للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مناظرة بين مقلد وصاحب حجة

لما نشرنا تلك المحاورات بين المصلح والمقلد في بحث الاجتهاد والتقليد
ووحدة الأمة الإسلامية في المجلدين الثالث والرابع من المنار كتب إلينا بعض
الفضلاء من قراء المنار في البحرين يسألنا: هل اطَّلعتم على كتاب (إعلام
الموقعين) للإمام ابن القيم؟ فأجبناه أننا لم نطّلع عليه ولكننا رأينا في بعض الكتب
نقلاً عنه عرفنا به مكانته. فكتب إلينا ثانيًا أنَّ فيه مناظرة بين مقلد وصاحب دليل
كالمناظرة التي نشرتموها وأننا سنرسل إليكم نسخة منه، ولم يلبث أن أرسلها وكانت
مقالات المحاورات قد تمَّت. وقد رأينا الآن أنْ ننشر هذه المناظرة أيضًا لأن هذا
المبحث أهم المباحث، والاجتهاد ركن من أركان الإصلاح بل هو أقوى أركانه.
ولقد أورد المصنف شبه المقلد كلها سردًا ثم ذكر حجج متبع الدليل الناهضة
والناقضة لأقوال المقلد وشبهة واحدة بعد واحدة ولذلك نترك شبهات المقلد خشية
التكرار ونبتدئ بالحجج فنقول: قال المؤلف رحمه الله تعالى ونفعنا به:
(قال أصحاب الحجة) عجبًا لكم معاشر المقلدين الشاهدين على أنفسهم مع
شهادة أهل العلم بأنهم ليسوا من أهله ولا معدودين في زمرة أهله كيف أبطلتم
مذهبكم بنفس دليلكم فما للمقلد وما للاستدلال وأين منصب المقلد من منصب
المستدل وهل ذكرتم من الأدلة إلا ثيابًا استعرتموها من صاحب الحجة فتجملتم بها
بين الناس وكنتم في ذلك متشبعين بما لم تُعطوه، ناطقين من العلم بما شهدتم على
أنفسكم أنكم لم تؤتوه، وذلك ثوب زور لبِستموه، ومنصب لستم من أهله غصبتموه،
فأخبرونا هل صرتم إلى التقليد لدليل قادكم إليه، وبرهان دلكم عليه، فنزلتم من
الاستدلال أقرب منزل، وكنتم به عن التقليد بمعزل، أم سلكتم سبيله اتفاقًا وتخمينًا
من غير دليل، وليس إلى خروجكم من أحد هذين القسمين سبيل، وأيُّهما كان فهو
بفساد مذهب التقليد حاكم، والرجوع إلى مذهب الحجة منه لازم، ونحن إن
خاطبناكم بلسان الحجة قلتم لنا لسنا من أهل هذه السبيل، وإنْ خاطبناكم بحكم التقليد
فلا معنى لِما أقمتم من الدليل.
والعجب أن كل طائفة من الطوائف وكل أمة من الأمم تدّعي أنها على حق
حاشا فرقة التقليد فإنهم لا يدّعون ذلك ولو ادّعوه لكانوا مُبطلين فإنهم شاهدون على
أنفسهم بأنهم لم يعتقدوا تلك الأقوال لدليل قادهم إليه، وبرهان دلَّهم عليه، وإنما
سبيلهم محض التقليد. والمقلد لا يعرف الحق من الباطل، ولا الحالي من العاطل.
وأعجب من هذا أن أئمتهم نهوهم عن تقليدهم فعصوهم وخالفوهم وقالوا نحن
على مذاهبهم وقد دانوا بخلافهم في أصل المذهب الذي بنوا عليه فإنهم بنوا على
الحجة ونهوا عن التقليد وأَوْصُوهم إذا ظهر الدليل أنْ يتركوا أقوالهم ويتَّبعوه
فخالفوهم في ذلك كله وقالوا نحن من أتباعهم، تلك أمانيُّهم وما أتباعهم إلا مَن سلك
سبيلهم واقتفى آثارهم في أصولهم وفروعهم. وأعجب من هذا أنهم مصرّحون في
كتبهم ببطلان التقليد وتحريمه وأنه لا يحل القول به في دين الله ولو اشترط الإمام
على الحاكم أن يحكم بمذهب معين لم يصح شرطه ولا توليته ومنهم مَن صحَّح
التولية وأبطل الشرط. وكذلك المفتي يَحْرُم عليه الإفتاء بما لا يعلم صحته باتفاق
الناس، والمقلد لا علم له بصحة القول وفساده؛ إذ طريق ذلك مسدودة عليه. ثم
كل منهم يعرف من نفسه أنه مقلد لمتبوعه لا يفارق قوله ويترك له كل ما خالفه من
كتاب أو سنة أو قولِ صاحبٍ أو قولِ مَن هو أعلم من متبوعه أو نظيره وهذا من
أعجب العجب.
