للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نموذج من دلائل الإعجاز [*]
تمتاز كتب الإمام عبد القاهر الجرجاني واضع فنون البلاغة (رحمه الله
تعالى) - على سائر الكتب التي أُلفت من بعده بعدة مزايا: منها أَنَّ عبارتها بليغة
وأساليبها رشيقة، ومنها تصوير المعاني شخوصًا تامة سوية، حتى كأن العقولات
ملموسة مرئية، ومنها كثرة إيراد الشواهد والأمثلة على الوجه الذي اختاره
الأوربيون ومقلدوهم في كتب التعليم لهذا العهد. وإننا نورد هنا نموذجًا من كتاب
دلائل الإعجاز في علم المعاني، وذلك من حيث انتهينا في الطبع بمطبعتنا
(الكراسة أو الملزمة ٤٤) . بيَّن - رحمه الله - في فصول متعددة فساد رأي الذين
ذهبوا إلى أن الفصاحة والبلاغة صفة للفظ دون النظْم والأسلوب، باعتبار تصوير
المعنى، ثم ختم ذلك بفصل في الموازنة بين المذهبين، فقال:

* * *
فصل
قد بلغنا في مداواة الناس من دائهم، وعلاج الفساد الذي عرض في آرائهم
كل مبلغ، وانتهينا إلى كل غاية، وأخذنا بهم عن المجاهل التي كانوا يتعسفون فيها
إلى السَّنن اللاحب، ونقلناهم عن الآجن المطروق إلى النمير الذي يشفي غليل
الشارب، ولم ندَع لباطلهم عِرقًا ينبض إلا كويناه، ولا للخلاف لسانًا ينطق إلا
أخرسناه. ولم نترك غطاءً كان على بصر ذي عقل إلا حسرناه، فيا أيها السامع لما
قلناه، والناظر فيما كتبناه، والمتصفح لما دوَّنَّاه، إن كنت سمعت سماع صادق
الرغبة في أن تكون في أمرك على بصيرة، ونظرت نظر تام العناية في أن يورد
ويصدر عن معرفة، وتصفحت تصفح مَن إذا مارس بابًا من العلم لم يقنعه إلا أن
يكون على ذروة السنام، ويضرب بالمعلى من السهام، فقد هُديت لضالتك، وفتح
لك الطريق إلى بُغيتك، وهيئ لك الأداة التي بها تبلغ، وأوتيت الآلة التي معها
تصل، فخذ لنفسك بالتي هي أملأ ليديك، وأعْوَد بالحظ عليك، ووازن بين حالك
الآن - وقد تنبهت من رقدتك، وأفقت من غفلتك، وصرت تعلم (إذا أنت خضتَ
في أمر اللفظ والنظم) معنى ما تذكر، وتعلم كيف تورد وتصدر - وبينها [١] وأنت
من أمرها في عمياء، وخابط خبْط عَشْواء. قصاراك أن تكرر ألفاظًا لا تعرف
لشيء منها تفسيرًا. وضروب كلام للبلغاء إن سئلت عن أغراضهم فيها لم تستطع
لها تبيينًا، فإنك تراك تطيل التعجب من غفلتك، وتُكثر الاعتذار إلى عقلك من
الذي كنت عليه طول مدتك، ونسأل الله تعالى أن يجعل كل ما نأتيه، ونقصده
وننتحيه، لوجهه خالصًا، وإلى رضاه عز وجل مؤديًا، ولثوابه مقتضيًا، وللزلفى
عنده موجبًا بمنَّه وفضله ورحمته.
