للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


البابا لاون الثالث عشر - تتمة ترجمته

بينا في النبذة الأولى التي نشرناها في الجزء التاسع أن الأخطار كانت محدقة
بكرسي البابا عندما جلس عليه لاون الثالث عشر، ووعدنا بالإلماع إلى سلوكه في
مقاومتها، وما كان من نجاحه فيه، فنقول: إن الدول الكاثوليكية - التي يَدين أكثر
رعاياها بالخضوع إلى البابا كفرنسا والنمسا وإيطاليا - كانت عاملة على محو
سلطته، فما بال روسيا الأرثوذكية، وإنكلترا وألمانيا البروتستنتيتين لا يَكُنَّ من
أعدائه العاملات على محوه، ومحو طائفته من الأرض، وقد كان بين أهل مذهبه
ومذهبهن من الخلاف وسفك الدماء ما كان؟!
سلطة البابا رسمية دولية، وللدول عنده وكلاء كالسفراء عند الملوك، وقد كان
أول عمله استمالة الملوك العظام، والتوسل إليهم بالرفق بالكاثوليك، فنجح في ذلك،
حتى عاد إليه اعتباره، وتيسر لطائفته السير في طرق الترقي في كل مملكة كانوا
مهددين فيها، حتى تقدموا تقدمًا مبينًا. ولم تبقَ حكومة لم تسالمه ويسالمها إلا
إيطاليا التي أزالت ملكه، ونزعت سلطته المدنية (أو الزمنية) ، واستولت على
أملاكه، وفرضت له مبلغًا عظيمًا من المال بدلاً عنها، فلم يقبله، ومَن يبيع المُلك
بالمال؟ ! ولكنه على استمراره على عداوة الحكومة لم يقصر في استمالة الشعب
الإيطالي، ومن ذلك أنه بعث وفدًا دينيًّا إلى ملك الحبشة، يسأله إطلاق الأسرى
الذين أسرهم من جند إيطاليا في الحرب المعروفة.
سياسته مع الدول الكاثوليكية:
قد كان من إساءة فرنسا والنمسا في معاملة بيوس التاسع، والإنحاء على
كرسيه ما أومأنا إليه في الجزء التاسع، وقد استطاع أن يسالمهما مع حفظ حقوقه،
فكان يحث الكاثوليك على الخضوع للحكومة الجمهورية التي اختارتها الأمة لنفسها،
على أن أكثر أعدائها منهم. وكذلك جامل النمسا بقدر الإمكان، وأحسن في تعزية
عاهل النمسا والمجر جوزيف عند وفاة ولي عهده والتجائه إليه، حتى قيل: إنه لم
يرد الزيارة لملك إيطاليا حلفه مصانعة للبابا والتماسًا لرضاه. وقد كانت الصلات
السياسية تقطعت بين بلجكا والفاتيكان، فأعاد رابطتها، حتى صارت حكومة البلاد
إلى وزارة كاثوليكية. وأما سياسته مع الدول غير الكاثوليكية فهي السياسة المثلى،
وإننا نتوسع بعض التوسيع فيها، فنقول:
سياسته مع ألمانيا:
يعرف التاريخ ما كان في ألمانيا من اضطهاد الكاثوليك بعد سفك تلك الدماء
في التنازع الديني بينهم وبين البرتستنت، فإن ألمانيا مهد لوثر مؤسس المذهب
الثاني الذي كان مبدأ كل ما كان. وقد كان البرنس بسمارك داهية السياسة يبغض
الكاثوليك ويناصبهم. فلما ولي المترجَم كان أول عمله العناية بمسالمة ألمانيا
واستمالتها، وجمع كلمة الكاثوليك فيها، فكتب إلى عاهل الألمان بتوليته. ثم رأى
البرنس بسمارك اتحاد الكاثوليك وارتباطهم بالبابا، ورأى نفسه محتاجًا إليهم في
مقاومة الاشتراكيين في مجلس النواب، فلم يَرَ بُدًّا من استبدال الملاينة بالمخاشنة،
فكتب إلى البابا رقيمًا أطراه فيه إطراءً لم يكن يخطر بالبال، وكان من اعتبار
ألمانيا للبابا أن حكَّمته في الخلاف بينها وبين أسبانيا على جزائر كارولين، فكان
من حكمته ودهائه أن تمكن من إرضاء الفريقين معًا بما حكم به.
