للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نظام الحب والبغض
تابع ويتبع

(١) الإنسان يحب ذاته - قضية يؤيدها الحس وبها تعلل كل أعماله وكل
محباته، ومن محبته لذاته تحمُّله الأتعاب العظيمة والآلام الشديدة في العاجل لأمله أن
تبقى ذاته وتنال خيرًا في الآجل، وهذا أعظم الأمثلة لمحبة الإنسان ذاته.
(٢) حب الذات في أصله طبيعي ونافع - هذه المحبة تخلق مع الإنسان من
قبل أن يعرف نفسه وغيره، ومن قبل أن يعرف النافع والضار، والدليل على ذلك
أنه منذ يبدأ أن يعرف النافع والضار من طريق الحس يبدأ أن يحب مرضعته قبل
سواها. وهل يقتدر أحد أن يعلل محبة الطفل لمرضعته بشيء غير طبيعي؟ وهل
ذلك الشيء الطبيعي أمر غير محبة الإنسان ذاته بحسب الجبلة؟ ولا ريب في أن
هذا الشيء الطبيعي نافع لازم. أما كونه لازمًا فقد يدلنا عليه كونه طبيعيًّا؛ لأنه
من المجرب عند قراء سنن الوجود أن الشيء متى كان وجوده لازمًا من اللوازم
العامة كان طبيعيًّا. وأما كونه نافعًا فلأنه الأساس الأعظم في حفظ الشخص وبقاء
النوع. وستأتون على تفصيل هذا الإجمال مرات كثيرة. ومن المجرب المحقق أن
محبة المرء ذاته تنمو فيه على التدريج منذ طفوليته إلى أن تكمل رجوليته. ونفعها
ينمو على هذا الوجه وأعظم آثارها شيئان طبيعيان متضادان تنشأ عنهما آثار
متضادة أيضًا، هما: شهوة تجذب، وغضب يدفع.
(٣) ذات غيرنا كذاتنا، فلا بد من حد في الحقوق لنا ولغيرنا - فحب
الذات له حدود قل أن نجد قضية مستغنية في ذاتها عن قيود وشروط فقولنا (محبة
الذات نافعة) قضية لا تسلم من الجرح إلا إذا ساعدناها وقيدناها بقيد. وهذا الشرط
مشروح بكلمة (ذات غيرنا كذاتنا) وتوضيحه أننا إذا لم نضع لذاتنا حدًّا لا يضع
غيرنا لذاته حدًّا. فما نطلبه لذاتنا يطلبه غيرنا لذاته. ويظهر من هذا أن محبة
الذات لا تكون نافعة إلا إذا كانت تابعة لنظام وواقفة عند حد وينتج ذلك ما ترى.
(٤) إذا تجاوزنا الحدود في حب الذات صار ضارًّا. كيف لا وجميع ما
نسميها شرورًا إنما منشؤها مجاوزة الحدود في محبة الذات؛ لأنه لا معنى للشر إلا
الاعتداء على الحقوق، وهل هذا الاعتداء شيء غير مجاوزة الحدود؟ ولا فرق
بين أن تكون أنت المعتدي على غيرك لأجل ذاتك وأن تكون يعتدي عليك غيرك
لأجل ذاته، فالأول شر لأنك لا تسلم فيه من جزاء ما، وقد يكون الجزاء طبيعيًّا
كجزاء الشرِه، والثاني شر لأنك فقدت حقك لأجل شره غيرك فيه.
الصنعة بديعة كاملة أتقنها حكيم عليم قد جعل لكل شيء سنة، ناموسًا،
طبيعة خاصة، نظامًا (قل ما شئت أن تقول وسمِّ ما أردت أن تسمي، لا تناقش
باحثًا في لفظ يؤدي إلى معنى يؤديه لفظك أو قريبًا منه) مزج ما تبتغيه النفس بما
تنفر منه، وعلمها السبل في الوصول إلى المبتغَى، وجعل للسبل حدودًا عن يمين
وشمال. فمن تعدَّى الحدود فاته المقصود. وربما وقع في المكروه. ومن لم يتعدها
فاز ونجا، وتم له الرضى. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: ٢٢٩) .
