للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتنة بيروت
في بيروت رهط من الأشقياء يسفكون الدماء ويهينون الوجهاء ويسلكون في
شرورهم مسلك التحمس الديني فيزعمون أنهم ينصرون الدين بفسادهم فإذا سمع
المسلم أن نصرانيًا أهان مسلمًا أو قتله يفعل كما يفعل النصراني إذا سمع بمثل ذلك
ينتقم كل منهما للمنتسب إلى دينه وإن كان مجهولاً من أي مخالف له وإن كان بريئًا
ولم توجد شريعة وضعية فضلاً عن شريعة إلهية تأمر بأخذ البريء بجريرة الأثيم
لأنه يشاركه في الانتساب إلى الدين.
وأشهر هؤلاء الأشقياء جانٍ اسمه إلياس الحلبي فقد بلغنا عنه أنه إذا عزم على
الفتك بمسلم ما يذهب أولاً إلى الكنيسة فيسجد للسيدة العذراء عليها السلام ويمس
صورتها بسلاحه ويطلب منها الإعانة على الفتك بأعداءه وأعدائها، وما كان
المسلمون من أعدائها فإنهم يبرئونها من الدنس ويحكمون بكفر قاذفها ثم ينطلق
إلى جنايته قرير العين معتقدًا أنه مؤيَّد بتلك الروح الطاهرة التي هي أبعد الأرواح عن
الرضى بهذا العدوان والشر الكبير.
ويجهل هذا الشرير وصايا الإنجيل بمحبة الأعداء ولا يجد من يذكِّره هو
وأمثاله بها كما لا يجد أشرار المسلمين من يذكرهم بوصايا الكتاب والسنة ومنها
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا ظلم أهل الذمة أديل للعدوّ) رواه الطبراني
عن جابر بلفظ: (كانت الدولة دولة العدو) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَن
قتل رجلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة.. إلخ) رواه أحمد والنسائي، وقوله
صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس منا مَن دعا إلى عصبية وليس منا قاتل على
عصبية وليس منا مَن مات على عصبية) رواه أبو داود عن جبير بن مطعم.
وقوله عليه السلام: (العصبية أن تعين قومك على الظلم) رواه البيهقي عن واثلة
ونحو هذه الأحاديث.
بل إننا نسمع أن من وجهاء الطائفتين من يساعد أشقياءهما حتى إن إلياس
الحلبي قد رَتَّب له بعض الأغنياء في بيروت وكبار الموظفين في لبنان الرواتب
الكافية، ولا أحب أن أذكر أسماءهم. وأعجب من هذا وذاك أن الوالي رشيد بك
الذي عهد إليه السلطان حفظ الأمن كان هو الذي يغري بعض الأشقياء ببعض لينتفع
من الفريقين وكل أهل بيروت ولبنان يعرفون هذا، وقد نوّهنا بسوء سيرته في
السنة الأولى والسنة الثانية من المنار وقلنا: إن السماء والأرض تستجيران من ظلمه.
ولكن من يسمع لنا إذا كانت الآستانة لم تسمع من المتظلمين من رعيته شكواهم
عليه؛ فقد علمنا أن طائفة من أهل بيروت شكوه بالبرق إلى السلطان، وقد كان
علم فسبقهم وأرسل إليه يقول إن طائفة من شيعة الترك الأحرار قد أعيتهم الحيل في
تتبّعي حركاتهم وسكناتهم فأرادوا أن يتظلموا مني إلى مولاي بأمور يتجرمون بها
فقبل السلطان قوله ولم يسمع لهم شكوى!
