للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


قراء الصحف المنشرَّة

يقرأ هذه الصحف التي تسمى المجلات والجرائد جميع أصناف الناس في
جميع البلاد، فأصحاب الصحف الرائجة المشهورة أجدر الناس بمعرفة حال الناس
في المعاملة مطلاً ووفاءً. وقد علمنا بالاختبار أن لكل صنف خلقًا ولأهل كل قطر
خلقًا فمسلمو بلاد روسيا أحسن خلق الله وفاءً. أكثرهم يرسل مع طلب الاشتراك
أوراقًا مالية بقيمته وأوراقًا مطبوعًا عليها عنوانه ثم يرسلون القيمة في أول كل سنة
ومن أرجأ الإرسال عن أول السنة فلا يرجئه إلا قليلاً، ويليهم أهل جزيرة العرب.
وأسوأهم معاملة وأكثرهم مطلاً وإهمالاً مسلمو الهند ويليهم أهل الجزائر، فإن كثيرًا
من المشتركين في هذين القطرين لَيقرأ المجلة أو الجريدة عدة سنين ولا يخطر بباله
أن يرسل إلى صاحبها شيئًا. ومن العجيب أن السلائل العربية في كل بلاد يتبوأونها
يحافظون على أكثر أخلاق العرب الفاضلة، فتجار العرب في الهند وجاوه
وسنغافوره هم الذين يرسلون قيم الاشتراك من غير مطالبة ولا تذكير، وأهل
المغرب الأقصى كأهل الجزائر إلا أفرادًا في مدينة فاس يشبهون مسلمي روسيا في
الوفاء. والحق أنه ليس لنا أن نحكم على أهل تلك البلاد لأن القراء فيهم قليلون
وأصلهم في الغالب مجهول، وأما أهل تونس فهم وسط، أكثرهم إذا طولب يدفع
وإذا سُكت عنه يسكت وقليل منهم يرسل وإن لم يطالب، ولا أعرف أحدًا منهم إلى
اليوم طولب فمطل حتى لا يرجونه، إلا أن الوكيل طلب منع المنار عن نفر قليل؛
لأن الحق لا يخرج منهم إلا نكدًا وأظن أنهم دفعوا وليس عندهم شيء وسيتبين هذا
بعد قليل، لأن المحصل لا يزال يشتغل بالتحصيل، فإن قيل إن علي بن زنين
الذي كان وكيلاً للمنار قد جمع طائفة من الاشتراكات وثمن كتب أرسلتموها إليه
بطلبه كتقرير مفتي الديار المصرية وكتاب الدروس الحكمية وماطلكم في ذلك عدة
سنين، نقول: إننا لا نزال نرجوه وقد كان بعض الناس يكتب إلينا يحذرنا منه فلم
نحفل بذلك والذي تحققناه أنه ماطل ولا نقول إنه لا ذمة له ولا أمانة إلا إذا كتب
إلينا الوكيل الذي كلفناه بمحاسبته ومطالبته - أنه لا يدفع مختارًا أو تقاضاه في
المحكمة. هذا وإن الوكيل هناك يشكو من عناء التحصيل ولعل ذلك لكرم نفسه
وعدم اختباره الناس في حرصهم على المال.
هذا إيماء إلى ما كان من اختبارنا، فإذا أردنا أن نعلل ذلك بتأثير الحكومات
بأن نقول: إن الأمة التي تظلمها حكومتها تتعلم والأمة التي تحكم بالعدل تجري على
العدل - خاننا التعليل وإن كان له وجه وجيه؛ إذ يصعب علينا أن نفضل حكومة
روسيا على حكومة الهند. والصواب أن حسن المعاملة تابع لحسن الخلق والأخلاق
آثار الوراثة والتربية في النفس إذا رسخت وانطبعت. ولا شك أن الأمم المحكومة
تؤثر كيفية الحكم في أخلاقها ولكن أخلاق الأمم تنطبع في الزمن الطويل ولا تتغير
إلا في الزمن الطويل، ولذلك لا يصح الحكم على أخلاق الأمة بحال حكومتها
الحاضرة الحادثة فإن الذين يفعل الاستبداد والاستذلال في نفوسهم عدة قرون لا
يتطهرون من تلك الآثار الخبيثة في عشرات من السنين لا سيما إذا انتقلوا من
عبودية ذلك إلى حرية مجون وخلاعة. ومسلمو روسيا لم يكونوا أذلاء ولا مُجَّانًا من
قبل حكمها وهي لم تظلمهم إلا بالتضييق على المعارف زمنًا ثم أعطتهم حرية ما في
التعليم والتربية فهم يجدُّون فيها ويجتهدون على بصيرة يفضلون فيها سائر
المسلمين، وأهل الهند كانوا أذلاء بالاستبداد ثم كانت لهم حرية فاسقة مع تضييق
في أمور المعارف ثم صارت لهم حرية تامة لم تؤثر فيهم تأثيرها لقصر
الزمن.
