للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الخوارق والكرامات
المقالة الخامسة عشرة
في أنواع الخوارق وضروب التعليل والتأويل
(التنويم المغناطيسي)
بقية بحث إبراء العلل
قلنا إن من وجوه التعليل في إبراء العلل تأثير النفس الذي يعبر عنه الصوفية
بتأثير الهمة، وقد كان هذا فاشيًا فيهم؛ لأنهم كانوا يعرفون تربية الهمة النفسية أي: تربية الإرادة والعزيمة، وقلنا: إنهم لم يكونوا يقصرون هذا على أنفسهم بل
كانوا يعترفون بوقوعه للوثنيين كالهنود وغيرهم، وإنما سرى هذا إلى المسلمين من
الهنود، ونقول الآن: إن هذا التأثير قد ظهر في هذا العصر - عصر
الصناعات والعلوم الطبيعية - بشكل صناعي يعبرون عنه بالتنويم المغناطيسي الذي
شاع ذكره واشتهر أمره وكثرت فيه الدعاوي ومن أغربها أن المنوم إذا سأل المنوم
عن شيء من الأمور الغيبية التي لم يسبق له بها علم يجيبه عنه لأن روحه بغيبتها
عن الحس تطلع على ما وراءه، ومنه أن المنوم إذا قال للمنوم: إنك قد برئت من
علتك وشفيت من مرضك، وهو مريض - فإنه يبرأ حالاً وإذا قال: إن الجو بارد
ينتابه البرد حالاً ويقفقف وإن كان الحر شديدًا وكذلك إذا قال له إن الحر شديد في
إبان البرد القارس فإنه يسرع إليه العرق مما يجد من الحر!
ومن العلماء من ينكر هذه الدعاوي ويعد منتحليها من المشعوذين. والمحققون
من الأطباء الطبيعيين يقولون: إن الذي يثبت بهذا التنويم شيء واحد وهو تأثير
النفس في النفس وحكم الإرادة القوية على الإرادة الضعيفة، وهذا هو الذي كان
معروفًا عند القدماء من الصوفية وغيرهم على ما علمت من الجزء الماضي. وقد
جاءنا بعد صدوره العدد ٢٢ من جريدة (الأفكار) التي يصدرها في سان باولو
البرازيل (أمريكا الجنوبية) الدكتور سعيد أبو جمرة، فرأينا فيه مقالة في ذلك رأينا
أن ننشرها هنا لما نعلم من تشوف أكثر القراء إلى الوقوف على آراء العلماء
المحققين في هذه المسألة قال بعد العنوان ما نصه:
كانت أمامنا مجلة نيويورك الطبية عدد ١٨ نيسان الماضي وبها مقالة بديعة
عن التنويم المغنطيسي تتضمن أحدث الآراء وأدق المعاني عن مسألة هامة
شغلت عقول العلماء والأطباء مدة طويلة، وإلا ورد علينا سؤال من صديق عزيز
علينا يسألنا إبداء رأينا في استعمال التنويم طبيًّا في إحدى الحالات المرضية فاخترنا
إذ ذاك تلخيص هذه المقالة حبًّا بإفادة القراء، وهي خطاب لأشهر طبيب أمركاني
(الدكتور هاورد) ألقاه أمام عمدة مدرسة الأطباء والجراحين في مدينة بلتيمور.
وهاك فحواه مع بعض التصرف والاختصار:
أيها السادة. كثر الدجالون القائلون الآن باستعمال التنويم المغنطيسي في كل
الأمراض تقريبًا، وكثر الناس الذين - لسوء الحظ - يصدقون بأقوالهم
المزخرفة وبراهينهم السطحية السفسطية حتى صار صبيان الأزقة عندنا
يقولون: (المغنطيس الحيواني والهستيريا والمغنطيس) وهلم جرّا. وإننا لسوء الحظ
نقول: إن بعض هؤلاء الدجالين هم أطباء قانونيون مثلنا. ولكنهم يستعملون هذا
السلاح الحاد بدون معرفة وبلا تمييز حتى صِرْتُ أَوَدّ من كل قلبي أن تختفي المعرفة
عن التنويم فإني أرى أضرارها أكثر من منافعها في يدي هؤلاء المشعوذين والسحرة.
وإني لا أخفي عليكم رأي شَارْكو شيخ الأطباء الحاليين في كل العالم من هذا
القبيل، أعني قوله لي في وسط مكتبه وعلى مسمع من عشرات من أطباء الأرض
يقصدون باريس سنويًّا للاستفادة من شَارْكو ذلك البحر الزاخر قال لي: إن التنويم
والهستيريا فرعان لأصل واحد! أي: إن المريض المهستر يقبل التنويم، والذي يقبل
التنويم يكون مهسترًا أو ضعيف العقل والإرادة والعكس بالعكس. وهذا هو عين
الواقع أيها الرصفاء.
وعلى هذا قد صادق الدكاترة برنهاين وليبول في أوروبا وأنا في أمريكا بعد
إحصاءات عديدة حسية في المستشفيات هنا وفي مكتبي الخاص أيضًا. ولما كان
هذا الخطاب لأجل الحقائق لا لأجل تقديم الآراء فإني أنتقل بغتة إلى التجارب
الحسية أمامكم لإقناعكم بصحة قول شاركو وقولي. انظروا هذه الدجاجة على
الطاولة أمامي ها إني الآن أنومها (فَنَوَّمها فمدت ساقيها وذبلت جفنيها ونامت
مغنطيسيًّا حالاً) بإشارة صغيرة. وعلى الطرف الآخر انظروا هذه الحمامة. ها قد
نامت أيضًا. والآن تقدمي يا مس.. . (ونادى سيدة كهلة عزباء مصابة بمرض
تتطبب عنده) فترون أيها السادة الرصفاء أن كلمة صغيرة إلى مس.. تجعلها تحت
تسلط إرادتي. نامي.. أقول لك: أنت الآن نائمة. لا تشعرين. لا تنظرين. لا
تسمعين.. فها قد نامت هذه السيدة مثل الدجاجة والحمامة حالاً. ولكنكم إذا أتيتم
بشاركو وكل أطباء الأرض وعلمائها فإنهم لا يقدرون أن ينوموني.
