قلوبهم ما أماتته القسوة وتقوّم من نفوسهم ما أعوزت فيه الأسوة، حكمة أفاضها
الله على رجل منهم فهدى إلى التقاطها رجلاً منا فجردها من ثوبها الغريب وكساها
حلة من نسج الأديب وجلاها للناظر وحلاها للطالب بعد ما أصلح من خلقها وزان
من معارفها حتى ظهرت محببة إلى القلوب شيقة إلى مؤانسة البصائر تهش للفهم
وتبش للطف الذوق وتسابق الفكر إلى مواطن العلم، فلا يكاد يلحظها الوهم إلا وهي
من النفس في مكان الإلهام.
حاول قوم من قبلك أن يبلغوا من ترجمة الأعجم مبلغك فوقف العجز بأغلبهم
عند مبتدأ الطريق ووصل منهم فريق إلى ما يحب من مقصده ولكنه لم يعنَ بأن يعيد
إلى اللغة العربية ما فقدت من أساليبها ويرد إليها ما سلبه المعتدون عليها من متانة
التأليف وحسن الصياغة وارتفاع البيان فيها إلى أعلى مراتبه. أما أنت فقد وفيت من
ذلك ما لا غاية لمريد بعده ولا مطمع لطالب أن يبلغ حده. ولو كنت ممن يقول
بالتناسخ لذهبت إلى أن روح ابن المقفع كانت من طيبات الأرواح فظهرت لك اليوم
في صورة أبدع ومعنى أنفع، ولعلك قد سننت بطريقتك في التعريب سُنة يعمل عليها
من يحاوله بعد ظهور كتابك ويحملها الزمان إلى أبناء ما يستقبل منه فتكون قد
أحسنت إلى الأبناء كما أجملت في الصنع مع الآباء وحكمت للغة العربية أن لا
يدخلها بعدُ من العجمة سوى ما هو في الأسماء - أسماء الأماكن والأشخاص لا
أسماء المعاني والأجناس - ومثلي مَن يعرف قدر الإحسان إذا عم ويعلي مكان
المعروف إذا شمل ويتمثل في رأيه بقول الحكيم العربي:
ولو أني حييت الخلد فردًا ... لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي ... سحائب ليس تنتظم البلادا
فما أعجز قلمي عن الشكر لك وما أحقك بأن ترضى من الوفاء باللقاء.
تقول: إن الذي وصل سببك بسر صاحب الكتاب ووقف بك على دقائق من
معانيه اشتراكك معه في البؤس ونزولك منزلته من سوء الحال، وربما كان فيما تقول
شيء من الحقيقة، فإن كان البؤس قد هبط على صاحبه بتلك الحكمة ثم كان سببًا في
امتيازك من بين المترفين بتلك النعمة - سألت الله أن يزيد وفرك من هذا البؤس حتى
يتم الكتاب على نحو ما ابتدأ وأن يجعلك في بؤسك أغنى من أهل الثراء في
نعيمهم. والسلام. ... ... ... ... ... ... ...
(محمد عبده)
وقد طبع الكتاب بمطبعة التمدن على نفقة صاحب السعادة أحمد حشمت باشا
مدير الدقهلية وهي أريحية لا يعرفها أهل العربية في أنفسهم إلا ما كان أيام سلفهم
وثمن النسخة من الكتاب عشرة قروش أميرية وأجرة البريد قرش واحد وهو يطلب
من إدارة المؤيد ومن مطبعة التمدن بمصر، فنحث أهل العلم والأدب على اقتنائه
ونعدهم بنشر نموذج منه.