وأما أهل المغرب الأقصى فهم على بداوتهم في ظلمات من الفوضى والجهل
لا يبصرون ولذلك قلنا إن الحكم عليهم غير صحيح، ونظن أن الأخلاق في الجزائر
لم تفسد بالمرة وأنها هناك خير منها في تونس لأن الجزائريين أبعد من التونسيين
عن الخلاعة والترف وقد كانوا من قبل حكم فرنسا أقرب في حضرهم إلى
البداوة ولم يؤثر حكمها في أخلاقهم إلا قوة الاعتصام برابطة الدين والجنس لأنها
أزالت منهم السلطة الإسلامية، ولا يستطيع إفساد المسلمين إلا الحكام الطغاة من
المسلمين؛ إذ لا يفل الحديد إلا الحديد. والبلاد العثمانية نزلت عليها آية الحجاب
فلا كلام فيها.
بقي الكلام على بلاد مصر، كانت هذه البلاد ولا تزال أم العجائب وفيها من
المماطلين والخائنين والهاضمين للحقوق ما لا يوجد في غيرها، كما أن فيها من
الفضلاء وأهل الكرم والوفاء نفرًا يعز وجود أمثالهم في سواها. في هذه البلاد رأينا
من الفروق بين الأصناف كما يرى الراؤون بين الأشخاص، وأظن أن غير العالم
المختبر يحسب أن أحسن الناس وفاءً، وأسهلهم قضاءً علماء الدين أو قضاة
الشرع أو القضاة عامة؛ لأنهم هم الذين يعملون لإقامة العدل وأداء الحقوق إلى
أهلها وهم أعلم الناس بآثار الليِّ في الحقوق ومضراته؛ لأنها ممثلة كل يوم أمام
أعينهم في أقبح صورها وأشكالها. وليس هذا الحسبان بصحيح ولعل القارئ لا
يتوقع أن أقول أحسن الناس وفاءً وأطهرهم ذمة المهندسون. ولعل السبب في ذلك
تأثير العلوم الرياضية في نفوسهم كما تؤثر في عقولهم فإنها هي العلوم التي ليس
فها أوهام ولا ظنون فاسدة ولا خرافات ولا مسائل تؤخذ بالتقليد الأعمى.
أما المُطل فهو على أشده في أهل البطالة ثم في كتاب الدواوين وغيرها لأن
أكثرهم لا همّ له من حياته إلا أن يكون له رزق مضمون يتمتع به وإن كان قليلاً،
أعني أنهم لا تهمهم الأمور العامة وليس لهم مقاصد عالية وإنما يذكرون لفظ الملة أو
الوطن حكاية للألفاظ التي تكثر في الجرائد. ومن يشترك في الجرائد منهم فإنما
يشترك تشبهًا بالوجهاء والرؤساء. هذا كلامنا في الأكثرين، ومنهم أفراد من أرباب
البيوت التي لها سلف في حسن الأخلاق أو التي لها قرب من سذاجة الفلاحين الفطرية
التي لم يطغَ عليها طوفان فساد ما يسمونه (التمدن) فأولئك يشتركون ليستفيدوا
وليكونوا عونًا للصحيفة التي يعتقدون نفعها، وقليل ما هم.
ومن العجيب أن يكثر المطل والليُّ وهضم حقوق العلم والأدب في رجال
القضاء وأعوانهم من رجال (النيابة) فإن في قضاة الاستئناف الذين يرون أنفسهم
فوق جميع رجال الحكومة عدلاً وعدالة وعفة واستقامة مَن يدافعون محصل الجريدة
من شهر إلى شهر حتى تصير هذه الشهور سنين فما بالك بمَن دونهم؟ !