ثم إنه أسلس لألمانيا حتى أطمع عاهلها بلينه في إرضائه بأن تكون دولته
حامية الكاثوليك في الشرق؛ ولهذا الطمع زاره غليوم الثاني مرتين سنة ١٨٨٨
وسنة ١٨٩٣، ولكنه لم ينل منه هذه الأمنية، ولم ييأس منها. ولولا دهاؤه لسلب
فرنسا التي قاومته، وقاومت الدين أشد مقاومة هذه المزية - حماية الكاثوليك -
وهي أقوى آلتها السياسية في الشرق، ومنحها لعدوتها (ألمانيا) ، ولكنه لم يحب
أن يزيد الخرق اتساعًا بينه وبينها.
سياسته مع إنكلترا:
لم يكن حظ الكثلكة في إنكلترا مع الإصلاح بأمثل من حظها في ألمانيا؛ فقد
اضطُهِد الكاثوليك في تلك الجزائر وسفكت دماؤهم وسِيموا خسفًا وهوانًا في القرون
الثلاثة: السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، وكذلك الثلث الأول من القرن
التاسع عشر، حتى قل عددهم، وانطمست رسومهم في تلك البلاد، فلم يبق من
الإنكليز على مذهب الكنيسة الرومانية إلا نحو ١٦٠ ألفًا.
أحسن ليون الثالث عشر التودد لملكة الإنكليز، واختار لرياسة الكنيسة في
بلادها بعض رجاله الدهاة، حتى حسنت الحال، وصارت الملكة تتلقى الكرادلة
الوافدين عليها من قِبَله بالحفاوة العظيمة، بل صاروا يتقدمون في قصرها على
رئيس أساقفة (كنتربري) رئيس الكنيسة الإنكليكانية الرسمي، الذي يتوج ملوك
الإنكليز، وأُعطي الكاثوليك حرية من الحكومة الإنكليزية، لم تكن تصل إليها
أمانيهم، فارتقوا ارتقاءً مبينًا، وزاد عددهم، حتى صار البروتستنت يرجعون إلى
الكثلكة، وحتى طلب بعض قسوسهم رجوع الكنيسة الإنكليكانية إلى رسوم
الرومانية، فطمع البابا المترجَم باتحاد الكنيستين، وكتب يدعو إلى ذلك. ويقول
العارفون: إنه لو قدر على ترك بعض الرسوم والتقاليد - التي لا يمكن أن يطيقها
أهل مذهب الإصلاح بعدما تفصوا من عُقلها - لتم له ما يريد.
أرأيت الكاثوليك الذي كانوا في أول القرن التاسع عشر يعدون في إنكلترا
بالألوف، إنهم صاروا يعدون بالملايين؛ فقد جاء في إحصاء سنة ١٨٩١ أن عدد
الكاثوليك في إنكلترا نفسها مليون ونصف، وفي أيرلاندة ٣.٥٤٩.٩٥٦ وفي
سكوتلنده ٣٥٦٠٠٠، وتبع هذا التقدم والنمو في بلاد الإنكليز التقدم والنمو في
مستعمراتها، حتى علم من ذلك التقويم أن عددهم في البلاد والمستعمرات يزيد على
عشرة ملايين ونصف، وأن لهم فيها من كراسي رؤساء الأساقفة ٢٨، ومن
كراسي الأساقفة ١٠٥.
ونخص الهند بالذكر فنقول: إن عدد الكاثوليك في الهند لم يكن يزيد في أوائل
القرن التاسع عشر على نصف مليون، ولم يكن لهم إلا ثلاثة أساقفة، وقد تبين من
الإحصاء - الذي أشرنا إليه - أن عددهم صار يزيد على مليونين، وأن لهم ٣٣
كرسيًا أسقفيًا و٨٠٠ كاهن أوربي، و٦٥٠ كاهنًا هنديًّا و٦٠٠ راهبة أوربية و٢٠٠
راهبة هندية و٢٠٠ راهب من جمعية الإخوة (فرير) و٧٠ مدرسة كبرى،
و٢٢٠٠ مدرسة ابتدائية، وتلامذة هذه المدارس مائة ألف، وإن لهم مدرسة دينية
خاصة (على أن جميع مدارسهم دينية) ، فيها ستة آلاف تلميذ، يكونون كلهم دعاة
للدين ورهبانًا وقِسِّيسين. وإن لهم أيضًا ٩٨ ملجأً للأيتام، فيها ٥٨٠٠ ولد. وقد
زار ملك الإنكليز البابا في هذه السنة. ولما مرض مرض الموت كتب إليه بخطه،
يسأله عن صحته، كما كتب إليه عاهل ألمانيا بخطه.
