للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الإسلام والمسلمون

نشر في جريدة (ناسيونال زيتونغ) الألمانية مقالة في الانتقاد على الإسلام
والمسلمين دلت على جهلٍ من كاتبها بالأديان والتاريخ أو تجاهل حمل عليه
التعصب الشديد، وقد عرَّبت جريدة مصرية هذه المقالة وردَّتْ عليها ردًّا لم يفند
جميع المسائل والتهم الباطلة التي افتجرها الألماني؛ فرأينا أن نخلص هذه المسائل
ونفندها واحدة واحدة لا سيّما بعد انتشارها باللغة العربية، وإننا نشكر لهذه الجريدة
تعريبها على ضعف شبهات كاتبها، والرد عليها على ما فيه من التقصير؛ لأنها
قامت بما في وسعها، وعملت بنصيحة كنا نصحنا لها بها في أول ظهورها وهاك
ملخص مطاعن الألماني مع الرد السديد:
(١) افتتح الألماني كلامه بذكر الثورة المكدونية واهتمام أوربا بها واعترف
بأن الدولة العثمانية راغبة في إخمادها وتحسين حال المسيحيين بحسن نية، واعترف
بأن الثوار المسيحيين هم الذين يَحُولون دون الإصلاح.
وهذا الاعتراف إثبات لسوء قصدهم ولبعد المسيحي عن الخضوع لحكمه
والامتزاج بغيره وبأن حكومة الترك الإسلامية التي تصفها أوربا بالجور والظلم
والتي هي في الواقع ونفس الأمر دون حكومة الخلفاء الراشدين ومَن بعدهم ولا
سيّما في هذا العصر - تحب رعاياها الذين من غير دينها وترغب في إصلاح
حالهم وهذا يتضمن أن تأثير الإسلام في أهله أحسن تأثير، فما كان ينبغي لصاحب
الجريدة المصرية أن يعجب من ألماني يكتب هذه الكتابة ويبني عجبه على ما اشتهر
من صداقة عاهل ألمانيا لسلطان تركيا فإن هذا الكلام لا ينافي الصداقة. ولا يطالب
الكاتب بأن لا يكتب إلا ما يوافق هوى أميره وسلطانه.
(٢) واصل الألماني اعترافه المذكور بقوله: إن المكدونيين والبلغاريين
يحولون دون إجراء أي إصلاح كما أن الإسلام ظهر في كل زمان بمظهر المعادي
للمدنية المسيحية الأوربية وسيبقى كذلك على الدوام.
ونقول: إن الإسلام ظهر في زمان كانت المسيحية فيه قد دمرت مدنية
المصريين واليونانيين، فشيَّد الإسلام ما هدمته المسيحية وأحيا المدنية بعد موتها
كما شرحنا ذلك في مقالات سابقة وبعد أن أدخل المدنية في أوربا عن طريق
الأندلس كافأته على فضله بمحاربتها إياه واجتهادها في إبادته.
إن الإسلام قاوم همجية المسيحيين في القرون المتوسطة التي يسمونها القرون
المظلمة ولكنه أوغل فيها برفق فإنه دخل بلاد الأندلس وقد تمزق شملها بالظلم واستعباد
الأحرار، فجعلها بالعلم والعدل جنات تجري من تحتها الأنهار. ولما قوي ساعد
أهلها بما منحهم الإسلام من الحرية لم يرضوا من مكافأة المسلمين إلا بإبادتهم من تلك
البلاد. فأين المدنية المسيحية التي قامت هناك مقام مدنية الإسلام؟ أليست حال تلك
البلاد إلى اليوم شرًّا مما كانت عليه مع أن الرقي طبيعي في الإنسان؟
(٣) زعم الألماني أن دين محمد لا يقصد إدخال الناس في عقيدته كدين
بوذا وموسى وعيسى ولكنه يحاول إخضاع الشعوب وإبادتها.
وهذا غلو منه في الجهل أو التجاهل الذي هو أفضح من الجهل؛ فإن البوذيين
لا يدعون إلى دينهم ولا يحاولون تعميمه وكذلك اليهود دينهم خاص بشعب إسرائيل
لا يتعداه ولذلك لم ينمُ عدد هذه الأمة القديمة. وأما النصارى فإن نبيهم عيسى لم يكن
إلا مصلحًا بالديانة الموسوية، وقد أكد ذلك بصيغة الحصر إذ قال: (لم أُرسل
إلا إلى خراف إسرائيل الضالة) وأمّا ما ينقلونه عنه من أنه قال لتلامذته: (اكرزوا
بالإنجيل في الخليقة كلها) . فيجب تخصيص الخليقة فيه بشعب إسرائيل ليتفق
القولان. فلم يبق دين تدل نصوص كتابه على كونه عامًا للناس كلهم إلا دين محمد
عليه الصلاة والسلام فإن كتابه يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: ٢٨) وقد بعث وحده فقام دينه بالدعوة وانتشر بالدعوة ولم يكن ما كان من
الجهاد في آخر عهده إلا لحماية الدعوة من المعتدين. طالب الناس بالدخول في دينه
ليصلح فسادهم. والشعوب التي خضعت لأصحاب هذا الدين لم تَرَ أرفق من حكامه،
ولا أعدل من أحكامه، كما اعترف بهذا بعض علماء أوربا.
