للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


شبهات النصارى
وحجج المسلمين

النبذة الثالثة في رد شبهاتهم على القرآن
(الشاهد التاسع على تناقض القرآن بزعمهم) قوله تعالى في سورة الأنعام:
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ *
ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى
أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (الأنعام: ٢٢-٢٤) مع قوله تعالى في
سورة النساء: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ
يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} (النساء: ٤٢) ، والجواب عنه من وجهين: أحدهما أن لفظ
(يوم) له إطلاقان إطلاق بمعنى مدة بياض النهار أو مجموع ليل ونهار، وإطلاق
بمعنى الوقت مطلقًا، وإذا أضيف إلى حادثة وقعت أو قدر وقوعها في المستقبل يراد
به الإطلاق الثاني، ومنه أيام العرب المشهورة لا يريدون باليوم منها بياض نهار ولا
مجموع نهار وليل وإنما يريدون الوقت، وإن كان ساعة واحدة أو أيامًا طويلة بحسب
الإطلاق الأول.
ومنه أيضًا ما عبَّر عنه في القرآن الكريم بكلمة يومئذ أو يوم يكون كذا كقوله:
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} (الأنعام: ٢٢) ، وقوله {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
٠٠٠} (النساء: ٤٢) ، إلخ. ومثلهما كثير جدًّا لا سيّما في سياق الكلام على
الآخرة التي ليس فيها أيام تتعاقب مع الليالي فمعنى (يوم) في كل آية: وقت
يحدده الفعل الذي تعلق هو به في آية أو المضاف إليه كيوم الحسرة.
إذا تمهد هذا فاعلم أن الآيتين اللتين زعم النصراني تناقضهما تنبئان بأمرين
يكونان في يومين أي: وقعتين مختلفتين أحدهما حشر المشركين وسؤالهم عن الشرك
وقد أخبر أنهم يومئذ ينكرون كما في آية الأنعام، وثانيهما: إتيان الله بعد ذلك
الإنكار بالشهداء يشهدون عليهم وفي ذلك الوقت (أو اليوم) يضطرون إلى
الاعتراف فيعترفون ولا يكتمون كما في آية النساء. وقد حذف المعترض الآية التي
قبل قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ٠٠٠} (النساء: ٤٢) إلخ، وهي التي
تدل على أن عدم الكتمان إنما يكون بعد شهادة الشهداء، وهي قوله عز وجل {فَكَيْفَ
إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} (النساء: ٤١) ،
ومجموع الآيات يمثل لنا محاكمة في الحساب الأخروي ينكر فيها الخصم جريمته
أولاً ثم يضطر إلى الاعتراف بعد شهادة الشهداء وإقامة البينة كما يعهد في الدنيا،
والحكمة في هذا ردع العصاة وإنذارهم عاقبة الفضيحة في تلك المحاكمة التي لا
يظلم فيها أحد، فالآيات متوافقة متطابقة وما أظن أن ذلك العلاَّمة اللغوي الذي حرر
الاعتراض يجهل ذلك، وإنما هو مكابر ومشاغب. هذا هو الوجه الأول في الجواب.
وأما الوجه الثاني فهو ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن الواو في قوله:
{٠٠٠ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} (النساء: ٤٢) ، واو الحال وليست واو العطف
فتدل على عدم الكتمان ومعنى الآية حينئذ: أن أولئك الكافرين العاصين تأخذهم
الرهبة ويحيط بهم الوجل فلا يتجرأون على الكذب على الله تعالى وإنكار ما كان
منهم، بل يودون أن يكونوا ترابًا فتسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا، يعلمون
أنه محيط به وأنه لا يعزب عن علمه، كما تقول: أود أن أُقتل ولا أغشك، أي
أنني أستحب الموت وأفضله على غشك. وبهذا التفسير تكون هذه الآية بمعنى
الأولى، وهو لا يأباه النظم ولا ينبذه الإعراب ولا ترفضه البلاغة والفصاحة، وما
هو بتأويل. ولا انحراف عن السبيل، ولو شاء المجيب أن يُكثِر من الوجوه لفعل فإنه
يشترط في تحقق التناقض الاتحاد في الموضوع والمحمول والزمان والمكان، إلى
آخر ما يسمونه الواحدات الثَّمان فكما أن الجواب الأول أَبَانَ عدم التناقض لعدم الاتفاق
في الزمان (والجواب الثاني في الخلاف بالمرة) فلنا أن نجيب جوابًا ثالثًا باختلاف
الموضوع فنقول: إن التناقض غير متحقق لاختلاف القضيتين في الموضوع فإن
إحداهما تحكي عن المشركين والأخرى عن الذين كفروا وعصوا الرسول، وتشمل
الموحدين الذين لم يشركوا ولكن كان كفرهم برفض الإيمان بالنبي عليه الصلاة
والسلام كما تشمل الذين آمنوا برسالته، ولكن عصوه في هدايته، وهذه آيات القرآن
تصف اليهود بالكفر دون الشرك، ثم إن لنا أن نجيب جوابًا رابعًا بمنع التناقض
لاختلاف المكان، فإن ليوم القيامة مواقف كما ورد فيحتمل أن ينكر المشركون
والكافرون جميعًا في بعضها، ويعترفوا في بعض آخر، والجواب الأول هو العمدة
ويليه في القوة الثاني.