سياسته مع روسيا:
الخلاف بين الكنيسة الرومانية والكنيسة الشرقية - التي يحميها قيصر روسيا
وأكثر رعيته من أتباعها - قديم كان ولم يكن في الدنيا بروتستانت، وقد كانت
روسيا في سرور عظيم من قيام أوربا بمناهضة البابا وكنيسته، ولم تقصر في
اضطهاد كاثوليك بلادها. وكانت الصلات السياسية قد تقطَّعت بين هذه الدولة وبين
الفاتيكان في عهد البابا بيوس التاسع، فلما جاء بعده ليون الثالث عشر كان أول
شيء عمله في تلافي ما سبق أن أرسل كتابًا بخط يده إلى القيصر، يخبره فيه
بتوليته، ولما كاد النيهلست للقيصر وحاولوا اغتياله سنة ١٨٧٩ و١٨٨٠، فنجا
من كيدهم - كتب إليه البابا يهنئه بذلك، فكان لهذه المجاملة من التأثير ما حمل
القيصر على التساهل في تعيين الأساقفة للكاثوليك في بلاده، وأعيد أسقف ورسو
من منفاه في سيبريا. وكتب البابا إلى أساقفة بولندا يأمرهم بالخضوع لحكام بلادهم
وقوانينها، وبِحَثّ العوام على ذلك، وأرسل سفيرًا من قِبَله لحضور تتويج القيصر
الحالي سنة ١٨٩٦.
سياسته مع الدولة العلية:
إن هذه الدولة تختلف مع البابا في أصل الدين لا في المذهب، ولكن التساهل
الذي تقضي به طبيعة الإسلام جعل الكاثوليك في بلادها أحسن حالاً منهم في جميع
البلاد الأوربية أيام ذلك الاضطهاد، والتسافك في الدماء، وقد قابل البابا السياسي
هذه المعاملة الحسنة بالشكر، فازدادت المودة بينه وبين السلطان العثماني.
وقد أرسل السلطان مندوبًا خاصًّا إلى رومية لتهنئة ليون الثالث عشر بمنصبه،
وقد اجتهد السلطان أيضًا بالفصل في الخلاف الذي كان من الأرمن الكاثوليك،
والشقاق الذي كان من الكلدان الكاثوليك، فكان البابا يعلن الشكر له على ذلك. ولما
احتفل بعيد البابا الكهنوتي (يوبيله الفضي) سنة ١٨٨٧، أرسل السلطان عبد
الحميد يهنئه بهدية نفيسة، وهي خاتم من جوهرة يتيمة، كبيرة الحجم، بيضية
الشكل، تنبعث منها أشعة تنعكس أنوارها على الزوايا، فيخال الناظر إليها أنها
مجموع أحجار كريمة تتراءى فيها ألوان الطيف التي في قوس السحاب، وكانت
هذه الجوهرة من النفائس المحفوظة في خزائن سلاطين آل عثمان. وقد وضع
الخاتم في غلاف من الذهب الوهَّاج على هيئة تاج ملكي يضيء الخاتم من خلال
فروجه.
ولما احتفل بعيد البابا الأسقفي (يوبيله الذهبي) سنة ١٧٩٢، أهداه السلطان
هدية كانت عنده، وعند أهل ملته أنفس من الأولى، وهي الكتابة التي يقولون إن
القديس أبرقيوس - أسقف هيرا بوليس، وتلميذ يوحنا الحبيب - نقشها في أواسط
القرن الثاني الميلادي على صفيحة أوصى بأن تُجعل فوق ضريحه.
ولو أردنا أن نذكر ما خدم به ملته وأمته في الصين واليابان والحبشة، وفي
سائر البلاد لخرجنا إلى التطويل الذي ليس من موضوعنا ولا من غرضنا؛ لأن
العبرة التي نقصدها تتم لنا بالقليل الذي يغني عن الكثير، فكيف بنا إذا حاولنا
إحصاء المكاتب والمدارس، والأديار والكنائس، والملاجئ والمستشفيات،
والرهبان والراهبات، والأطباء والممرضات، والمبشرين والمربيات، والمعلمين
والمعلمات، والمتنصِّرين والمتنصرات؟ !
هل من الحكمة والرأي أن نجهل ما يفعله القوم من خدمة دينهم ونشره، وأن
نكتم ما يتفق لنا علمه؛ لأنه مما يُمدحون عليه؟ هل تقضي علينا الغيرة الدينية بأن
نسمي جهلنا علمًا، وتقصيرنا تشميرًا، وضعفنا قوة، وأن نسمي حذقهم بلادة،
ونشاطهم كسلاً، وعلمهم جهلاً، وقوتهم ضعفًا؟ !