(٥) إذا لم نحب غيرنا لا نقدر أن نقف عند الحدود. إذا كان لكل داء دواء
فلا علاج لداء الشرور إلا محبة الناس محبة تابعة لنظام. وهذا العلاج لا يتخلف
نفعه أي أنه متى استعمل ينفع، فنحن نستطيع أن نقول: إن هذا العلاج يستأصل
الداء لمن استعمله ولكن لا نستطيع أن نقول: إنه يعم استعماله وتستأصل الشرور
كلها. وليس فيها مستحيلاً عقلاً ولكن التجربة تجعلنا لا نطمع فيه على أننا إذا لم
نرجُ أن تستأصل الشرور نرجو أن تخف ونجتهد في أن نعلّم الناس محبة الناس؛
كذلك كان الناس من قبل فهدى العلم بعضًا ببعض، كما أضل الجهل بعضًا ببعض،
ولا يزال العلم يجاهد الجهل إلى أن ينصره الملك القدوس السلام على أيدي رجاله
الأعلام.
(٦) إذا لم نحب ذاتنا لا نقدر أن نحب غيرنا. من لطف العناية الأزلية أن
كان استعمال هذا العلاج سهلاً إذ ثبت في الفطرة أن من لوازم محبة الذات محبة
الغير، فلا جناح علينا أن كان حب غيرنا لأجل ذاتنا؛ لأن هذا هو العلاج في
محبة الغير وهذا الثاني هو العلاج في تخفيف داء الشرور، ولكن الجناح علينا إذا
لم نتبع نظامًا في محبة الذات ومحبة الغير، وهنالك الشر.
(٧) بغض الذات مرض. يظهر مما تقدم أن لمحبة الذات نفعين: أحدهما
يرجع إلى الذات والآخر يرجع إلى الغير. وينتج أن لبغض الذات ضررين:
أحدهما للذات والآخر للغير. وإذا ثبت هذا فلا شك في أن بغض الذات مرض
مشوه للفطرة السليمة. وشائن لصاحبه يؤديه إلى نوع رديء من أنواع الرذائل وإثم
كبير من الآثام التي يناقش عليها المجتمع.
مبغض ذاته بالطبع يبغض غيره، وتكثر حيرته، يعترض على الصانع
الحكيم في صنعته، وعلى الإنسان العليم في علمه، عاطل معطل، طائش مطيش،
غر مغرر، مخبول مخبل، ناقم على الأحياء، متأفف من الحياة، جانٍ على
الاجتماع، قليل الرغبة، قليل الرهبة، قليل الحياء، قليل المروءة، قليل الغيرة،
عديم الهمة، عديم النشاط، عديم الفلاح، عديم السعادة. وإن شئت أن تعرف
مبغضي ذواتهم فأولئك هم مخالفو الفطرة التي فطرت عليها النفوس، وأذعنت
لحكمتها العقول، أقول هذا ولا أزيدكم شرحًا لتقدحوا زند ذكائكم، وتعلموا من
أشرنا إليهم بصفاتهم متى رأيتموها في إنسان. وزيدوا عليهم طوائف المستعبدين.