ثم عقد فصلاً لكشف شبهة الذين جعلوا الفصاحة والبلاغة للألفاظ، فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أنه لما كان الغلط الذي دخل على الناس في حديث اللفظ كالداء الذي
يسري في العروق، ويفسد مزاج البدن - وجب أن يتوخَّى دائبًا فيهم ما يتوخاه
الطبيب في الناقِه، من تعهده بما يزيد في مُنَّته، ويُبقيه على صحته، ويؤمنه
النكس في علته، وقد علمنا أن أصل الفساد وسبب الآفة هو ذهابهم عن أن من شأن
المعاني أن تختلف عليها الصور، وتحدث فيها خواص ومزايا من بعد أن لا تكون،
فإنك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل، فصنع فيه ما يصنع الصانع الحاذق إذا
هو أغرب في صنعة خاتم، وعمل شنف، وغيرهما من أصناف الحلي. فإن جهلهم
بذلك من حالها هو الذي أغواهم واستهواهم، وورَّطهم فيما تورطوا فيه من
الجهالات، وأداهم إلى التعليق بالمُحالات؛ وذلك أنهم لما جهلوا شأن الصورة
وضعوا لأنفسهم أساسًا، وبنوا على قاعدة، فقالوا: إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا
ثالث، وإنه إذا كان كذلك وجب إذا كان لأحد الكلامين فضيلة لا تكون للآخر، ثم
كان الغرض من أحدهما هو الغرض من صاحبه - أن يكون مرجع تلك الفضيلة إلى
اللفظ خاصة، وأن لا يكون لها مرجع إلى المعنى، من حيث إن ذلك - زعموا -
يؤدي إلى التناقض، وأن يكون معناهما متغايرًا وغير متغاير معًا.
ولما أقروا هذا في نفوسهم حملوا كلام العلماء في كل ما نسبوا فيه الفضيلة إلى
اللفظ على ظاهره، وأبوا أن ينظروا في الأوصاف التي أتبعوها نسبتهم الفضيلة إلى
اللفظ، مثل قولهم: لفظ متمكن غير قلق ولا نابٍ به موضعه، إلى سائر ما ذكرناه
قبل، فيعلموا أنهم لم يوجبوا للفظ ما أوجبوه من الفضيلة، وهم يعنون نطق اللسان
وأجراس الحروف، ولكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا اللفظ وهم
يريدون الصورة التي تحدث في المعنى، والخاصة التي حدثت فيه، ويعنون الذي
عناه الجاحظ، حيث قال: وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني، والمعاني
مطروحة وسط الطريق، يعرفها العربي والعجمي والحضري والبدوي، وإنما
الشعر صياغة [٢] وضرب من التصوير، وما يعنونه إذا قالوا: إنه يأخذ الحديث
فيشنفه ويقرطه، ويأخذ المعنى خرزة، فيرده جوهرة، وعباءة فيجعله ديباجة،
ويأخذه عاطلاً فيرده حاليًا، وليس كون هذا مرادهم، بحيث كان ينبغي أن يخفى هذا
الخفاء، ويشتبه هذا الاشتباه، ولكن إذا تعاطى الشيء غير أهله، وتولى الأمر
غير البصير به - أُعضل الداء، واشتد البلاء، ولو لم يكن من الدليل على أنهم
لم ينحلوا اللفظ الفضيلة، وهم يريدونه نفسه، وعلى الحقيقة إلا واحد، وهو
وصفهم له بأنه يزين المعنى، وأنه حلي له -لكان فيه الكفاية؛ وذاك أن الألفاظ
أدلة على المعاني، وليس للدليل إلا أن يعلمك الشيء على ما يكون عليه، فأما أن
يصير الشيء بالدليل على صفة لم يكن عليها، فما لا يقوم في عقل، ولا يتصور
في وهم.