(وأيضًا) فإنا نعلم بالضرورة أنه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد
اتخذ رجلاً منهم يقلده في جميع أقواله فلم يسقط منها شيئًا، وأسقط أقوال غيره فلم
يأخذ منها شيئًا، ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في التابعين ولا تابعي التابعين
فليكذبنا المقلدون برجل واحد سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما حدثت هذه الفتنة في القرن الرابع
المذموم على لسانه صلى الله عليه وآله وسلم فالمقلدون لمتبوعيهم في جميع ما قالوه
يبيحون به الفروج والدماء والأموال ويحرمونها، ولا يدرون أذلك صواب أم خطأ
على خطر عظيم ولهم بين يدي الله موقف شديد يعلم فيه مَن قال على الله ما لا يعلم
أنه لم يكن على شيء.
(وأيضًا) فنقول لكل من قلد واحدًا من الناس دون غيره: ما الذى خص
صاحبك أن يكون أولى بالتقليد من غيره؟ فإن قال: لأنه أعلم أهل عصره. وربما
فضَّله على مَنْ قبله مع جزمه الباطل أنه لم يجئ بعده أعلم منه. قيل له: وما
يدريك - ولست مِن أهل العلم بشهادتك على نفسك - أنه أعلم الأمة في وقته فإن
هذا إنما يعرفه مَن عرف المذاهب وأدلتها وراجحها ومرجوحها، فما للأعمى ونقد
الدراهم! وهذا أيضًا باب آخر من القول على الله بلا علم.
ويقال له (ثانيًا) فأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن
مسعود وأُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وعائشة وابن عباس وابن عمر رضي
الله عنهم أعلم من صاحبك بلا شك فهلاّ قلدتهم وتركته بل سعيد بن المسيب
والشعبي وعطاء وطاوس وأمثالهم أعلم وأفضل بلا شك فلِمَ تركت تقليد الأعلم
والأفضل والأجمع لأدوات الخير والعلم والدين ورغبت عن أقواله ومذاهبه إلى مَن
هو دونه فإنْ قال: لأن صاحبي ومن قلدته أعلم به مني فتقليدي له أوجب على
مخالفة قوله لقول من قلدته؛ لأن وفور علمه ودينه يمنعه من مخالفة مَن هو فوقه
وأعلم منه إلا لدليل صار إليه هو أولى مِن قول كل واحد من هؤلاء، قيل له: ومِن
أين علمت أنَّ الدليل الذي صار إليه صاحبك الذي زعمت أنت أنه صاحبك أولى من
الدليل الذي صار إليه مَن هو أعلم منه وخير منه أو هو نظيره، وقولان معًا
متناقضان لا يكونان صوابًا بل أحدهما هو الصواب ومعلوم أن ظفر الأعلم الأفضل
بالصواب أقرب مِن ظفر مَن هو دونه، فإن قلت: علمت ذلك بالدليل فههنا إذًا فقد
انتقلت عن منصب التقليد إلى منصب الاستدلال وأبطلت التقليد.
ثم يقال لك (ثالثًا) هذا لا ينفك شيئًا ألبتة فيما اختلف فيه فإنَّ مَن قلّدته ومَن
قلَّده غيرك قد اختلفا وصار مَن قلده غيرك إلى موافقة لأبي بكر وعمر أو علي وابن
عباس أو عائشة وغيرهم دون مَن قلدته فهلاّ نصحت نفسك وهُدِيتَ لرشدك وقلت:
هذان عالمان كبيران ومع أحدهما مَن ذكر من الصحابة فهو أولى بتقليدي إياه.
ويقال له (رابعًا) إمام بإمام ويسلم قول الصحابي فيكون أولى بالتقليد.
ويقال (خامسًا) إذا جاز أن يظفر مَن قلدته بعلم خَفِيَ على عمر بن الخطاب
وعلى علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود ودونهم فأحق وأحق فأجوز وأجوز
أن يظفر نظيره ومَن بعده بعلم خُفِيَ عليه هو فإن النسبة بين مَن قلّدته وبين نظيره
ومَن بعده أقرب بكثير مِن النسبة بين مَن قلّدته وبين الصحابة. والخفاء على مَن
قلّدته أقرب من الخفاء على الصحابة.
