للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مضار تربية النساء الاستقلالية

كتبنا من قبل في بيان مضار استقلال النساء بتربيتهن كتربية الرجال
وإقناعهن بأنهن مساويات لهم من كل وجه، فإن هذا أمر مخالف لسنن الفطرة التي
بينها دين الفطرة في كتابه السماوي فقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: ٢٢٨) أي: أن المساواة بين الزوجين واجبة
في الحقوق مع حفظ حق سيادة المنزل للرجل. وقد أوردنا الشواهد والأمثلة عن
أهل أوروبا لا سيما نساء الإنكليز على وجوب جعل المرأة تحت سيادة الرجل
وعلى كون التربية عندهم صارت تعارض ذلك. وقد رأينا عنهن شاهدًا جديدًا في
هذه الأيام، وهي أن النساء الكاتبات الفاضلات اللواتي تربين وتعلمن في هذا العصر
طفقن يكتبن في الجرائد منتقدات شاكيات من تربية بناتهن تربية جعلت همهن
محصورًا في الزينة والولوع بصرف الأوقات في المنتزهات، حتى صار يثقل
عليهن مساعدة أمهاتهن في تدبير المنزل! وقد نقل المقطم نبذة من ذلك إلى العربية
عنوانها (حرب سجال) نوردها ها هنا تأييدًا لقولنا وهي:
في إنكلترا الآن حرب أقلام ثار عجاجها على صفحات الجرائد الإنكليزية بين
الأمهات وبناتهن، ورُب قلم أحدّ من السنان وأمضى من الحسام. وقد كانت الأمهات
البادئات بالعداء فإن أمًّا منهن رأت من بناتها تقصيرًا في قضاء الواجبات المنزلية
المفروضة عليهن وميلاً إلى عصيان كل أمر تصدره إليهن، فهالها طغيانهن وتهاملهن
وضاقت ذرعًا عن كبح جماحهن، فاستغاثت بالجرائد وبعثت برسالة إلى إحدى
الجرائد المشهورة بإمضاء (أم خائبة الأمل) ! وهذا نصها بعد الديباجة:
أريد أن أعلم آراء قراء جريدتكم في هذه المسألة. فإن لي ثلاث بنات عمر
الصغرى منهن ١٧، والكبرى ٢١، وقد تعلمن في مدارس معروفة، وأكملن
دروسهن ولَزِمْنَ البيت. وزوجي متقلد منصبًا حسنًا فلا حاجة بهن إلى احتراف
حرفة يرتزقن منها. ولكن أملي بهن خاب لما يبدين من الميل إلى الحرية
والاستقلال فبدلاً من أن يساعدنني ويتفكرن فيَّ تراهن لا يتفكرن في غير أنفسهن
وملاذهن كالألعاب الرياضية وغيرها مما هو خارج عن دائرة الأشغال المنزلية،
ويكرهن البقاء في المنزل أيام استقبال الزائرين ورد الزيارات معي قائلات: إن ذلك
من قبيل إضاعة الوقت، وهن يسخرن بأذواقي، ويعددنها أذواقًا قديمة ليست
حسب الأذواق الحديثة، ولا يزلن يتعلمن الموسيقى إلى الآن فيقضين نصف
النهار في التمرن عليها.
(هذا وإني لست أريد معارضتهن في كل شيء، ولكني أريد أن أعلم إنْ كانت
بنات الناس كذلك، ومما لم أستحسنه فيهن استعمالهن كلمات زقاقية وعبارات اللغو
والمبالغة في حديثهن. فهل توافقني سائر الأمهات على أن هذه هي (مُودَة) هذا
الزمان) .
وكأن هذه الرسالة جرَّأت الأمهات على ما لم يجترئن عليه قبلها فبعثن
بالرسائل تباعًا إلى إدارة الجريدة يشكون أمورًا كثيرة يأتيها بناتهن مما ينكرنه
عليهن، فنذكر بعضًا للتفكُّه:
قالت إحداهن: (إني أوافق على كل ما قالته صاحبة الرسالة بإمضاء) الأم
الخائبة الأمل (فإننا كلنا في الهوى سوى) وأن للبنات حرية زائدة هذه الأيام في
العمل والكلام، فإذا قاطعتهن انتقمن لأنفسهن برد جوابات فيها ما فيها من الصلف
والوقاحة. وهذا اختبار أم أخرى خاب أملها) .
وقالت غيرها: (أخشى أن ما تشعر به (الأم الخائبة الأمل) يكون مطابقًا
لشعور الأمهات في جميع العالم، وهو دليل على انحطاط الشعور القديم من نحو
العائلة، وانتشار (المودة) الجديدة، وهذا آفة على التهذيب القديم الذي كان أمهاتنا
يعتقدن بقوة تأثيره فينا) .