ثم ذكر الأخذ والسرقة وبيَّن أن التفاضل يكون بالأسلوب لا بالألفاظ، ثم أورد
الأمثلة فقال:
ثم إن أردت مثالاً في ذلك فإن من أحسن شيء فيه ما صنع أبو تمام في بيت
أبي نُخَيْلَة، وذلك أن أبا نخيلة قال - في مَسلمة بن عبد الملك -:
أمسلم إني يا ابن كل خليفة ... ويا جبل الدنيا ويا واحد الأرضِ
شكرتك إن الشكر حبل من التقى ... وما كل مَن أوليته صالحا يقضي
وأنبهت لي ذكري وما كان خاملاً ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعضِ [٣]
فعمد أبو تمام إلى هذا البيت الأخير، فقال:
لقد زدت أوضاحي امتدادًا ولم أكن بهيمًا ولا أرضي من الأرض مجهلا [٤]
ولكن أياد صادفتني جسامها أغرّ فأوفت بي أغر محجَّلا
وفي كتاب الشعر والشعراء للمرزباني فصل في هذا المعنى حسن، قال:
ومن الأمثال القديمة قولهم: (حرًّا أخاف على جاني كمأة لا قُرًّا) يضرب مثلاً للذي
يخاف من شيء، فيسلم منه، ويصيبه غيره مما لم يخفه، فأخذ هذا المعنى بعض
الشعراء، فقال: [٥]
وحذرت من أمر فمرَّ بجانبي ... لم يَنْكِنِي ولقيت ما لم أحذر
وقال لبيد:
أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السماك والأسد [٦]
قال: وأخذه البحتري، فأحسن وطغى اقتدارًا على العبارة، واتساعًا في
المعنى، فقال:
لو أنني أُوفي التجارب حقها ... فيما أرت لرجوت ما أخشاه
وشبيه بهذا الفصل فصل آخر من هذا الكتاب [٧] أيضًا، أُنشد [٨] لإبراهيم بن
المهدي:
يا مَن لقلب صِيغَ من صخرة ... في جسد من لؤلوء رطبِ
جرحت خديه بلحظي فما ... برحت حتى اقتصَّ من قلبي
ثم قال: قال علي بن هارون أخذه أحمد بن أبي فنن معنًى ولفظًا، فقال: [٩]
أدميت باللحظات وجنته ... فاقتص ناظره من القلب
قال: ولكنه بنقاء عبارته، وحسن مأخذه قد صار أولى به، ففي هذا دليل لمَن
عقل أنهم لا يعنون بحسن العبارة مجرد اللفظ، ولكن صورة وصفه وخصوصية
تحدث في المعنى، وشيئًا طريق معرفته على الجملة العقل دون السمع، فإنه على
كل حال لم يقل في البحتري: إنه أحسن، فطغى اقتدارًا على العبارة من أجل
حروف: (لو أنني أوفي التجارب حقها) ، وكذلك لم يصف ابن أبي فنن بنقاء
العبارة من أجل حروف: (أدميت باللحظات وجنته) .
* * *
ثم عقد فصلاً للموازنة بين نظم المعنى المتحد
في اللفظ المتعدد
فقال: وقد أردت إن أكتب جملة من الشعر الذي أنت ترى الشاعرين فيه قد
قالا في معنى واحد، وهو ينقسم قسمين: قسم أنت ترى أحد الشاعرين فيه قد أتى
بالمعنى غفلاً ساذجًا، وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتعجب، وقسم
أنت ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع في المعنى وصوَّر.
وأبدأ بالقسم الأول الذي يكون المعنى في أحد البيتين غُفْلاً، وفي الآخر
مصوّرًا مصنوعًا، ويكون ذلك إما لأن متأخرًا قصر عن متقدم، وإما لأن هدي
متأخر لشيء لم يهتدِ إليه المتقدم، ومثال ذلك قول المتنبي:
بئس الليالي سهرتُ من طربي ... شوقًا إلى مَن يَبيت يرقدها
مع قول البحتري:
ليلٌ يصادفني ومرهفة الحشا ... ضدين أسهره لها وتنامُهُ
وقول البحتري:
ولو ملكت زَمَاعًا ظل يجذبني ... قَوْدًا لَكَانَ نَدَى كفَّيْك من عُقُلي [١٠]
مع قول المتنبي:
وقيدت نفسي في ذُراك محبة ... ومَن وجد الإحسان قيدًا تقيَّدا
وقول المتنبي:
إذا اعتلَّ سيف الدولة اعتلت الأرضُ ... ومَن فوقها والبأس والكرم المحضُ
مع قول البحتري:
ظللنا نعود الجود من وعكك الذي ... وجدت وقلنا اعتلَّ عضو من المجدِ
وقول المتنبي:
يعطيك مبتدِئًا فإن أعجلته ... أعطاك معتذرًا كمَن قد أجرما
مع قول أبي تمام:
أخو عَزَمَات فعلُه فعلُ محسنِ ... إلينا ولكن عذرُه عذرُ مذنبِ
وقول المتنبي:
كريمٌ متى استوهبت ما أنت راكبٌ ... وقد لقحتْ حربٌ فإنك نازلُ [١١]
مع قول البحتري:
ماضٍ على عزمه في الجود لو وهب الشَّـ ـم باب يوم لقاء البيض ما ندما [١٢]
وقول المتنبي:
والذي يشهدُ الوغى ساكنُ القلـ ... ـبِ كأن القتالَ فيها ذِمامُ
((يتبع بمقال تالٍ))