للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


بيان القرآن وبلاغته
وما يوهم غير ذلك

(س١) الشيخ أحمد محمد الألفي بطوخ القراموص: كيف الجمع بين
قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} (النساء: ٧٩) ، وقوله تعالى:
{وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} (الكهف: ٢٨) .
(ج) راجعوا ما كتبه الأستاذ الإمام في الجمع بين الآية الأولى، وبين قوله
تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: ٧٨) في الصفحة ١٥٧ من مجلد المنار
الثالث.
***
(س٢) ومنه: كيف الجمع بين قوله تعالى في أوائل السور: حم، الر،
ن، ق، وقوله: {عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (النحل: ١٠٣) ، وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ
الْمُبِينِ} (يوسف: ١) ، {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (الزمر: ٢٨) .. إلخ.
(ج) إنَّ (حم) ونظائرها أسماء للسور على الراجح عند المحققين، ودلالة
الاسم على المسمى بينة لا عوج فيها، وأنتم تعلمون أن: (الأسماء لا تعلَّل) فلا
يقال: لماذا سميت السورة المعلومة (ن) فإن كانت سميت به لذكر الحوت
فيها والنون من أسماء الحوت فلماذا سمي غيرها بأسماء حروف مفردة ومركبة لا
يعرف لها معنى غير تلك الحروف؟ لا يقال هذا؛ لأننا إذا جوزنا أن يقال لقيل في
جميع الأسماء ولذلك قالوا: الأسماء لا تعلل، وأما الذين يقولون بأن لتلك الحروف
إشارات لمعانٍ سامية تعلو أفهام العوام، ولا يعرفها إلا الراسخون من العلماء
الربانيين، فقولهم هذا - إذا صح - لا ينافي أنها أسماء للسور، وأن القرآن مبين
وظاهر يتيسر لكل من يعرف اللغة العربية مفرداتها وأساليبها أن يفهمه ويهتدي به.
ومثال هذا في المحسوسات الأهرام، فإن جميع المؤرخين والقارئين للتاريخ
يعرفون الغرض منها، ثم إن الرياضي منهم يستخرج من مساحة أضلاعها وهيئة
أوضاعها ما لا يعرفه غيره ممن عرف معناها والغرض منها، ولم يعلم أن تلك
الأطوال والعروض وضعت بالمقادير المخصوصة لتدل على مقاييس البلاد في
الزمن الذي بنيت فيه وغير ذلك.
فكل ما يمكن استخراجه من القرآن بطريق معقول فلا ينبغي أن يتوقف في
قبوله؛ لأنه لم يهتدِِ إليه إلا بعض الخواص. وأما الذي لا يقبل فهو ما كانت دلالته
على معناه غير وضعية ولا عقلية كاستخراج المعاني من هذه الحروف بالعدد الذي
يسمونه حساب الجُمل. وهذا المعنى الذي قلناه ظاهر عند أهله في العلوم العالية
المشروحة في القرآن وأعني العلوم الإلهية والغيبية فإن آياتها ظاهرة للعارف باللغة
فهي في غاية البيان ووراءها معانٍ أخرى يعرفها بعض الخواص، وهي توافق
المعاني الظاهرة، وتزيد عليها بما لا يخالفها ولكنه يَدِقُّ عن أفهام العامة. وهذا
ضرب من ضروب إعجاز القرآن لعلنا نوفق لشرحه في وقت آخر. نعم إن كون
القرآن مبينًا لا يمكن أن يجامع القول بالتقليد الذي يزعم أهله أن الكتاب والسنة
المبينة له لم يفهمها إلا نفر ماتوا، ولا يمكن أن يوجد بعدهم من يفهمهما!
***
(س٣) ومنه: أن كثيرًا من المسيحيين لهم القدح المعلَّى في اللغة والبلاغة
ومع ذلك لم يعترف بإعجاز القرآن مع ما فيه من أسرار البلاغة وضروب
الأحكام والحكم وبديع المعاني والبيان، مما جعل عرب زمن التنزيل في دهشة منه
واعترفوا بإعجازه، ومن كفر فإنما كفر عن حسد وعناد. ومع ذلك ترى هذا المسيحي
الأديب الفصيح متمسكًا بالنصرانية فيقول: لا ريب أن المسيح (عليه السلام) الإله
وإنسان، وخالق ومخلوق، وعابد ومعبود، ورب وعبد، ومخلِّص
ومصلوب، وبارّ وملعون [١] وآب وابن وروح قدس، فهو ثلاثة حقيقة وواحد
حقيقة، إلى غير ذلك من ضروب المتناقضات فهل لذلك من سبب؟ ثم هو ينظر
إلى الكتاب المقدس نظر المَغْشِي عليه، فيغض الطرف عن تناقضه واختلافه
وانقطاع إسناده ومخالفته لصريح العقل ومقبول النقل وفساد آدابه، ثم يفتح عينيه
لانتقاد القرآن الحكيم فيأتي بالمضحك والمبكي المحزن للإنسانية والفضيلة والعدل
والحرية في القول والعمل، فهل لذلك من سبب أيضًا؟
(ج) السبب في هذا وذاك أن مَن ذكرتم قد اتخذوا الدين جنسية ورابطة
اجتماعية سياسية، فهم يحافظون على العقائد والتقاليد والعادات المِلية التي تربطهم
بعامة أهل ملتهم؛ إذ لو أهملوها لانحلت جامعتهم وصاروا بغير أمة وغير ملة.
