للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(٥٨) واحتجوا في مسألة الآبِق يأتي به الرجل أن له أربعين درهمًا - بخبر
فيه: (أن مَن جاء بآبق من خارج الحرم فله عشرة دراهم أو دينار) ، وخالفوه
جهرة، فأوجبوا أربعين.
(٥٩) واحتجوا على خيار الشفعة على الفور بحديث ابن البيلماني: (الشفعة
كحل العقال ولا شفعة لصغير ولا لغائب ومَن مُثِّل به فهو حر) ، فخالفوا جميع ذلك
إلا قوله: (الشفعة كحل العقال) .
(٦٠) واحتجوا على امتناع القَوَد بين الأب والابن والسيد والعبد بحديث:
(لا يقاد والد بولده ولا سيد بعبده) وخالفوا الحديث نفسه فإن تمامه: (.. . ومَن
مثّل بعبده فهو حر) .
(٦١) واحتجوا على أن الولد يلحق بصاحب الفراش دون الزاني بحديث ابن
وليدة زمعة وفيه: (الولد للفراش) ، ثم خالفوا الحديث نفسه صريحًا، فقالوا: الأمة
لا تكون فراشًا وإنما كان هذا القضاء في أمة، ومن العجب أنهم قالوا إذا عقد على
أمه وابنته وأخته، ووطئها لم يحد للشبهة، وصارت فراشًا بهذا العقد الباطل
المحرم وأم ولده، وسريته التي يطؤها ليلاً ونهارًا ليست فراشًا له.
(٦٢) ومن العجائب أنهم احتجوا على جواز صوم رمضان بنية ينشئها من
النهار قبل الزوال بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدخل
فيقول: (هل من غداء؟) فتقول: لا، فيقول: (فإني صائم) ، ثم قالوا لو فعل
ذلك في صوم التطوع لم يصح صومه. والحديث إنما هو في التطوع نفسه.
(٦٣) واحتجوا على المنع من بيع المدبر بأنه قد انعقد فيه سبب الحرية،
وفي بيعه إبطال لذلك، وأجابوا عن بيع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدبر بأنه
قد باع خدمته، ثم قالوا لا يجوز بيع خدمة المدبر أيضًا.
(٦٤) واحتجوا على إيجاب الشفعة في الأراضي والأشجار التابعة لها بقوله:
(قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشفعة في كل شرك في ريعة أو
حائط) ، ثم خالفوا نص الحديث نفسه، فإن فيه: (لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن
شريكه، فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به) ، فقالوا: لا يحل له أن يبيع قبل إذنه،
ويحل له أن يتحيل لإسقاط الشفعة، وإن باع بعد إذن شريكه فهو أحق أيضًا
بالشفعة، ولا أثر للاستئذان ولا لعدمه.
(٦٥) واحتجوا على المنع من بيع الزيت بالزيتون إلا بعد العلم بأن ما في
الزيتون من الزيت أقل من الزيت المفرد بالحديث الذي فيه النهي عن بيع اللحم
بالحيوان، ثم خالفوه نفسه فقالوا: يجوز بيع اللحم بالحيوان من نوعه وغير نوعه.
(٦٦) واحتجوا على أن عطية المريض المنجزة كالوصية لا تنفّذ إلا في
الثلث بحديث عمران بن حصين: أن رجلاً أعتق ستة مملوكين عند موته لا مال له
سواهم فجزأهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم فأعتق
اثنين وأرق أربعة ثم خالفوه في موضعين فقالوا: لا يقرع بينهم ألبتة ويعتق من كل
واحد سدسه. وهذا كثير جدًّا.