وقالت أخرى: إني أشارك الأم الخائبة الأمل في ما تراه وتشعر به، وأقول: إن
تمرد البنات شر متفاقم تشعر الأمهات بضرره الشديد. فإن الأمهات حاولن تربية
بناتهن على مثل ما ربين عليه أيام كانت الحشمة الحقيقية ناتجة عن رقة الشعور
واحترام الآخرين. ولكن تلك الأفكار أمست قديمة مبتذلة الآن فبات البنات لا
يحترمن أمهاتهن ولا يخضعن لهن. بل يفعلن ما يردن غير مكترثات لآراء والديهن،
فما هي نتيجة ذلك يا تُرى؟ وكيف تربي أولئك البنات أولادهن متى تزوجن؟
هذا مثال الرسائل التي أرسلها الأمهات يعترضن فيها على سلوك بناتهن
ووافقهن أخ أرسل رسالة بإمضاء (أخ مشمئز) قال فيها: (إن هذا العصر هو ما
يسمونه عصر (التقدم) و (تساوي الجنسين) وغير ذلك من الأسماء فكانت
نتيجته (المرأة الجديدة) التي نراها الآن بعيوبها الكثيرة!
وما كادت هذه الرسائل تُنشر حتى استشاطت البنات حنقًا، وأرسلن الرسائل
تترى إلى الجريدة المذكورة جوابًا على شكاوى الأمهات، ونصرهن بعض الآباء
والأمهات كما سيأتي. وهاك أجوبة بعض البنات:
قالت إحداهن بإمضاء (ابنة مضطربة) :
(أنا ابنة مدركة سن الرشد وأحوالي على ما وصفت (الأم الخائبة الأمل)
في رسالتها، ولا شيء يسرني مثل مساعدة والدتي على تدبير المنزل، وتخليصها من
همومه الكثيرة، ولكنها لا تعتمد عليَّ في عمل من أقل الأعمال؛ لأنها تعتقد أن لا أحد
يحسن عملاً إلا إذا كانت يدها فيه وهي تراقب عمله. وعليه عدلت عن الاهتمام
بتخليصها من عناء الأشغال والأعمال المنزلية لأني وجدت الاهتمام يضيع سدى.
فكيف تؤمل الأمهات أن تثق بناتهن بهن ما دمن لا يثقن ببناتهن، وهل يستغرب من
البنات الاهتمام بما هو خارج البيت إذا كُنَّ لا يجدن فيه من يهتم بهن ويعطف
عليهن) .
وكتبت بنت كتابًا طويلاً بالأصالة عن نفسها والنيابة عن أخواتها قالت فيه ما
ملخصه:
إن معظم بنات هذه الأيام يقضين عدة سنوات في المدارس يلعبن فيها ألعابًا
مختلفة لترويض أجسادهن، ومتى خرجن منها ودخلن البيت ينتظر أمهاتنا منا أن
نكون رفيقاتهن، وأن لا نعمل عملاً سوى الاهتمام بشئون المنزل، فشتان ما
بين جلوسنا في غرفة الاستقبال نسمع انتحاب أمهاتنا وزائراتهن من فساد أمر البنات
في هذا الزمان، وحديثهن الدائم عن الخدمة والخادمات، وبين التنزه على ضفة
النهر أو لعب الألعاب الرياضية، ولسنا نقصد أن نكون محبات لأنفسنا ونقضي العمر
بالتمتع بنعيم هذه الحياة فقط، بل إننا ندخل البيوت مشتاقات إلى مساعدة أمهاتنا
مستعدات لتعلم الأعمال والأشغال البيتية، ولكننا نريد أن نقوم بالواجب علينا على
الطريقة التي نحبها ونهواها. فكل يوم نرى شيئًا جديدًا نحب اقتباسه وإدخاله إلى
منزلنا، ولكن أمهاتنا يعارضننا بدلاً من أن يوافقننا على أذواقنا قائلات: إن العجب لا
يعجبنا وإننا لا نستحسن شيئًا في البيت، بل نجد عيبًا في كل شيء، ونرى منازل
الآخرين أحسن من منازلنا.
مثال ذلك أن أكثر البنات مولعات بترتيب الأزهار التي تُوضَع على مائدة
الطعام وفي غرف الاستقبال، فيرتبنها وينظمنها على أذواقهن، ولكن أمهاتهن
يغتنمن فرصة غيابهن ويقحمن بين تلك الأزهار الجميلة المتناسقة أزهارًا ذات
ألوان لا توافق الذوق السليم فيضيع تعب البنات سدى!
وأكثرنا ينتظر بسرور مجيء اليوم الذي نصبح فيه ربات منازل مستقلة فتكثر
همومنا ومشاغلنا، ويأتي دورنا للزيارات وردها فلماذا هذه العجلة الآن؟
أما الأمهات اللواتي انتصرن لبناتهن فمنهن أم كتبت كتابًا بإمضاء (أم
مسرورة شكورة) قالت فيه:
(لما قرأت كتاب (الأم الخائبة الأمل) حزنت عليها فقد مرت بي سِنُو هَمٍّ
وشقاءٍ من شراسة زوجي، ولكن بنتي كانت تعزيتي وقوتي على احتمال مصيبتي وقد
عرض كثيرون من الأصدقاء والأقارب أن يأخذوها معهم في أسفارهم للتنزه
ومشاهدة هذا العالم، واتهموني بحب الذات؛ لأني لا أسمح لها بالابتعاد عني،
ولكنني أؤكد لكم أنني لم أجبرها على عمل شيء، بل تركتها تفعل ما تشاء) .