ويقال (سادسًا) إذا سوغت لنفسك مخالفة الأفضل الأعلم بقول المفضول فهلاّ
سوغت لها مخالفة المفضول لمن هو أعلم منه وهل كان الذي ينبغي ويجب إلا
عكس ما ارتكبت؟ !
ويقال (سابعًا) هل أنت في تقليد إمامك وإباحة الفروج والدماء والأموال
ونقلها عمن هي بيده إلى غيره موافق لأمر الله أو رسوله أو إجماع أمته أو قول أحد
من الصحابة؟ فإن قال: نعم، قال: ما يعلم الله ورسوله وجميع العلماء بطلانه
وإن قال: لا، فقد كفانا مؤنته وشَهِدَ على نفسه بشهادة الله ورسوله وأهل العلم عليه.
ويقال (ثامنًا) تقليدك لمتبوعك يحرم عليك تقليده فإنه نهاك عن ذلك وقال لا
يحل لك أنْ تقول بقوله حتى تعلم مِن أين قاله ونهاك عن تقليده وتقليد غيره مِن
العلماء فإن كنت مقلدًا له في جميع مذهبه فهذا مِن مذهبه فهلاّ اتبعته فيه؟ !
ويقال (تاسعًا) هل أنت على بصيرة في أنَّ مَن قلدته أولى بالصواب من
سائر مَن رغبت عن قوله من الأولين والآخرين أم لست على بصيرة؟ فإن قال:
أنا على بصيرة، قال ما يعلم بطلانه. وإنْ قال: لست على بصيرة وهو الحق
قيل له: فما عذرك غدًا بين يدي الله حين لا ينفعك مَن قلّدته بحسنة واحدة ولا
يحمل عنك سيئة واحدة إذا حكمت وأفتيت بين خلقه بما لست على بصيرة منه هل
هو صواب أم خطأ؟
ويقال (حادي عشر) هل تقول إذا أفتيت وحكمت بقول مَن قلّدته: إنَّ هذا
هو دين الله الذي أرسل به رسوله وأنزل به كتابه وشرعه لعباده ولا دين له سواه؟
أو تقول: إنَّ دين الله الذي شرعه لعباده خلافه؟ أو تقول: لا أدري؟ ولا بد لك
مِن قولٍ مِن هذه الأقوال ولا سبيل لك إلى الأول قطعًا فإنَّ دين الله الذي لا دين له
سواه ولا تسوغ مخالفته [١] وأقل درجات مخالفه أن يكون من الآثمين والثاني لا
تدعيه فليس لك ملجأ إلا الثالث. فيالله العجب كيف تستباح الفروج والدماء
والأموال والحقوق وتحلل وتحرم بأمر أحسن أحواله وأفضلها (لا أدري) :
فإنْ كُنْتَ لا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ ... وإنْ كُنْتَ تَدْرِي فَالمُصِيبَةُ أَعْظَمُ
ويقال (ثاني عشر) على أي شيء كان الناس قبل أن يولد فلان وفلان وفلان
الذين قلدتموهم وجعلتم أقوالهم بمنزلة نصوص الشارع وليتكم اقتصرتم على ذلك بل
جعلتموها أولى بالاتباع من نصوص الشارع؟ أفكان الناس قبل وجود هؤلاء على
هدى أو على ضلالة؟ فلابد من أن تقرّوا بأنهم كانوا على هدى فيقال لكم فما الذي
كانوا عليه غير اتباع القرآن والسنن والآثار وتقديم قول الله ورسوله وآثار الصحابة
على ما يخالفها والتحاكم إليها دون قول فلان أو رأي فلان؟ وإذا كان هذا هو الهدى
فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنَّى تؤفكون؟ فإن قالت كل فرقة من المقلدين وكذلك
يقولون: صاحبنا هو الذي ثبت على ما مضى عليه السلف واقتفى منهاجهم وسلك
سبيلهم، قيل لهم: فمن سواه من الأئمة هل شارك صاحبكم في ذلك أو انفرد
صاحبكم بالاتباع، وحُرِمَهُ مَن عداه فلا بد من واحد من الأمرين؟ فإن قالوا بالثاني
فهم أضل سبيلاً من الأنعام وإن قالوا بالأول فيقال: فكيف وقفتم لقبول قول صاحبكم
كله ورد قول مَن هو مثله أو أعلم منه كله فلا يرد لهذا قول ولا يقبل لهذا قول
حتى كأن الصواب وقف على صاحبكم والخطأ وقف على مَن خالفه ولهذا أنتم
موكلون بنصرته في كل ما قاله وبالرد على ما خالفه في كل قاله وهذه حال الفرقة
الأخرى معكم.