وإنه ليوجد في بلاد الإسلام من الملل والنحل ما لا يوجد في بلاد أخرى وكلهم
حافظون لعقائدهم وتقاليدهم ومعابدهم ومعاهدهم. ولم توجد في الأرض أمة عملت
ولا تزال تعمل لإبادة من يخالفها إلا الذين قالوا إنا نصارى من أهل أوربا فقد أبادوا
الوثنيين من أوربا كلها ثم أبادوا المسلمين واليهود من غربي أوربا، وهم الآن
يحاولون إبادتهم من شرقيها ولذلك لا يقبلون من الترك إصلاحًا مهما حسنت النية فيه؛
لأن الترك مسلمون تجب في رأيهم إبادتهم من أرض سبقهم إليها المسيحيون فهم
يتعاهدون على ما بينهم من الضغائن والأحقاد على نزع سلطة المسلمين من بلاد
أوربا كما اعتدوا عليهم في آسية وإفريقيَّة، بل كان كل أهل مذهب من مذاهب
النصرانية يسعى في إبادة أهل المذهب الآخر وهذا لم يُعرف في غير نصارى تلك
البلاد.
(٤) قال الألماني: إن الإسلام سلاح بيد أمة حربية لفتح بلاد العالم.
ونقول: نعم إن الإسلام أقوى سلاح للفتح وهل يعد هذا الألماني وقومه القوة
الحربية ضَعَة ورذيلة؟ أنَّى وتلك شهادة على أمته بأنها في الدرك الأسفل من
المهانة والضعة؛ لأنها في الدرج الأعلى من القوى الحربية. نعم إن بين قوة
الإسلام وفتوحاته وقوة الألمان في فتوحاتهم فصلاً واسعًا وهو أن الإسلام كان يقصد
بالفتح هداية الأمم إلى الحق الذي تسعد به في الدنيا والآخرة وذلك بأن يريها عدله
في الأحكام وفضل متبعيه في الأخلاق وقوة يقينهم في الإيمان فيرغب فيه عقلاؤها
ويدخلون فيه بالإقناع والإذعان. لا كما دخل وثنيو أوربا في النصرانية بالسيوف
والنيران.
وأما قصد ألمانيا وسائر أمم أوربا من الفتح فهو التمتع الحيواني بخيرات البلاد
التي يفتحونها وتسخير أهلها في خدمة شهواتهم وجمع المال لهم ولم توجد بلاد
في آسية ولا إفريقية افتتحها الأوربيون ثم كانت في ظل سلطتهم متمتعة بالعدل
والحرية في الدين والدنيا كما كانت في عهد فاتحي العرب الأولين.
فهذه إنكلترا أقرب أوربا إلى العدل والحرية تفضل الصعلوك من الإنكليز في
الهند على الأمير المسلم أو الوثني الهندي وقد ساوى عمر بن الخطاب بين صعلوك
قبطي وبين ابن عمرو بن العاص فاتح مصر وحاكمها في عهده وأقاده منه ... نعم إن
الإسلام قد تحولت سلطته الديمقراطية المعتدلة المقيدة بالشورى ورأي أهل الرأي من
الأمة إلى سلطة فردية مطلقة بما صار لأمرائه من العصبية التي مكنتهم من جعل
السلطة وراثة في عقبهم فأفسدوا فيه وجعلوا الفتح من متممات شهواتهم ولكن هذا
مرض عرض للمسلمين لا الإسلام وقد انتقم الله تعالى منهم بتسليط أوربا عليهم
تسومهم سوء العذاب، ومتى بلغ الانتقام حده يرجع المسلمون إلى أصول دينهم
ويقيمون لأنفسهم سلطة إسلامية صحيحة تتكون بها المدنية الفاضلة الصحيحة التي
يسعد بها العالم الإنساني.
ولا يخفى على من استيقظ من المسلمين أن أوربا تجتهد في محو السلطة
المنسوبة للإسلام من الأرض وإنها تتوهم أن هذا المحو لا يعقبه إثبات؛ ولكنهم
يعتقدون أن هذا المحو هو الذي يكون سبب الإثبات فإن السلطة الحقة المنتظرة لا
تكون إلا إذا استيقظ أكثر المسلمين من هذا النوم المستغرق ولإيقاظهم هذا صوتان:
أحدهما صوت العلم وهذا لا يمتد إلا بالتدريج الطويل وثانيهما صوت انقضاض آخر
ركن من أركان سلطتهم المبعثرة وما هو إلا صيحة واحدة فإذا هم قيام ينظرون.