منزلة ما خلتها يرضى بها ... لنفسه ذو أدب ولا حِجى
لا شيء أنفع من معرفة الحقيقة والواقع، ولا شيء أضر من الجهل بالحقيقة
والواقع، ومَن أنهكه المرض حتى صار حَرَضًا، وأشرف على الهلاك، ويئس من
روح الله - لا يرضيه إلا أن يغش نفسه بالمدح الكاذب، ويكابر حسّه وعقله،
فيذم من مناظريه ما يراه محمودًا.
وإننا نبدئ هذا القول ونعيده، ثم إننا نجد ممن يطلعون عليه من يقول: إن
محبنا الذي ينصح لنا هو مَن يمدحنا ويمدح رؤساءنا ولو بالباطل، وينكر حقوق
من يخالفنا، ويذمهم ولو كاذبًا. والعلة في هذا أن هؤلاء الضعفاء لا غرض لهم من
حياتهم إلا اللذة، والحق مر في ذائقة المبطلين، والجد مملول عند الهازلين.
إليكم عنّا يا عشّاق اللذة الباطلة، ومحبي الجهالة القاتلة، لسنا نكتب لكم،
وإنما نكتب لقوم استعدوا لقبول العلم النافع، وهو - كما قال الأستاذ الإمام -: (ما
يعرفك مَن أنت ممن معك) ، فإلى هؤلاء نسوق هذه الترجمة، ونقول: أين
علماؤكم الأعلام، أين الذين تلقبونهم بمشايخ الإسلام، أين الأمراء الذين انتحلوا
لأنفسهم الرياسة الدينية، وزعموا أنهم أولو الأمر الذين تجب طاعتهم على الرعية،
خبِّرونا ماذا تعلموا وماذا عملوا حتى استحقوا هذه الرياسة، وهل كان للأمة رأي في
اختيارهم لها، وبماذا خدموا الإسلام فيها، هل يعرف شيخ الإسلام حدود بلاد
المسلمين، هل وقف على شيء من أحوال شعوبهم في الدنيا والدين، هل سعى لهم
بإنشاء مدرسة كلية أو جزئية، هل أرسل إلى بعض بلادهم بعثة دينية، هل كشف
لهم شبهة اعتقادية، هل حل لهم مشكلة سياسية، هل كَاتَبَ العلماء في غير بلاده،
هل حاول أن يصل ودادهم بوداده، هل خطر بباله أن يعد طائفة من العلماء للقيام
بمثل هذه الأعباء؟ !
كلا، إن المسلمين ليس لهم جمعيات دينية ولا دنيوية تنتخب لهم شيخًا مستعدًّا
لخدمة الإسلام فتسميه (شيخ الإسلام) ، ويكون مطالَبًا من المسلمين، وإنما اخترع
هذا اللقب الأمراء الذين استقلوا بالزعامة الدينية والدنيوية؛ فثقل عليهم الجمع بين
شعار رؤساء الدين، وبين التمتع بالشهوات وحضور مجالس اللهو والشرب
والرقص؛ فجعلوا هذا الشعار لبعض العلماء الرسميين الذين يأخذون شعار العلم
والدين من الأمير أو السلطان، فالأمير يصل إلى مقاصده الدينية بعمامة (شيخ
الإسلام) وجُبته، ويتمتع هو بما شاء بزي السياسة، وشيخ الإسلام وسائر
أصحاب المناصب الدينية من القضاة والمفتين والمدرسين الرسميين والخطباء وأئمة
المساجد - يعترفون للأمير بالرياسة الدينية الكبرى بما يمنحهم من الرتب والرواتب،
والأوسمة والمناصب، فما لهؤلاء ولخدمة الإسلام والمسلمين؟ !
إذا أراد الحاكم - الذي يولي شيخ الإسلام وغيره من المشايخ مناصبهم، ويزين
صدورهم وأكتادهم وعمائمهم بالنسيج الفضي يتلألأ عليهم في أيام الأعياد - أن
يكلفهم بعمل ينفع الإسلام، فإنهم يجتهدون في القيام به ما استطاعوا كما اجتهدوا في
خدمة هؤلاء الحكام فيما يضر ولا ينفع، وأوَّلوا لهم ما أولوا، حتى غيروا ما
غيروا، وبدلوا ما بدلوا، وإذا لم يُرِد الحاكم لا يريد شيخ الإسلام؛ فإن الإنسان
مادام محرومًا من الاستقلال يكون تابعًا لمَن يرى بيده منفعته ومضرته، ولو كان
المسلمون هم الذين ينصبون (شيخ الإسلام) - كما عُهد إليهم أن ينصبوا السلطان
والإمام - لكان شيخ الإسلام تابعًا لإرادتهم، وعاملاً بمشاورتهم لمصلحتهم.
وسنكتب نبذة خاصة في كيفية انتخاب البابا، ونبين فيها حكم الانتخاب عند
المسلمين.