(الشاهد العاشر) قوله تعالى في سورة فصلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي
خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: ٩) (إلى قوله) : {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن
فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ *
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: ١٠-١٢) زعم المعترض أن هذا
الكلام يفيد أمرين: أحدهما أن خلق الأرض والسموات في ثمانية أيام والآخر أنه
خلق السماء بعد الأرض لا قبلها، لكن الأول منقوض في سبعة مواضع من
القرآن بما معناه أن خلقهما وما بينهما في ستة أيام لا في ثمانية، والثاني منقوض
بقوله في سورة النازعات: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا *
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (النازعات: ٢٧-
٣٠) ، ونقول في الجواب عن الأمر الأول: إن من المستعمل الشائع عند العرب
أن يقال مثلاً: سرت من القاهرة إلى طنطا في يومين وإلى الإسكندرية في أربعة
أيام، ويراد في يومين آخرين كانا مع ما قبلهما أربعة أيام ولذلك لم يتوقف أحد من
الصحابة في فهم الآية، ولم ير مفسروهم كابن عباس وغيره أن هذه الآية تحتاج إلى
بيان، وإنما اختلف في إعرابها وإعراب أمثالها النحاة فقدر بعضهم مضافًا
محذوفًا للقرينة فقال المعنى: (في تتمة أربعة أيام) كما قدروا في مثل (واسأل
القرية) كلمة (أهل) أي: اسأل أهل القرية، وذهب الزمخشري إلى أن
الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف يفيد أن العمل أو السفر كان في أربعة أيام على
طريق الفذلكة ولما كان المعترض مطلعًا على هذا ومقتنعًا بحسنه في قلبه لم ير
سبيلاً لصرف الوجوه عنه إلا شتم قائليه بتسمية ذلك تأولاً من عبث الولدان، وقد
زين له تعصبه أن يقول: إنه لو صح هذا (للزم منه أن يقول بعد ذلك عن السموات
فقضاهن سبع سموات في ستة أيام لا في يومين كما قال) واحتج على ذلك بزعمه
فقال: إن موضع الفذلكة آخر الكلام لا أوله.
وقد تجاهل أن الآية التي تنطق بخلق الأرض قد تمت وجاءت الفذلكة في آخرها
وأن الكلام في خلق السموات جاء في آية أخرى ابتدأت بثم التي تستعمل في
التراخي في الزمن، أو في رتبة العمل ونوعه بصرف النظر عن زمنه كما في قوله:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (الأعراف: ١٨٩) ، وهكذا
شأن أهل العنت والبهت والتعصب الذميم.
وأما الأمر الثاني فقد أخذه المعترض من اختلاف المفسرين في خلق السموات
والأرض أيهما أسبق لاختلاف فهمهم في الآيتين وله بعض العذر - وهو ينظر بعين
السخط والنقد - إذا آنس فيهما خلافًا أو شبهة خلاف فتشبث بها وصرف ذهنه عن
الجمع بينهما بما جمع به المفسرون. وإنني أقول: إن جميع المفسرين قد قصروا في
تفسير أمثال هذه الآيات التي تتكلم في أمور المبدأ والمعاد، وغير ذلك من الأمور
الغيبية ولهم العذر فإن هذه الأمور لم تذكر في الكتب المنزلة لشرح حقائقها وبيان
كنهها بالتفصيل ولا لبيان تاريخها، وإنما يذكر الخلق والتكوين للاستدلال على قدرة
الله وعلمه وحكمته، ولتوجيه الأنظار إلى الاعتبار بما في المخلوقات والمكونات
من العلوم والحِكَم ووجوه المنافع. وقد أجاز بعض علماء اللاهوت من النصارى أن
يجيء في الكتب المقدسة من العبر والدلائل الصحيحة ما يُبنى على اعتقاد الأمم
المخاطَبة بها، وإن خالف الحقيقة لأن شرح الحقائق الكونية ليس من موضوع الدين
وإنما موضوعه الهداية إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وإنما أجازوه
لأنه كثير في كتبهم.