هذا وقد نسأل ويقال لنا: لماذا نرى بعض الحكماء قد يوصون ببغض الذات
ويأمرون بمنابذة اللذات المشروعة وإيثار الآلام؟ فالجواب:
(٨) قد يكون هذا المرض نافعًا إذا سلمت به النفوس من الشرور، كما إذا
كان امرؤ لا يملك أن يتزوج ويريد أن يستعمل قوة باهه في غير ما خلق لأجله
كوطء بهيمة أو دبر أو استمناء بيد أو تسلط على عِرض فيه حق الغير - يؤمر في
هذه الحالات أن يجوّع نفسه لتضعف قوة باهه. فإن فسرت تجويع نفسه ببغض ذاته
وسميت هذا البغض المتعمد لحكمة مرضًا، قلنا: إن هذا المرض لمثل هذه النفس نافع
* وربما صحت الأجسادُ بالعللِ *
وإن سميت هذا التجويع حمية أو علاجًا فلا إشكال، وكما إذا كان يكنز النقود
الكثيرة لا يتاجر بها ولا ينفق منها على نفسه، يؤمر أن ينفقها على غيره ولو افتقر؛
لأن حاله قبل الإنفاق على غيره هي عين حال الفقراء فالفقر بعد الإنفاق قد تسلم
به نفسه من شر عظيم مؤلف من الجهل وبغض الغير وهو كنز تلك الحجارة التي لا
معنى لها إلا المبادلة وتسهيل معاملات الناس. وكما إذا كان كثير الاعتداء على
النفوس بقتلها ويؤذيها، يؤمر بالتوبة وتسليم النفس للقصاص. وهل من معنى لتسليم
النفس للقصاص غير بغض الذات؟ وليس يرتاب أحد بأن من كان كثير الاعتداء
على النفوس إذا مرض ببغض الذات إلى درجة يسلم بها نفسه للقصاص كان مرضه
نافعًا له ولغيره. وأمثلة هذا كثيرة قيسوا على ما ذكرت ما يظهر لكم.
(تنبيه مهم) إذا قلنا: إن الله أحب إلينا من أنفسنا، يجب علينا أن نفهم
معنى هذا الكلام حتى نكون على بينة وصدق مما نقول، وإلا كان كلامًا يراد به
تزكية النفس بمجرد إيراد حروفه. وسيأتي نحوه من تفسير هذا الكلام أو تفسيره،
ولكن أحببت ههنا أن أبادر إلى كلمة واحدة من تفسيره قد تغني الأذكياء. وما هذه
المبادرة إلا لأن هذه الكلمة من علائق الصدد: إن معنى محبة الله اتباع الحدود
ورعاية حقوق الغير وبذل وسع النفس في هذا الشأن وكل فروعه. وليس من
بغض الذات تجريعها الصبر في هذه السبيل الحميدة البالغة بها أسنى المقامات
وأسمى السعادات. بل هو من محبتها فإذا أحببت معلمك أكثر من محبتك لنفسك لا
تكون أبغضت ذاتك بل أحببتها حبًّا جعلك تحب كل ما يرقيها ويصلح شأنها حبًّا
شديدًا.
(٩) متى كان الحب والبغض ناشئين عن فكر سليم كانت السعادة.
هذه المسألة كنتيجة لما تقدم وكفاتحة لما يأتي لأن كل علوم الناس وأعمالهم
وأقوالهم مقصود بها تحصيل السعادة التي هي فائدة هذه الحياة عند القائلين بوجود
السعادة. وعلم النفس في انفرادها واجتماعها هو العلم الوحيد الذي يهدي الحائر في
هذه المهامه.
وعندنا أن السعادة موجودة ممكن تحصيلها، ومن السعادة اعتقاد وجودها وهذا
المبحث المهم يحتاج فضل بيان، أما ههنا فأكتفى بتقرير هذه القاعدة لتحفظ في الذهن
وتتوجه النفس إلى شرحها وهي: (متى كان الحب والبغض ناشئين عن فكر سليم
كانت السعادة) لأن سعادة النفس في أحوال ثلاث (تصورها وطلبها وفوزها)
فمتى كان التصور صافيًا سليمًا قويًّا التذت النفس وانبعثت للطلب ومتى كان الطلب
مشروعًا نظاميًّا التذت النفس وأشرفت على الفوز، فإن فازت فذاك هو وإن لم تفز
فسعادتها أنها لم تقصر في الطلب، على أن الطلب في نفسه لذيذ وفي الأكثر يفيد
فائدة ما مما تبتغيه النفس إذا جدَّت وثبتت.
وقلّ مَن جدّ في أمر يحاوله ... ولازم الصبر إلا فاز بالظفر
هذا والفكر السليم هو الذي يميز بين الخير والشر والنفع والضر.
... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز.)
((يتبع بمقال تالٍ))