والمقصود أن التقليد حَكَمَ عليكم بذلك، وقادكم إليه قهرًا، ولو حكّمتم الدليل
على التقليد لم تقعوا في مثل هذا؛ فإن هذه الأحاديث إن كانت حقًا - وجب الانقياد
لها والأخذ بما فيها، وإن لم تكن صحيحة لم يؤخذ بشيء مما فيها. فأما أن تصحح
ويؤخَذ بها فيما وافق قول المتبوع، وتضعف وترد إذا خالفت قوله أو تأول فهذا من
أعظم الخطأ والتناقض، فإن قلتم: عارض ما خالفناه منها ما هو أقوى منه ولم
يعارض ما وافقناه منها ما يوجب العدول عنه وإطراحه - قيل لا تخلو هذه
الأحاديث وأمثالها أن تكون منسوخة أو محكمة، فإن كانت منسوخة لم يحتج
بمنسوخ ألبتة. وإن كانت محكمة لم يجز مخالفة شيء منها ألبتة، فإن قيل: هي
منسوخة فيما خالفناها فيه ومحكمة فيما وافقناها فيه - قيل: هذا مع أنه ظاهر
البطلان يتضمن لِما لا علم لمدَّعيه به، قائل ما لا دليل عليه، فأقل ما فيه أن
معارضًا لو قلب عليه هذه الدعوى بمثلها سواء لكانت دعواه من جنس دعواه، ولم
يكن بينهما فرق، ولا فرق وكلاهما مدعٍ ما لا يمكنه إثباته، فالواجب اتباع سنن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحكيمها والتحاكم إليها حتى يقوم الدليل
القاطع على نسخ المنسوخ منها، أو تجمع الأمة على العمل بخلاف شيء منها
وحال الثاني محال قطعًا؛ فإن الأمة - ولله الحمد - لم تجمع على ترك العمل بسنة
واحدة إلا سنة ظاهرة النسخ معلوم للأمة ناسخها، وحينئذٍ يتعين العمل بالناسخ دون
المنسوخ، وأما أن يترك السنن لقول أحد، فلا، كائنًا مَن كان وبالله التوفيق.
(الوجه العشرون) : أن فرقة التقليد قد ارتكبت مخالفة أمر الله وأمر رسوله
وهدي أصحابه وأحوال أئمتهم وسلكوا ضد طريق أهل العلم، أما أمر الله فإنه أمر
يُرَدُّ ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله، والمقلدون قالوا: إنما نرده إلى مَن
قلدناه. وأما أمر رسوله فإنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر عند الاختلاف بالأخذ
بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين وأمر أن يتمسك بها ويعض عليها بالنواجذ،
وقال المقلدون: بل عند الاختلاف نتمسك بقول مَن قلدناه، ونقدمه على كل ما
عداه، وأما هدي الصحابة فمِن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن فيهم شخص واحد يقلد
رجلاً واحدًا في جميع أقواله ويخالف مَن عداه من الصحابة، بحيث لا يُرد من
أقواله شيئًا، وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث.
وأما مخالفتهم لأئمتهم؛ فإن الأئمة نهوا عن تقليدهم وحذروا منه، كما تقدم
ذكر بعض ذلك عنهم. وأما سلوكهم ضد طريق أهل العلم فإن طريقهم طلب أقوال
العلماء وضبطها والنظر فيها وعرضها على القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وأقوال خلفائه الراشدين، فما وافق ذلك منهم قبلوه ودانوا
الله به وقضوا به وأفتوا به، وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه وردوه، وما لم
يتبين لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الاتباع، لا
واجبة الاتباع، من غير أن يُلزِموا بها أحدًا ولا يقولوا إنها الحق دون ما خالفها،
هذه طريقة أهل العلم سلفًا وخلفًا. وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق وقلبوا أوضاع
الدين فزيفوا كتاب الله وسنة رسوله وأقوال خلفائه وأصحابه فعرضوها على أقوال
من قلّدوه، فما وافقها منها قالوا: لنا وانقادوا له مذعنين وما خالف أقوال متبوعهم
منها قالوا: احتج الخصم بكذا وكذا ولم يقبلوه ولم يَدينوا به واحتال فضلاؤهم في
ردها بكل ممكن، وتطلَّبوا لها وجوه الحيل التي تردها، حتى إذا كانت موافقة
لمذاهبهم وكانت تلك الوجوه بعينها قائمة فيها شنعوا على منازعهم وأنكروا عليه
ردها بتلك الوجوه بعينها، وقالوا: لا ترد النصوص بمثل هذا ومن له همة تسمو
إلى الله ومرضاته ونصر الحق الذي بعث به رسوله أين كان، ومع من كان لا
يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم، والخلق الذميم.
(الوجه الحادي والعشرون) : أن الله سبحانه ذم الذين فرقوا دينهم وكانوا
شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون. وهؤلاء هم أهل التقليد بأعيانهم بخلاف أهل
العلم فإنهم وإن اختلفوا لم يفرقوا دينهم ولم يكونوا شيعًا بل شيعة واحدة متفقة على
طلب الحق وإيثاره عند ظهوره وتقديمه على كل ما سواه، فهم طائفة واحدة قد
اتفقت مقاصدهم وطريقهم، فالطريق واحد والقصد واحد والمقلدون بالعكس مقاصدهم
شتى وطرقهم مختلفة، فليسوا مع الأئمة في القصد ولا في الطريق.