ومن عجائب القرآن وضروب إعجازه أن يصوغ الحقائق في قوالب العبر
فترى العبرة بادية يستفيد منها العوام والخواص، والحقائق كامنة فيها يستخرج منها
أصحاب القرائح والفهوم ما ينتهي إليه استعدادهم في كل زمن بحسب ارتقاء العقول
وتقدم العلوم فيه. كان الناس يتلون فيه آيات التكوين منذ ثلاثة عشر قرنًا فيهتدون
بدلائلها ويتعظون بعبرها، ولا يرون فيها شيئًا مخالفًا للحقائق الكونية التي كشفها
العلم. ثم ارتقى العلم الكوني في آخر هذه المدة وقرر أهله أشياء في أمور الخلق
والتكوين تؤيد القرآن من حيث لا يعلمون. قالوا إن السموات والأرض قد خُلقتا من
مادة تشبه الضباب سماها بعضهم (سديمًا) كانت مادة واحدة فانفطرت أو انفتقت
فكان منها أجسام كرية الشكل، انفصل منها كرات أخرى، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك
في القرآن بمثل قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (فصلت:
١١) وقوله: {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} (الأنبياء: ٣٠) ، وقوله: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (الأنعام: ١٤) .
وقالوا: إن هذه الأرض لم تخلق هكذا ابتداءً وإنما خلقت أطوارًا فكانت نارية ثم
مائعة ثم يابسة ليس فيها نبات ولا حيوان، ثم صار فيها الحيوان والنبات، وما حدثت
هذه الأطوار إلا بالتدريج الطويل، كل طور في زمن يليق به. وهذا التفصيل الذي
قالوه يفسر الإجمال في قوله عز وجل: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ} (فصلت: ٩) ، والمعنى: أن أصل التكوين تم في زمنين (ولا تنس ما
تقدَّم شرحه من استعمال كلمة) يوم (في مطلق الزمان) ، ولا يأبى ذلك أن تكون في
أحدهما كرة نارية، وفي الثاني مائعة، ثم قال: إنه بارك فيها وقدر فيها الأقوات
حتى صارت صالحة للسكنى وارتفاق الأحياء في يومين تتمة أربعة أيام وذلك صريح
أو كالصريح في طور اليابسة التي ظهرت في الماء وطور الأحياء التي ظهرت في
اليابسة. ثم انتقل بعد هذا البيان إلى ذكر خلق السماء فذكر أنها كانت دخانًا وأنه
خلقها في يومين أي: في زمنين كل منهما تم فيه طور خاص، فكان خلق
السماء وتكوينها كخلق الأرض ولم يخبرنا بما قدر فيها بعد ذلك ولا بعدد الأزمنة التي
تدل على عدد الأطوار؛ لأن العبرة والاستدلال المقصودين من ذكر التكوين لا يتمان
إلا فيما للإنسان فيه علم ما وإن لنا علمًا بوجود السموات والأرض فذكر لنا خلقهما
وعلمًا بما في الأرض من الأقوات والخيرات فذكر لنا خلق ذلك.
فأنت ترى أنه لا يراد بالأيام التي خلقت فيها السموات والأرض أزمان
متعاقبة بينهما، ولا غير متعاقبة، وإنما يراد بها الإشارة إلى الأطوار، ومن
شأن الأطوار أن تتعاقب في كل شيء بحسبه {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح: ١٤) ،
فلو فرضنا أن الزمنين اللذين خلقت فيهما الأرض هما الزمنان اللذان خلقت فيهما
السماء بعينهما كما أن الطورين متحدان لما لزم من ذلك شيء يعترض به على
التعبير، إذ ليس المراد بيان التقديم والتأخير، ومن هنا تعلم أن قوله بعد ذكر خلق
الأرض {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (البقرة: ٢٩) لم يقصد به الترتيب في الزمن بل
الترتيب في الذكر كأنه قال: إننا سقنا لكم هذه الآية من آيات قدرتنا وحكمتنا، ثم إننا
نسوق لكم آية أخرى، واستعمال (ثم) في الترتيب الذكري كثير في القرآن وفي كلام
العرب والمولدين.
وأما قوله تعالى بعد ذكر السماء في سورة النازعات: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ
دَحَاهَا} (النازعات: ٣٠) فلا يدل على أن خلق الأرض كان بعد خلق السماء ولا
قبله؛ إذ ليس معنى الدحو الخلق والتكوين وإنما معناه تمهيدها للسكنى في نهاية الطور
الرابع ولذلك وصل كلمة (دحاها) بتفسيرها، فقال: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا
وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} (النازعات: ٣١ -٣٣) ،
ولا شك أن هذا كله كان بعد خلق السماء ووجود الليل والنهار الذي عبر عنه
بقوله: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} (النازعات: ٢٩) ، فظهر
أنه لا تناقض ولا تنافي ولا تخالف بين آيات (فصلت) وآية النازعات. وثَمَّ
وجوه أخرى ذكرها المفسرون تنطبق على اللغة وإنما ذكرنا ما هو الراجح عندنا
بحسب ما وصل إليه علمنا وفوق كل ذي علم عليم.
((يتبع بمقال تالٍ))