للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


وفاة حسن باشا ناظر البحرية

ننقل ترجمة هذا الوزير عن جريدة (محمدان) الهندية كما نقلتها عن جريدة
الأخبار الإسلامية (مسلم كرونيكل) وهي رسالة لمُكاتب هذه في لندن مأخوذة من
رسالة من الآستانة، كتب في اليوم الثالث لموت الوزير. وقد نشر في بعض
الجرائد المصرية ترجمة الرجل على نحو ما في جريدة الدولة الرسمية خالية من كل
عبرة وفائدة وذلك أن جرائد المسلمين في مصر تنحو في الأخبار العثمانية منحى
جرائد الآستانة وسوريا وهي لا تكاد تنشر إلا ما يوافق الأهواء. ومن هنا نستدل
على كون جرائد المسلمين في الهند أرقى حرية من أخواتها في مصر، ولعل سبب
ذلك أن القارئين صاروا هنالك أرقى منهم هنا في الحرية؛ إذ يحبون أن يعرفوا
الحقيقة لا أن يتلذذوا بالمدح وإن كان كذبًا.
قال المكاتب ما تعريبه:
الرأي العام مجمع على أن قوة الدولة العثمانية الحربية توازن قوة أية دولة من
الدول الكبرى ولكن بَحرية الدولة صارت من عدة سنين قرحًا في جسمها ومرضًا
في بنيتها، وقد كانت إلى عهد حرب القِرم، بحيث لا تقل عن قوة فرنسا وروسيا
إن لم تكن من أعلى القوى البحرية لذلك كان مما يثير العجب أن لا يكون لتركيا
موقف مع الدول البحرية لهذا العهد. وقد علم قراء (الكرونكل) من رسائلي
السابقة في هذا الموضوع الأسباب والأحوال التي هبطت ببحرية الدولة إلى هذا
الحضيض. وكل هذا الهبوط والتأخر ينسب إلى رجل واحد استحق لعن الأمة
التركية هذا الرجل البغيض هو حسن باشا حسني.
مات حسن باشا حسني ناظر البحرية العثمانية أول أمس وكان يرجو الناس
موته من زمن بعيد وكان موته في قصره بالكوروششمه على ضفة البوسفور وهو
في سن الثمانين، ولم يُعرف في تاريخ البشر من أول الخليقة إلى الآن رجل كان
أشد بغضًا ومقتًا إلى أمته من هذا الرجل الذي مكث في منصبه هذا نحو ربع قرن.
ولي البحرية العثمانية وهي في الدرجة الثانية من قوى البحرية الأوربية، وتركها
وهي أدنى القوى البحرية في العالم وأضعفها. ولقد تستحوذ الدهشة على الإنسان
وتملكه الحيرة إذا حاول فهم سبب إهمال البحرية من دولة حربية عارفة بمكانة
القوى البحرية في هذا العصر. على أن هذا الناظر لم يكن أقل علمًا من أعظم
أمراء البحر في أوربا؛ بل المشهور عنه أنه كان من أمثل أمراء البحر في الدول
البحرية العظمى وأمهرهم وأحذقهم، ولكن هذا الرجل الذي كان من أكبر رجال
الدولة هو الذي أضعف تلك القوة العظمى عامدًا متعمدًا، وقد وصفته إحدى الجرائد
التركية اليوم بأنه أعظم عبيد السلطان أمانة وأشدهم استقامة؛ ولكنَّ أفكارنا وشَكْلَ
الحكومات الراقية في هذا العصر يحولان دون الاعتقاد بأن الخائن لأمته ودولته
يكون ناصحًا لسلطانه وصادقًا في خدمته؛ ذلك لأن النصح للحاكم والإخلاص في
خدمته أمران لازمان لحكومته؛ إذ لا معنى لخدمة الحاكم من حيث هو حاكم إلا
خدمة الحكومة التي هو رئيسها، وكان فساد طوية حسن باشا وتركه محاسبة نفسه
واستفتاء قلبه حال دون التمييز بين الرجل من حيث هو حاكم ومن حيث هو
شخص ربما يرجى نفعه ويخشى ضره لذلك كان يقضي ليله ونهاره مدة ربع قرن
في تجريد السفن الحربية من جميع عدتها التي تكون بها صالحة للحرب. ولا
يدري أحد من الناس أين صُرفت الأموال العظيمة المخصصة للبحرية في ميزانية
الدولة؛ إذ لم يطالبه أحد بحسابها؛ بل كان مطلق التصرف ومتمتعًا بالسلطة التامة
في نظارته إلى آخر حدودها، وكان يولي ويعزل من شاء من غير سؤال ولا
مراقبة من أحد نافذ الرأي مطاع الأمر في نظارته وفي مجلس الوزراء بل وفي قصر
يلدز نفسه.
