للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المدارس المصرية لا تربي رجالاً مستقلين

رد على المقتطف
نقل المقتطف الأغر المقالة التي كتبناها في الجزء الثالث عشر تحت عنوان
(شكوى الأمهات من تربية البنات) واستحسن محرره الفاضل ما كتبناه في التربية
العقلية وكون العقل المستنير يقوى أخيرًا ويكون من وراء قوته الإصلاح المطلوب.
وأنكر قولنا: (إن العلم الذي يعلم في المدارس المصرية لا يقصد به إلى إصلاح
النفوس وارتقائها وجعل المصريين سعداء أعزاء) وقال: إن هذا خطأ على ما يُعْلم
ويا ليته قال: على ما نظن؛ فإنه يظن ظنًّا وما هو بمستيقن وعلل علمه بقوله:
(لأن نظار المدارس ومعلميها يشغفون بالتعليم والتهذيب شغفًا حتى يتفانوا في تعليم
التلامذة وتهذيبهم كما يشغف كل عامل بعمله، وهذا نعلمه بالخبر مدة تعلُّّمنا في
المدارس الأجنبية نحن ونساؤنا ومدة مشاركتنا لهم في التعليم. فالوصمة التي
وصمهم بها جائرة جدًّا ولو اختبر اختبارنا لقال قولنا. ولا نقول إن ذلك يعم كل
النظار وكل المدرسين ولكنه شامل لأكثرهم، ولا شبهة عندنا أن أثر المدارس
المصرية وطنية كانت أو أجنبية حسن جدًّا وأنه لم يظهر حتى الآن ظهورًا باهرًا
لأنها قليلة بالنسبة إلى اتساع البلاد ولأن النجاح لا يظهر جليًّا لمن لم يراقبه عن قرب
ويرى تدرُّجه البطيء ولكن لو قابل حضرته حال هذه البلاد العلمية والأدبية الآن
بحالها منذ عشرين سنة لرأى بين الحالين بَوْنًا شاسعًا ورآها الآن أرقى مما كانت
كثيرًا وسيزيد هذا الارتقاء في العشرين سنة التالية أضعاف ما زاد في العشرين سنة
الماضية) هذه عبارة المقتطف بنصها.
يقرأ القارئ في بعض الأحيان شيئًا فيعلق بذهنه شيء مجمل منه فينكره غافلاً
عن التفصيل الذي لا مذهب معه لإنكار ثم يستدل على إنكاره بما لا دلالة فيه أو بما
فيه الحجة عليه وبمثل هذا وقع صاحب المقتطف في تحفظ دعوى المنار على ما
نعهد فيه من التحري في النقد.
لم يكن الكلام في مقالتنا تلك مبنيًّا على الطعن في معلمي المدارس المصرية
ولا في نظارها فيرد علينا بدعوى تفانيهم في التعليم والتهذيب. ولم يكن أكثر منا
اختبارًا لهؤلاء المعلمين والنظار فيصح له أن يقول ما قال، وليس قياسه المدرسة
الكلية الأمريكانية التي تعلّم فيها على المدارس المصرية قياسًا صحيحًا، وليس
البَوْنُ الشاسع بين حال البلاد اليوم وحالها منذ عشرين سنة نتيجة حسن التربية والتعليم
في المدارس المصرية وكون الغرض منه تربية المصريين على الاستقلال والفضائل
والترقي الصوري والمعنوي.