ولم ينظروا في الإسلام نظر إنصاف فيفهموه من أصوله؛ لأن المسلمين الذين اتخذوا
الدين جنسية أيضًا قد عادوهم عداوة لم يأذن بها الإسلام فكانت هذه المعاداة سببًا في
بحث كل فريق عن عيوب الآخر فقط، لا عن حقيقة ما عنده. وأنتم تعلمون أن
البدع والمنكرات الفاشية في المسلمين كافية لأن تكون حجابًا دون محاسن الإسلام
حتى تحجبَ العاقل المنصف، بله المعاند المتعسف، فالعارفون بفنون البلاغة من
النصارى قلما ينظرون في القرآن نظر إنصاف، ومن نظر ولاح له أنه معجز فإن
العداوة الجنسية تمنعه من قول الحق لا سيّما إذا كان يرى أن كون القرآن معجزًا
ببلاغته لا يدل على كونه منزلاً من عند الله تعالى، وجلهم أو كلهم يرون ذلك. وقد
وجد من أهل العلم والإنصاف منهم من صرح بأن القرآن قد بلغ حد الإعجاز في
بلاغته، كالمعلم جبر أفندي ضومط أستاذ البلاغة في المدرسة الكلية الأمريكانية في
بيروت، فإنه قد صرّح بذلك في فاتحة كتابه (الخواطر الحسان في المعاني والبيان) .
هذا، وقد علمنا بالاختبار أن أكثر المتعلمين العقلاء من النصارى لا يعتقدون
بالتثليث، ولا بشيء من الخرافات المعروفة عند قومهم، بل منهم المتطرفون الذين لا
يعتقدون إلا بالمحسوسات والبديهيات المعقولة، ولو أن المسلمين الذين يعيش معهم
هؤلاء النصارى أهل نظر وبرهان، واطلاع على علوم هذا الزمان، لا أهل تقليد
للأموات، وتسليم بالخرافات، وكانوا يعاملونهم بالإنصاف، ويجادلونهم بالتي هي
أحسن - لرأيت كثيرين منهم دخلوا في الإسلام، ولرأيت من لم يدخل فيه يعترف
بفضله ولا يعاديه، وإنني أرى أننا أحوج إلى حسن معاملتهم والقسط إليهم في هذا
العصر منا إلى ذلك العصور السابقة، وأن هذا خير لنا ولهم في الدين والدنيا فعسى
أن يوجد في عقلاء المسلمين كثيرون يسعون في هذه السبيل.
***
(س٤) محمد أفندي عمر السمان بمصر: اختلف المفسرون في تفسير
آيات القرآن الشريف اختلافات شتّى، وبين كل واحد لها معنى قلما يتفق مع الآخر
وأغلبهم من علماء العربية بأسرارها ودقائقها، فما معنى بلاغة القرآن مع انبهام
معانيه حتى على الخاصة الذين هم أولى الناس بفهمه، وهل يعد كلام بليغًا إذا انبهم
معناه على سامعيه، واختلفوا في فهم المراد من طرائق شتى؟ نرجو أن تفيدوا
في مناركم الوضاح جواب هذا السؤال بعبارة يفهم كل القراء معناها، ولا يخفى
على الخاصة منهم مغزاها ولكم الفضل.