ولقد مات موتة شنيعة سبقها مرض عاثَ في جسمه سنة كاملة كان فيها
موضعًا لسبعين نوعًا من الأعمال الجراحية وذاق فيه من الآلام ما لا يُطاق، وكان
يجمجم وهو يتقلب في غمرات الموت بهذه الكلمة توبة وندمًا: (ما جنيت إذ جنيت
وحدي ولكن كان لي شركاء) ! أو ما هو في معناها وسيكون موته عبرة لغيره ممن
يدفعون إلى الجري على سننه.
عين حسن باشا ناظرًا للبحرية ولم يكن يملك شيئًا؛ حتى ولا بيتًا يقيم فيه
ومات بالأمس وهو يكاد يكون أغنى رجل في تركيا وتقدر ثروته المنقولة والثابتة
بثمانية ملايين من الجنيهات وكان دخله السنوي مئتي ألف جنيه وكان يشتري كل ما
يباع حيثما وجده وإن لم يكن قادرًا على كمال الانتفاع به؛ لأنه لم يكن يسمح له
بالخروج من القسطنطينية. وقد أقبل الناس هنا (الآستانة) على الجرائد التي نَعَتْه
بالأمس واشتروا منها عددًا عظيمًا وقد أخذتهم روعة من السرور استغرقت شعورهم
وطفق يهنئ بعضهم بعضًا بالجهر من القول بكمال الحرية، وكان الفرح عامًا في
السواحل البحرية فإن أتراك الآستانة وسواحل البحر الأسود وبحر مرمرة والساحل
الشرقي للبحر الأبيض المتوسط وخليج العجم مولعون جدًا بالبحرية؛ فالسفينة
المدرعة أبهى في نظرهم من الخميس العَرَمْرَم من الجيش، ولو كانت ترجمة
الرجل الرسمية مما يستحق العناية لنقلتها من الجريدة الرسمية بحروفها؛ ذلك أن
أعماله قليلة جدًّا فلا نصيب لها من التطويل.
كان حسن ولدًا لباشا فريقٍ في البحرية ولا ينبغي أن يعتقد أنه ارتقى بنَسَبِه؛
بل كان أنجب التلامذة في المدرسة والمقدم في فرقته ومحبوبًا لكل أساتذته، ولما
نال الشهادة من المدرسة البحرية التي كانت وقئتذ حديثة النشأة عُيِّن ملازمًا في
السفينة المسماة (خداداد) وقام بخدمة الحكومة في البحر المتوسط على سواحل
إِفريقيَّة وسواحل الجبل الأسود وجزيرة كريد والبحر الأحمر وشهد حرب القِرْم
وأبلى بلاءً حسنًا في حرب سيباستبول وكان يومئذ أمير عمارة البحر الأسود في
الحرب الروسية العثمانية الأخيرة وقد أُعجب الناس بنجاحه ومهارته يومئذٍ في
إنزال الجنود العثمانية في باطوم.
ترك حسن باشا اثني عشر ولدًا، أكثرهم مستخدمون في دار الصناعة
(الترسانة) العثمانية. وكان يتكلم بالتركية واليونانية والإنكليزية.