ويقال (ثالث عشر) فمن قلدتموه من الأئمة قد نهوكم عن تقليدهم، فأنتم أول
مخالف لهم، قال الشافعي: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل،
يحمل حزمة حطب، وفيه أفعى تلدغه، وهو لا يدري! وقال أبو حنيفة
وأبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه؟ وقال أحمد:
لا تقلد دينك أحدًا.
ويقال (رابع عشر) هل أنتم موقنون بأنكم غدًا موقوفون بين يدي الله
وتُسألون عما قضيتم به في دماء عباده وفروجهم وأبشارهم وأموالهم وعما أفنيتم به
في دينه محرّمين ومحللين وموجبين؟ فمَن قولهم نحن موقنون بذلك. فيقال لهم:
فإذا سألكم من أين قلتم ذلك فماذا جوابكم؟ فإن قلتم جوابنا أنا حلّلنا وحرّمنا وقضينا
بما في كتاب الأصل لمحمد بن الحسن مما رواه عن أبي حنيفة وأبي يوسف من
رأي واختيار، وبما في المدونة من رواية سحنون عن ابن القاسم من رأي واختيار،
وبما في الأم من رواية الربيع من رأي واختيار، وبما في جوابات غير هؤلاء
من رأي واختيار، وليتكم اقتصرتم على ذلك أو صعدتم إليه أو سَمَت همتُكم نحوه،
بل نزلتم عن ذلك طبقات، فإذا سُئلتم: هل فعلتم ذلك عن أمري أو أمر رسولي فماذا
يكون جوابكم إذًا؟ فإنْ أمكنكم حينئذٍ أنْ تقولوا: فعلنا ما أمرتنا به وأَمَرَنا به رسولك
فزتم وتخلصتم , وإنْ لم يمكنكم ذلك فلا بد أنْ تقولوا لم تأمرنا بذلك ولا رسولك
ولا أئمتنا ولا بد من أحد الجوابين وكأنْ قد.
ويقال (خامس عشر) إذا نزل عيسى ابن مريم إمامًا عدلاً وحكمًا مقسطًا
فبمذهب مَن يحكم وبرأي مَن يقضي، ومعلوم أنه لا يحكم ولا يقضي إلا بشريعة
نبينا صلى الله عليه وآله وسلم التي شرعها الله لعباده، فذلك الذي يقضي به أحق
وأولى الناس به عيسى ابن مريم هذا الذي أوجب عليكم أن تقضوا به وتفتوا. ولا
يحل لأحد أن يقضي ولا يفتي بشيء سواه ألبتة. فإن قلتم: نحن وأنتم في هذا
السؤال سواء. قيل: أجل؛ ولكن نفترق في الجواب فنقول: يا ربنا إنك لتعلم أنا لم
نجعل أحدًا من الناس عيارًا على كلامك وكلام رسولك ونرد ما تنازعنا فيه إليه،
ونتحاكم إلى قوله ونقدم أقواله على كلامك وكلام رسولك وكلام أصحاب رسولك
وكان الخلق عندنا أهون أنْ نقدم كلامهم وآراءهم على وحيك بل أفتينا بما وجدناه
في كتابك وبما وصل إلينا مِن سنة رسولك وبما أفتى به أصحاب نبيك وإن عدلنا
عن ذلك فخطأ منا لا عمد. ولم نتخذ من دونك ولا دون رسولك ولا المؤمنين وليجة،
ولم نفرق ديننا ونكن شيعًا، ولم نُقَطِّعْ أمرنا بيننا زُبرًا. وجعلنا أئمتنا قدوة لنا
ووسائط بيننا وبين رسولك في نقلهم ما بلّغوه إلينا عن رسولك فاتبعناهم في ذلك
وقلدناهم فيه إذ أَمَرْتنا أنت وأمرنا رسولُك بأنْ نسمع منهم ونقبل ما بلغوه عنْك وعن
رسولك فسمعًا لك ولرسولك وطاعة [٢] ، ولم نتخذهم أربابًا نتحاكم إلى أقوالهم
ونخاصم بها ونوالي ونعادي عليها؛ بل عرضنا أقوالهم على كتابك وسنة رسولك،
فما وافقهما قبلناه، وما خالفهما أعرضنا عنه وتركناه، وإنْ كانوا أعلم منا بك
وبرسولك فمَن وافق قوله قول رسولك كان أعلم منهم في تلك المسألة فهذا جوابنا.
ونحن نناشدكم اللهَ: هل أنتم كذلك حتى يمكنكم هذا الجواب بين يدي مَن لا
يبدَّل القولُ لديه، ولا يروج الباطل عليه.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ)) ...