وإننا نشرح هذه المسائل بعض الشرح فنقول:
تبين من امتحان الشهادة في هذا العام أن مدارس الحكومة أكثر من غيرها
نجاحًا ومثلها مدرسة خليل أغا ومدرسة أم عباس وأن المدارس الأجنبية أقل
المدارس نجاحًا ومعظم تقصيرها في اللغة العربية وعلومها لأن مرسلي الأمريكان
والجزويت والفرير والإنكليز لا يهمهم أمر هذه اللغة ولو استطاعوا محوها من
بلادها لفعلوا وإنما يهمهم نشر مذاهبهم الدينية ولغاتهم الأعجمية وليس في هذا
إصلاح لنفوس المصريين الذين دين أكثرهم الإسلام ولغة جميعهم العربية وإنما تتم
سعادة الأمم بآدابها الدينية ورابطتها اللغوية. وإنما يعلمون اللغة العربية في
مدارسهم لأجل أن يصيدوا بها الناس ولو أبطلوها لبطلت مدارسهم،، ثم إن هذه
المدارس ليس فيها تعليم عالٍ وما دون التعليم العالي لا يُكوِّنُ رجالاً فإذا كان التعليم
المطلوب ناقصًا والتربية المطلوبة مفقودة من هذه المدارس فهل يُغني عن سعادة
المصريين شغف معلمي هذه المدارس ونظارها وتفانيهم في نشر دينهم ولغاتهم
المقصود بهما إفساد دين المصريين ولغتهم؟ !
أما المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت فقد كان التعليم والتربية فيها أفضل
ما يعد النصارى للسعادة ولا يقصر عن إفادة المسلمين الذين ليس لهم مدارس عالية
في تلك البلاد وقد كان تعليم العلوم في هذه المدرسة على عهد منشئ المقتطف باللغة
العربية ثم تحوّل الآن إلى اللغة الإنكليزية فقلَّت فائدتها لأبناء اللسان العربي ومع
هذا لا نزال نقول إنها أمثل المدارس في مصر والشام وقد كتبنا في الجزء الماضي
نبذة مخصوصة في تفضيلها وما أعوزنا ذلك لخبر كخبر محرر المقتطف الذي تعلّم
وعلّم فيها وهو عندنا في علمه وأدبه من آيات تفضيلها.
أما مدارس الحكومة التي هي أحسن المدارس في مصر فقد صرّح المحتلون
- الذين يديرونها كما يشاءون لا كما يشاء النظار والمدرسون الذين يقيمونهم فيها -
بأن الغرض منها إيجاد نفر يخدمون الحكومة ولا يخفى على ذي بصر أن من يعلّم
إنسانًا ليخدمه إنما يعلمه ما يعينه على تسخيره في خدمته، وتصريفه بمقتضى
إرادته، لا ليكون مستقلاً في نفسه متفانيًا في حب أمته وجنسه، وهَبْ أن المحتلين
لا غرض لهم من البلاد المصرية إلا ترقيتها وإعانتها على كمال الاستقلال لتستغني
عنهم وعن غيرهم فهل يقول عاقل إن من المصلحة أن يكون التعليم خاصًّا بإعداد
المتعلمين لخدمة الحكومة فقط؟ !
تعميم التعليم واجب فلو كانت فائدة التعليم هي خدمة الحكومة كما ترضى
لوجب أن نعد أفراد الأمة كلهم لأن يكونوا مستخدمين في الحكومة وإذا كان جميع
الأفراد حكامًا فمَن يكون المحكوم؟ الوظائف الكبيرة تنتزع من الوطنيين بأيدي
المحتلين وما قضت السياسة بإبقائه لهم فإنما بقاؤه صورة بدون معنى ولقب بدون
عمل فنظار الحكومة المصرية لا يبرمون ولا ينقضون، ولا يحلون ولا يعقدون إلا
ما يوحيه إليهم المستشارون من الإنكليز فصار المتعلم المصري يائسًا من الاستقلال
في أي عمل يعمله للحكومة؛ وإنما يكون التعليم لسعادة الأمة وعزتها إذا كان الغرض
منه الاستقلال الشخصي والاستقلال القومي وما أظن أن المنتقد الفاضل يقول إن
المحتلين يقصدون بالتعليم إلى الإنعام على المصريين بهذا الاستقلال الذي حصرنا
فيه السعادة والعزة القومية ولا ينكر علينا عاقل حصرنا هذا. نعم، إنهم قاموا
ببعض الإصلاح ولكن الأجانب يصلحون فيما يستعمرون الأشياء لا الأشخاص.