(ج) نقول قبل كل شيء: إن السائل قد غلا في تقرير الخلاف في فهم
الآيات حتى زعم أن الاتفاق بين المفسرين العارفين بأسرار العربية قليل، والصواب
أن الخلاف بين المحققين العارفين هو القليل، وأن الأكثر متفق عليه، ثم إن الجواب
يتجلى في مسائل نذكرها بالاختصار فنقول:
(١) إنَّ الغرض من البلاغة أن يبلغ المتكلم ما يريد من نفس المخاطب
وهو الفهم والتأثير، وقد بلغ القرآن من نفوس من دعوا به إلى الإسلام مبلغًا لم يعهد
مثله لكلام آخر عربي ولا عجمي، وما ذلك إلا أنهم فهموا معانيه بدلائلها وبراهينها
وتأثروا بحِكَمه ومواعظه حتى تركوا عقائدهم وتقاليدهم وعاداتهم التي كانوا
يفاخرون بها، وأُنشِئوا خلقًا جديدًا، وحتى كان المشاغبون المعاندون منهم لم
يروا وسيلة للتخلص من تأثيره إلا بالإعراض عن سماعه، واللغو واللغط عند تلاوته
حتى لا يصل منه شيء إلى نفوسهم كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: ٢٦) ولم ينقل عن
العرب من آمن منهم، ومن لم يؤمن أنهم اختلفوا في فهمه كما اختلف من بعدهم وإنما
كان الراسخون في العلم كالخلفاء لا سيما رابعهم، وكالعبادلة فهم أعلى من فهم سائر
الناس كما فهم ابن عباس من سورة النصر أن النبي عليه الصلاة والسلام قد دنا أجله،
وأن قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْه} (النصر: ٣) نعي له وأقرّه النبي
على ذلك. ولا شك أن سائر الصحابة قد فهموا معنى السورة كما فهمها ابن عباس،
وهي على بلاغتها، وهذا الفهم الجديد من ابن عباس مزيد في البلاغة ودليل على
أن لها مراتب متفاوتة، ولا يمكن أن يكون الناس المتفاوتون في فهم كل شيء، والعلم
به يتفقون في فهم القرآن، والعلم به وهو أعلى كلام وأجمعه للمعارف العالية الإلهية
والنفسية والشرعية (راجع جواب السؤال الثاني) .
(٢) إنَّ علماء اللغة والبلاغة اختلفوا في فهم كل كلام بليغ غير القرآن
كالمعلقات السبع وغيرها مما يؤثَر عن البلغاء في الجاهلية والإسلام، فلو كان
اختلاف الأفهام في الكلام ينافي بلاغته لما كان لنا أن نقول إن في الكلام بليغًا إلا
بعض الجمل البديهية من العامة الجهلاء كقولهم: أكلت رغيفًا وشربت كوزًا من
الماء، وقد يختلفون في فهم ما عدا البديهي من كلام العامي كما يختلفون في فهم
البديهي من كلام العالم بحمله على الكناية أو المجاز. وإذا قرأت القرآن على عامي
عرف العربية ولو ممزوجة باللحن والدخيل، وأنشدته قصيدة من شعر امرئ القيس
أبلغ شعراء العرب لرأيته فهم من القرآن ما لم يفهم من القصيدة، وكان للقرآن في
نفسه الأثر الذي ليس للقصيدة ما يدانيه، ومن هنا تعلم أن بيان القرآن عجيب،
وأن لكل من يعرف العربية منه نصيب:
ولكن تأخذ الأذهان منه ... على قدر القرائح والفهوم
(٣) إنَّ أكثر ما تعهد من الخلاف في التفسير سببه أن المتخلفين لم يحاولوا
فهم القرآن بذاته، وإنما حاولوا تطبيقه على مذاهبهم في النحو والبلاغة والكلام والفقه
حتى كأن مذاهبهم هي الأصل الثابت، ولا بد من تطبيق القرآن عليه، ولو حاولوا
فهمه بذاته، وأعدوا له مزاولة أساليب اللغة، ومعرفة متنها والاطلاع على السنة من
غير تقيد بمذهب مخصوص؛ لأن القرآن فوق المذاهب والآراء - لكان خلافهم أقل
ووفاقهم أكثر، ولكان رجوع أحد المختلفين إلى الوفاق بعد النظر في دليل الآخر قريبًا،
فالتقليد في الدين وفي قوانين اللغة هو منشأ البلاء الأعظم في الخلاف. وله
أسباب أخرى مفصلة في كتاب (الإنصاف في أسباب الخلاف) وهو كتاب نفيس
يطلب من إدارة المنار، وثمنه ٣ قروش، وأجرة البريد نصف قرش.
فعلم ما قلناه أن الخلاف دون ما قال السائل، وأنه لا ينافي البلاغة قل أو أكثر.
ولو كان الخلاف في الكلام هل هو صحيح أو غير صحيح، وهل هو بليغ أو غير
بليغ، وكان كل ذي قول يورد الأدلة على تأييد رأيه لكان للجاهل أن يشك في
بلاغته؛ لأنه علم أن أهل الشأن اختلفوا فيها، وهو غير قادر على الترجيح. والأمر
في القرآن على غير ذلك، فقد أجمع بُلغاء العرب - من آمن منهم ومن لم
يؤمن - على إعجازه، وكذلك العلماء بالعربية الذين أخذوها بالصناعة، فلم يبق
للجاهل عذر بعد العلم بأن هذه مسألة لا نزاع فيها عند العارفين بهذا الشأن، والله
أعلم.