هذا الإهمال جرّ إلى تفاقم الشرور، وتغلغل الأحقاد في الصدور؛ فكانت
توري كلما قدحت الحوادث بزندها حتى إذا قتل في آخر الأسبوع بعض الأبرياء من
المسلمين انفجر البركان، وتلاحم الفريقان، وكان في أول الأسبوع الماضي ما كان،
كانت في بيروت فتنة عامة قتل فيها كثيرون من الطائفتين وجرح الكثيرون
وتعب الجند في إخماد النار وقتل منهم أفراد وهو أمر لم يسبق له نظير ونزح
عشرات الألوف من النصارى إلى جبل لبنان فعوملوا معاملة الإخوان للإخوان،
ودخل وكلاء الدول في الأمر وطلبوا من الوالي الغوي رشيد بك أن يتعهد بحفظ
الأمن فأبى لعلمه بأنه هو المجرِّئ بسوء سيرته لجميع الأشقياء بالعدوان؛ حتى لم
يبق له عليهم سلطان وقد ثبت هذا للقناصل بالبحث والاختبار فكتبوا بذلك إلى دولهم
وكان ذلك سببًا في عزل الوالي الغوي وصدور الأمر لوالي سوريا ناظم باشا بالقدوم
إلى بيروت وإعادة الأمن ومعاقبة الجناة إلى أن يعيّن لها والٍ جديد فصدع بالأمر
وأعاد الأمن وأمر الناس بالعود إلى أشغالهم بعد ما أقفلت المخازن والدكاكين وبطلت
الأعمال كلها فأبى النصارى الامتثال وقال مطران الروم للوالي أن أبناء طائفته لا
ثقة لهم بالأمن إلا أن يكون بعهد من الدول الأجنبية. والحق أنهم يثقون به في
قلوبهم ولكنهم افترصوا الحادثة لطلب ما ذُكر.
هذا ما يطمع فيه قوم منهم وبعضهم يطمع في جعْل بيروت تابعة للجبل وظنوا
أن هذه الحادثة فرصة تُغتنم ويرجى فيها أن تساعد الدول على الإلحاق فتكون
حكومة عروس سوريا أو عروس المملكة العثمانية (بيروت) مسيحية كما أن قواها
المالية والأدبية مسيحية وهم معذورون في هذا الطلب وذاك من حيث هم مسيحيون؛
إذ لو كنت في موقع كموقعهم لتمنَّيْتُ أن يكون حاكمي مسلمًا، ولكن لا عذر لمن
يمهدون لهم السبل لذلك من المسلمين بل الواجب عليهم أن لا يدعوا لهم منفذًا
للشكوى إن استطاعوا , ولعمري إن الحكومة قادرة على ذلك إذا كان الوالي مثل
ناظم باشا وإنني سمعت الناس في سوريا يلهجون بأن مدحت باشا كان ألَّف بين
الفريقين في بيروت كسائر سوريا حتى صاروا كالإخوة في التعامل ويعتقدون أن
ناظم باشا قادر على مثل هذا التأليف لا سيّما إذا علم أنه يُرضي السلطان.
لما وقعت الحادثة وردت الرسائل من النصارى إلى الجرائد السورية ومن
المسلمين إلى الجريدة الإسلامية (المؤيد) في شرح الحادثة وكل فريق يلقي التبعة
على الآخر ويعد نفسه مظلومًا، وقد انتصرت كل جريدة لقومها معتمدة على ما
كتب إليها وطفقت جرائد السوريين تلوم (المؤيد) بأنه انتصر للمسلمين تعصبًا لهم
وتنسى نفسها مع أن السوريين أعلم من المؤيد بخبث الفريقين ولهم علم يميز ما في
الرسائل من المبالغة دونه وكانوا يقولون ذلك أحيانًا مع الإنحاء على المسلمين
خاصة إلا أن جريدة (الأهرام) كتبت كتابة العثماني المعتدل الذي يريد المصلحة
وإن نشرت رسائل لغير المعتدلين. ولو كان لي سلطان على الجرائد لألزمتها بأن
تكتب في تأنيب الطائفتين كما كتبت جرائد بيروت الإسلامية والمسيحية (لا جرائد
لبنان) ؛ بل لألزمتُ المسلم بشدة لوم المسلمين والنصراني بشدة لوم النصارى؛
لأن هذا هو الأنفع في رأيي.