طلب مجلس الشورى في السنة الماضية أن تعرض عليه قوانين التعليم في
مدارس الحكومة ونظام التعليم فيها فكبُر ذلك على نظارة المعارف وكابرت في إجابة
الطلب مكابرة بعيدة ودافع ناظر المعارف بما أوحي إليه من أهل الحل والعقد
مدافعة الأبطال وقد رددنا دفاعه وبينا تهافته في مقالات نشرناها في المجلد الخامس
انتقدنا فيها قانون التعليم وسيره وبينا تقصير النظارة بما لا ينفع معها عذر معتذر.
ولو كان تعليم نظارة المعارف على الوجه الذي فيه سعادة الأمة وعزتها لما
كبر عليها أن يُطْلع مجلس الأمة على قوانينها الداخلية ولأصغت إلى شكوى الأمة
من المعارف بلسان مجلسها ولسان جرائدها.
لا يوجد في مصر قارئ ولا كاتب ولا محب لسماع الجرائد والوقوف على
الأخبار والحوادث إلا وهو يعلم أن التعليم في مدارس الحكومة بيد المستر (دنلوب)
القسيس الإنكليزي ولم تبق جريدة وطنية معتبرة في مصر إلا وقد ملأت جو هذا
القطر صياحًا في الشكوى من سيرة هذا الرجل وانتقاد أعماله في المعارف
و (المقطم) شقيق (المقتطف) لم يرد فيما نعلم هذه الشكاوي التي ترددها جرائد
المسلمين والقبط والسوريين والإفرنج مع أنه أنشئ لتأييد سياسة المحتلين ذلك لعلمه
بأنها في تفصيلها أو جملتها حق لا وجه لردها.
وإذا كان المنتقد الفاضل يعرف من نظار المدارس الأميرية ومعلميها أكثر مما
نعرف كما تفيد عباراته فهو لا شك يعرف أكثر مما نعرف من تبرمهم وشكواهم
وشدة انتقادهم وتبرمهم من سير النظارة ومن عيوبها وأعني النظار المصريين
وأخص بالذكر منهم معلمي العربية لغة البلاد الرسمية. وكل موظف في المعارف
يعرف كيف يعاقَب الناظر أو المعلم الذي يثبت لدنلوب أنه انتقد أو اعترض على
شيء من سير النظارة السري أو الجهري وهم يعلمون أن هذا الرجل هو المضطلع
وحده بهذه النظارة لا بكفاءته ولكن بقوة دولته ثم هم يائسون من قصده إلى الإصلاح
الحقيقي الذي يربي الأمة تربية حقيقية فهم يسكتون واجمين، ويهمسون بالشكوى
مستخفين، ولئن سئلوا جهرًا ليقولنَّ إننا نحن راضون، وهم عند أنفسهم وعند أكثر
الناس معذورون، وقد عيل صبر طائفة من خيارهم فاستقالوا وهم مختارون.