(الوجه الثاني والعشرون) : أن الله سبحانه ذمّ الذين تقطعوا أمرهم بينهم
زبرًا كل حزب بما لديهم فرحون. والزبر الكتب المصنفة التي رغبوا بها عن
كتاب الله ما بعث الله به رسوله، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ
وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ
* فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: ٥١-
٥٣) ، فأمر تعالى الرسل بما أمر به أممهم أن يأكلوا من الطيبات وأن يعملوا
صالحًا وأن يعبدوه وحده وأن يطيعوا أمره وحده وأن لا يتفرقوا في الدين، فمضت
الرسل وأتباعهم على ذلك ممتثلين لأمر الله قابلين لرحمته، حتى نشأت خلوف
قطَّعوا أمرهم بينهم زُبرًا كل حزب بما لديهم فرحون، فمن تدبر هذه الآيات ونزَّلها
على الواقع تبين له حقيقة الحالة، وعَلِمَ من أي الحزبين هو، والله المستعان.
(الوجه الثالث والعشرون) : أن الله سبحانه قال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل
عمران: ١٠٤) فخصّ هؤلاء بالفلاح دون مَن عداهم، والداعون إلى الخير هم
الداعون إلى كتاب الله وسنة رسوله، لا الداعون إلى رأي فلان وفلان.
(الوجه الرابع والعشرون) : أن الله سبحانه ذمّ مَن إذا دُعي إلى الله
ورسوله أعرض ورضي بالتحاكم إلى غيره وهذا شأن أهل التقليد، قال تعالى:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ
صُدُوداً} (النساء: ٦١) ، فكل مَن أعرض عن الداعي له إلى ما أنزل الله
ورسوله إلى غيره فله نصيب من هذا الذم، فمستكثر ومستقل.
(الوجه الخامس والعشرون) : أن يقال لفرقة التقليد: دين الله عندكم واحد أو
هو في القول وضده، فدينه هو الأقوال المتضادة التي يناقض بعضها بعضًا ويبطل
بعضها بعضًا كلها دين الله؟ [١] ، فإن قالوا: بل هذه الأقوال المتضادة المتعارضة
التي يناقض بعضها بعضًا كلها دين الله خرجوا عن نصوص أئمتهم، فإن جميعهم
على أن الحق في واحد من الأقوال، كما أن القبلة في جهة من الجهات، وخرجوا
عن نصوص القرآن والسنة والمعقول الصريح، وجعلوا دين الله تابعًا لآراء
الرجال.
وإن قالوا: الصواب الذي لا صواب غيره أن دين الله واحد وهو ما أنزل الله
به كتابه وأرسل به رسوله وارتضاه لعباده، كما أن نبيه واحد وقبلته واحدة فمن
وافقه فهو المصيب وله أجران ومَن أخطأه فله أجر واحد على اجتهاده لا على
خطئه، قيل لهم: فالواجب إذًا طلب الحق وبذل الاجتهاد في الوصول إليه بحسب
الإمكان؛ لأن الله سبحانه أوجب على الخلق تقواه بحسب الاستطاعة، وتقواه فعل
ما أمر به وترك ما نهى عنه، فلا بد أن يصرف العبد ما أُمِر به ليفعله وما نهي
عنه ليجتنبه وما أُبيح له ليأتيه، ومعرفة هذا لا تكون إلا بنوع اجتهاد وطلب وتحرٍّ
للحق، فإذا لم يأتِ ذلك فهو في عهدة الأمر ويلقى الله ولمَّا يقضِ ما أمره.
(الوجه السادس والعشرون) : أن دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
عامة لمن كان في عصره ولمن يأتي بعده إلى يوم القيامة، والواجب على مَن بعد
الصحابة هو الواجب عليهم بعينه، وإن تنوعت صفاته وكيفياته باختلاف الأحوال،
ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة لم يكونوا يَعرضون ما يسمعون منه صلى الله
عليه وآله وسلم على أقوال علمائهم، بل لم يكن لعلمائهم قول غير قوله، ولم يكن
أحد منهم يتوقف في قبول ما سمعه منه على موافقة موافق أو رأي ذي رأي أصلاً
وكان هذا هو الواجب الذي لا يتم الإيمان إلا به، وهو بعينه الواجب علينا وعلى
سائر المكلفين إلى يوم القيامة، ومعلوم أن هذا الواجب لم يُنسخ بعد موته ولا هو
مختص بالصحابة فمن خرج عن ذلك فقد خرج عن نفس ما أوجبه الله ورسوله.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))