أما أهل العلم الديني ومنهم قضاة الشرع ومعلمو المدارس فهم أحرص على
المال وأضن من جميع الناس إلا أنهم قلما يشتركون في الجرائد ولكن يطلبها
الوجهاء منهم على أن تكون هدية ومن أراد الاشتراك من غير الوجهاء، فإنه يجتهد
في أن ينقص من قيمة الاشتراك المعينة شيئًا، النصف فما دونه، ويلحّ في ذلك
إلحاحًا ثم إنهم بعد ذلك لا يتنزهون عن المطل والتسويف ولكنهم قلما يستحلون أكل
قيمة الاشتراك وهضمها بالمرة كما يفعل بعض كتاب الدواوين وبعض التجار
والفلاحين والعُمَد.
هؤلاء العمد يحبون الجرائد ويكرهون المجلات، يحبون الجرائد لما يتوقعون
من مدحها إياهم ودفعها عنهم فيما يتهمون به؛ ولذلك يدفعون لها الاشتراك،
ويزيدونها عطاءً ومساعدةً، ويكرهون المجلات لأنهم لا يتوقعون منها ذلك ولا
يفهمونها وليس عندهم روح حب العلم والأدب وقد اعتاد أكثرهم على الظلم وهضم
الحقوق حتى إن الأستاذ الإمام يضرب المثل في الدرس ببلادتهم. وليس هذا الحكم
عامًّا فإنني أعرف نفرًا منهم يحبون العلم والأدب منهم المتعلم في المدارس النظامية
ومنهم من له حسب عريق وأخلاق موروثة. وإنما قلت ما قلت في العمد عن سماع
لا عن اختبار فإن المشتركين منهم في المنار قليلون وإنني شاكر لهم لا شاكٍ منهم
ولا أستثني إلا اثنين لا أذكرهما بالاسم ولا بالوسم؛ لأن هذا ليس من شأن المنار
تجرَّءا على هضم حقه.
ومن الناس من يحتال على قراءة الصحف المنشرة بالانتداب لخدمتها بالمكاتبة
أو الدعوة إليها وتكثير سواد قرائها وقد عانينا من هؤلاء المحتالين ما عانى غيرنا
ولم يبق لأحد يعرف المنار مطمع في مكاتبته؛ لأن مائدته لا تقبل المتطفلين ولكننا
نتلقى في كل حين كتابًا ممن يصفون أنفسهم بالغيرة على العلم والدين، والرغبة في
إسعاد الكتاب والمنشئين، وبعد إطرائنا وإطراء أنفسهم يطلبون أن يكونوا وكلاء.
وقد أجبنا طلب كثير منهم بإرسال المجلة إليهم وحثهم على نشرها فلم يصدُق أحد
منهم وإنما كانوا يخادعوننا في أول الأمر بطلب المجلة لواحد أو اثنين ويشهدون
لمن يطلبون له الأمانة والاستقامة ويعدون بأخذ قيمة الاشتراك منه في أثناء السنة
فتمر السنة ولا يفي أحدهم بوعده ومن يدري أأخذ من المشترك أم لا. وقد كان لنا
من أرجى هؤلاء العاضدين للأدب بالوكالة أن حبانا مشتركًا في أول العهد بوكالته
(في السنة الماضية) ثم إن ذلك المشترك كتب إلينا بأنه لم يرضَ أن يكون عونًا
للمجلة بالاشتراك فقط وإنما هو مستعد لنشرها وطلب وصولات لأجل التحصيل
ممن يدعوهم إلى الاشتراك فكتبنا إليه نطالبه فلم يرسل إلينا مالاً. ولم يرجع إلينا
قولاً، فرجعنا إلى الوكيل الذي أمر بإرسال المجلة إليه فكتب أنه طالبه فادعى أن
المجلة ترسل إليه على أنه وكيل لها، لا أنه مشترك فيها! ! ثم طلبها لمشترك
جديد ... فكتبنا إليه: إنك كنت وكيلاً على مشترك واحد فلما صار هو وكيلاً
صرتما وكيلين على لا شيء! وأنت الآن تطلب المجلة لآخر، ونخشى أن يصير
في آخر السنة وكيلاً، فيكون لنا ثلاثة وكلاء على لا شيء ثم يتجدد هذا في كل عام
وما يدرينا أننا إذا أطعنا هذا الوكيل يصير خبره إلى جميع المشتركين
فيختارون أن يكونوا وكلاء، يتحكم كل منهم بإرسال المجلة إلى مَن شاء! ! !