ومنهن أم كتبت رسالة بإمضاء (أم راضية) قالت فيها: (إن لي أربع بنات
لا يتأخرن عن مساعدتي حينما أشاء، ولكنني لا أطلب منهن الشيء الكثير؛
لأن للشباب مطالب لا يصح الإغضاء عنها، فبعض الأمهات يطلبن من بناتهن
أمورًا كثيرة، وقلما يخطر ببالهن أن الألعاب والملاهي لازمة لهن وعندي أنَّه يكفي
البنات أن يشتغلن بجمع الأزهار وتنسيقها وترتيبها ونفض أثاث البيت من الغبار
إلا إذا اضطرت الحال إلى أكثر من ذلك) .
أما الأب الذي انتصر للبنات فقد عدل في حكمه، ولم يجُر فاعترف بإهمال
البنات وتطرفهن، ولكنه نسب ذلك إلى إهمال الأمهات حيث قال:
(لو عرفت الأم الخائبة الأمل كيف تعلم بناتها عمل الواجب عليهن لما
احتاجت إلى كتابة رسالتها، فإن البنات يربين هذه الأيام تربية مطلقة من كل قيد
ويعطين كل ما تشتهيه نفوسهن، فينكر الوالدون أنفسهم حبًّا بهن، ولكنهن لا يفهمن
معنى إنكار النفس فيشببن وقد تعودن طلب كل شيء بالأمر والنهي كأن لهن حقًّا
شرعيًّا فيه بدلاً من أن يطلبنه طلبهن للمعروف. فأي حق لفتاة سنها ١٧ سنة في
الاعتراض على شيء من الأشياء، إنما يجب عليها أن تفعل ما يطلب منها، وأما
الألعاب فإذا رأى الوالدون أقل ضرر منها لم يصعب عليهم منع أولادهم من لعبها
بالامتناع عن إعطائهم الدراهم لمشترى لوازمها، ويحسن بهم أن يهدوا تلك الألعاب
إلى ذوي السلوك الحسن من أولادهم ويعوِّدوهم أن يحصلوا عليها بتعبهم بدلاً من أن
يأخذوها كأنها حق طبيعي من حقوقهم) . اهـ المراد، وبقي في المقطم قول
لبعض الشعراء أهملناه.

(المنار)
يجب أن تربَّى البنت لتكون زوجة، ويجب أن تكون زوجة لتكون أمًّا
وهي لا تكون زوجة إلا إذا أراد الرجل، ومن مصلحة الرجل أن تكون زوجته
أمًّا، ولا تصلح أن تكون أمًّا إلا إذا تربت على الأعمال المنزلية وتربية الأطفال
والمدرسة الطبيعية التي تربيها وتعلمها أعمال الأمهات هي بيت أبيها الذي تدبر
أعماله أمها. فالبنت التي ترى الحرية والاستقلال يبيحان لها ترك البيت وصرف
الأوقات في الملاهي والمنتزهات ومخالفة والدتها في ما تأمرها به بلسان المقال أو
بلسان الحال من القيام بالأمور المنزلية هي كالتلميذ الذي يستبيح أن يترك المدرسة إذا
شاء، ويتعلم فيها ما شاء ويعصي ناظرها وأساتذتها متى شاء، فمن يقول: إن هذا
التلميذ يفلح في اتباع هواه، فليقل: إن تلك البنت تفلح في اتباع هواها.
غلط الإفرنج في محاولة جعل النساء كالرجال في تمام الاستقلال، ومغبة غلط
الأمم لا تظهر إلا بعد زمن طويل، وها هو قد نجمت نواجمه في قلة النسل، وفي
إهمال النساء والبنات البيوت إهمالاً يفسد شأنها، وفي كثرة طلب الطلاق، وفي قلة
التزوج والاستغناء عنه بالفسق. ومن أعجب أنواع هذا الظهور شكوى الأمهات من
البنات مع شدة حبهن لهن وعنايتهن برفاهتهن وراحتهن، ومع مبالغتهن في إظهار
محاسنهن وإخفاء مساويهن. ولا بد أن تحمل هذه المضرات القوم على تدارك الأمر
والاجتهاد في جعل البنت تحت سيطرة أمها وأبيها في البيت ليكون ذلك مقدمة
لسيطرة زوجها عليها من غير أن يثقل ذلك عليها.
أما ما قرأت من مدح بعد الأمهات لبناتهن فهو موافق لانتقاد الشاكيات من
الحرية وتمام الاستقلال. هكذا تظهر الحوادث بعد تجارب القرون أن تهذيب القرآن
وتعليمه فوق كل تهذيب وتعليم، وما ذلك إلا لأنه تنزيل من لدن حكيم عليم.