إن الأعمال الكبيرة لا يظهر أثرها في الأمم إلا بعد الزمن الطويل ولكن أعمال
(دنلوب) قد ظهر أثرها في نظارة المعارف في زمن أقرب مما كان ينتظر، ظهر
أثرها في سقوط مدرستين عاليتين من مدارس الحكومة وهما مدرسة
(المهندس خانة) و (مدرسة المعلمين التوفيقية) وما أحوج البلاد إلى المدرستين
وهذه نظارة المعارف في أشد الحاجة إلى معلمين ولم تغنِ عنها الأوشاب الذين يجيء
بهم دنلوب من بلاده في كل سنة هذا بعد ما ألغى التعليم المجاني وأدخل في التعليم
الابتدائي اللغة الأجنبية خلافًا لجميع الأمم التي حتَّمت جعله باللغة الأهلية ولا تسل عن
اندراس رسوم الدين في المدارس وما في ذلك من إفساد الآداب وتدنيس الأرواح حتى
إنك ترى بيوت الفسق في الأزبكية عامرة بالتلامذة وقلما ترى أحدًا منهم في بيوت الله
تعالى. هذا حال مدارس الحكومة فما بالك بما دونها؟
يقول المقتطف الأغر إن البلاد ارتقت في العشرين سنة الأخيرة بالتعليم حتى
فاقت هذه السنين ما قبلها بالرقي فوقًا ظاهرًا. ونحن نقول: إن هذه البلاد تشتغل منذ
مائة سنة بالتعليم والمدنية فإن كان هنا تقدم ظاهر في شي من الأشياء فهو نتيجة هذا
السعي الطويل في مدة قرن كامل ولا ننكر أن لهذه السنين الأخيرة فضلاً في الحرية
والعمران وإصلاح الحكومة وأن هذا من حسنات المحتلين ولكننا مع هذا لا نرى
فيمن تعلم في هذه السنين الأخيرة رجالاً مستقلين نفتخر بعلومهم أو بأعمالهم
ونستبشر بخدمتهم للأمة والبلاد بل نرى خير رجال مصر علمًا وعملاً نفرًا تربوا
وتعلموا قبل أن يتحكم دنلوب في مدارس الحكومة.
ثم إننا نرى سيرة أكثر المتعلمين ملطخة بفساد الأخلاق والإخلاد إلى
الشهوات، والمجاهرة بالمنكرات، والاستهانة بما ينسب إلى أمتهم من الأخلاق
والعادات ولا حجة لهم في هذا إلا أنه مخالف لعادات المترفين من الأوربيين، فهم
بذلك يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الطامعين، وقد قامت أوربا وقعدت لإقناع
إنكلترا باستبدال المِتْر الفرنسي باليَرْد الإنكليزي لأنه خير منه ولتتوحد المقاييس في
أوربا فأبت هذه الدولة - التي تعتقد أن عزها وسلطانها بالمحافظة على تقاليد سلفها
وعاداتهم - أنْ تغيّر مقياسها محتجة بأن الأمة التي يسهل عليها الخروج من
العادات القومية إلى عادات الأجانب لا يثبت لها استقلال، ولا يستقيم لها حال،
فأين متعلمونا الذين يسارعون في تقليد سفهاء الإفرنج في الشهوات - من محافظتهم
على هذه الروابط المقوّمات؟ !
محرر المقتطف الأغر يعتقد اعتقادنا في نقص التعليم في مصر وكونه غير
مؤدٍّ إلى الغاية منه ولعله نسي اعتقاده عند تخطئتنا. ولا حاجة لاستشهادٍ على ذلك
بأكثر من جواب سؤال له في هذا الجزء الذي انتقَدنا فيه نذكره مع السؤال بنصه
وهو:
(س) : كثر بيننا عدد المتخرجين من المدارس العالية ولم نسمع أن واحدًا
منهم قام بامتحان القضايا العلمية وإنتاج النتائج والاستدلالات التي يقف عليها علمًا
وعملاً، فهل ذلك يُعزى لنقص في التعليم أو إهمال من المتخرجين؟
(ج) يُعزى إلى الاثنين وإلى أن الأساتذة أنفسهم ليسوا من أهل الاشتغال
بالعلم ولو كانوا من أهل الاشتغال به لاقتدى بهم بعض تلامذتهم كما هي الحال في
أوربا وأميركا وفي بلاد اليابان أيضًا اهـ.
وجملة القول: إننا ما أنكرنا فائدة التعليم الحاضر بالمرة وإنما قلنا ولا
نزال نقول بأنه ناقص وغير مقصود به إلى سعادة الأمة وعزتها وليس معه
تربية للأخلاق والفضائل ولا نطلب إبطاله وإنما نطلب تعليمًا كاملاً تصحبه
تربية صحيحة وأن يكونا موجهين إلى الاستقلال، وطلب الكمال.