(ضحك واستحسان ( ...
وهذا يأتي بنا طبعًا إلى هذا السؤال المهم وهو: مَن هم الناس الذين ينامون
وما هي ماهية التنويم؟ فعن الأول أجيب: إن الناس الذين ينامون هم كل الذين
يشكون من ضعف ما في مراكز العقل والإرادة، وهؤلاء كثار العدد خلاف ما
تتصورون. وعلى ما أظن أنهم ٣٠ بالمائة في العالم المتمدن وأكثر من نصف
الناس في غيره. ولكن أنواع التنويم وهيئاته مختلفة. فإني إذا نومت زيدًا وقلت له
لا تشعر بالألم فإنه لا يشعر وإذ ذاك فأقدر أن أعمل عملية جراحية صغيرة عليه
وهو كأنه تحت البنج. ولكني إذا فعلت ذلك مع عمرو لا أنجح بل أنجح إذا قلت
مثلاً إنك لا تسمع أو لا تبصر أو لا تبرد مع أن الماء المثلج يسقط على بدنه العاري.
أما عن الثاني أي: ماهية التنويم فأقول بالاختصار: إنها غير معروفة تمامًا.
سوى أن المظنون هو حكم إرادة قوية على إرادة ضعيفة بمظهر كبير. وعلى هذا
القياس نقدر أن نقول: إن من يستولي على عقول الناس وأميالهم وأفكارهم ليس سوى
منوم وما الناس الذين يقادون له إلا مصابون بنوع من أنواع الضعف العقلي (أو
الدماغي) حتى أصبحوا عرضة لأن يُنَوَّموا بالتنويم المغنطيسي ولو بمظهر بسيط
وبهيئة دارجة عادية قلما يعلق عليها الناس كبير أهمية.
ولهذا السبب لا تعجبوا إذا قلت لكم: إن نصف العالم عرضة للتنويم المغنطيسي
بأحد أنواعه هذا إذا لم أقل نصف المتمدنين (استغراب وهمس في الحضور) .
استعماله طبيًا:
أما دائرة استعماله العلمي فضيقة لكنها مفيدة للغاية في يد منوم شريف عفيف
عالم. ومضرة للغاية أيضًا في يد المحتال محب المال الدجال الساحر الغاشم الكافر.
ورأي شاركو في استعمال التنويم هو: يحسن (أي لا يجب) بنا أن نستعمله إلا في
أمرين فقط وهما: (١) عند وجوب تحقيق أو تشخيص أمراض الدماغ والعصب
للتمييز بين الأمراض العقلية منها وبين أمراض مادة الدماغ ذاتها أي: للتمييز بين
الأمراض الوظائفية والأمراض الآلية. مثلاً إذا جن زيد فيجب علينا تحقيق سبب
الجنون هل هو ناتج عن خلل في إحدى وظائف الدماغ أم عن مرض أصاب الدماغ
ذاته كنزيف أو احتقان أو ضغط عظم جمجمة مكسورة وهلم جرا. و (٢) عند
تخفيف الآلام ومعالجة الأرق أو قلة النوم التي تضنك الجسم وتسبب له الضعف
الشديد والتعرض للجنون بأحد أنواعه، وعلى هذا فاستعملوه في آلام الحمى
الروماتزمية (داء المفاصل الحاد) . في الأرق المستديم. في الأمراض العصبية
التي تأتي بالألم الشديد ليلاً. في بعض أنواع الفالج وما أشبه من الحالات. أما في
الهستيريا وهو المرض الذي يكثر به احتيال الدجالين فاستعملوه نادرًا وبحذر تام؛
أي أنه يحسن بنا أن نستعمله في الهستيريا إذا كانت المهسترة أو المهستر متألمًا جدًّا
من ارتجاف الأعضاء أو تقلصها أو انكماشها أو شللها أو التوقف عن عمل وظائفها
الطبيعية كحبس البول، أو الامتناع عن الأكل والشرب والنوم وما شاكل ذلك من
العوارض التي إذا دامت مع العليل تؤذيه، وتأتي له بأمراض ثانوية مضنكة. ولا
بأس من استعماله في حالات السُّكر إذا كان السكران عرضة لأن يضر ذاته أو
غيره، وكذلك في حالات المانيا (نوع من الجنون) الحادة أو الملانخوليا التي تجعل
المصاب عرضة للانتحار , وفي كل هذه الظروف فليكن استعماله بحذر تام
وباعتدال لحد الإمساك. ... ... ... انتهى باختصار وتصرف. ا. هـ

(المنار)
نكتفي بهذا البحث في هذا الجزء وسنعود في الأجزاء الآتية إلى الكلام في بقية
أنواع الخوارق وتعليلها المعقول إن شاء الله تعالى. وقد نقلنا عبارة الأفكار بحروفها
وفيها من النقد في اللغة والأسلوب ما يعذرنا القراء على عدم التعرض له.
((يتبع بمقال تالٍ))