فلتعلم أوربا أن محافظتها على السلطة العثمانية وإبقائها واهنة هو الذي يسهل لها
التمتع بخيرات بلاد المسلمين دون سواه؛ لأن حكام المسلمين عودوا المسلمين منذ
قرون طويلة على الاعتماد عليهم وإلقاء المقاليد لهم فإذا رجعوا بعد اليأس من حكامهم
أو زوالهم إلى قوة الإسلام نفسه فإن بأس ثلاث مئة مليون من الأسود الباسلة يعتمدون
على الله وعلى ما وهبهم من القوة على دفع الضيم لا يكون أثره في الأرض قليلاً.
(٥) قال الألماني بعد ما ذكر من قوة الإسلام ما ذكر: إن القوة التي ساد
بها في آسية وإفريقية ستكون مصدر مصائبه فإنه ينقصه ما في الديانات الأخرى من
قبول الأصول والقواعد (وفي الأصل المبادئ) التي عند غير أهله وعدم الاعتداء
على الأمم التي لا تَدين به.
ونقول إن القوة التي ساد بها الإسلام أيام كان إسلامًا هي قوة الحق والعدل وما
جاءته المصائب وأحاطت به النوائب إلا بعد أن حولت سلطته التي تقيم هذين
الركنين إلى سلطة استبدادية تعبث بها كما قلنا آنفًا فالقوة الفاتحة قد زالت من زمن
طويل والسلطة السائدة إلى هذا العصر إنما بقيت سيادتها بقاعدة الاستمرار؛ فإنها
لم يكن لها مقاوم يزيل استبدادها اللهم إلا ما كان من المبادلة بين المستبدين في
بعض الأحيان. ونحن على علم بأن هذا الاستبداد لا يدوم وإذا لم يزله المسلمون
لاستعباد الملوك والأمراء لهم فهذه أوربا تزيله بالتدريج.
أما زعمه بأن مصدر مصائب الإسلام ستكون من أصلين فيه: أحدهما أن
المسلمين لا يقبلون اقتباس ما عند الأمم الأخرى وثانيهما أنهم لا يكفون عن الاعتداء
عليها فهو زعم باطل مبني على الجهل الفاضح، أو التعصب الواضح، ذلك أن
الإسلام يرشد المسلمين إلى أن يأخذوا الحكمة أنَّى وجدوها وينهاهم عن الاعتداء
على من لم يعتدِ عليهم قال الله تعالى:] وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ
تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ (البقرة: ١٩٠) [وقال عز وجل:] فَمَنِ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ (البقرة: ١٩٤) [أي
لا تزيدوا على مقابلته بمثل اعتدائه. فإن أراد بعدم قبول الإسلام أصولاً زائدة عليه
الأصول الدينية لا المعاشية فهذا صحيح وهو مصدر قوته ولكن المسلمين لم
يقصروا في مخالفته في هذا الحكم فأخذوا عن النصارى والوثنيين كثيرًا من البدع
والتقاليد وصبغوها بصبغة إسلامية وهي التي كانت سبب ضعفهم في دينهم الذي هو
أمضى سلاح بأيديهم كما قال وحكّمت غيرهم فيهم فالأمر على ضد ما زعم.
(٦) قال الألماني: امتاز الإسلام بفتوحات سريعة قاسية تدل على شهامة
العرب والترك وتعصبهما وخضوعهما للأقدار وكان لهذه الفتوحات تأثير في أوربا
فقد استمر حكم العرب في الجنوب الغربي منها (أسبانيا أو الأندلس) سبعة قرون
وحكم الترك في الجنوب الشرقي ستة قرون ولم يستطع الترك ولا العرب إيجاد
رابطة بينهم وبين الأمم التي أخضعوها.
ونقول: إن التاريخ لم يعرف أرفق وألين من فاتحي المسلمين حتى قال أحد
فلاسفة الإفرنج فيهم وفي دينهم: (إن شعوب الأرض لم تَرَ قط فاتحًا بلغ من الحِلم
هذا المبلغ ولا دينًا بلغ في لينه ولطفه هذا الحد) (راجع ص ١٠٥ من كتاب
الإسلام والنصرانية) . أخطأ في نسبة القسوة إلى المسلمين في فتوحاتهم وأصاب
في وصفها بالسرعة ووصفهم بالشهامة والخضوع للأقدار ولكن مع العمل والأخذ
بالأسباب التي لا يجوز التوكل والاعتماد على القدر عندنا إلا بعد استيفائها. ومن
البلاء أن هذه المزية العظيمة قد ضعفت بعض الضعف في المسلمين ببدعة الجبر
التي فشت فيهم وروجها لابسو مرقعات الصوف من مدعي الصلاح ومن الذين
يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. ومع هذا كله لا يزال المسلمون
في مجموعهم أشجع الشعوب وأشدها شهامة وسَيَهْتَدُون إلى أن التوكل يشترط فيه
الاستعداد فإذا استعدوا كما يجب يعود إليهم بفضل الله تعالى ما فُقد منهم.
وأما زعمه: أنه لم يستطع العرب ولا الترك إيجاد رابطة بينهم وبين الأمم
التي أخضعوها فهو زعم باطل على إطلاقه فإن العرب قد حولوا لغات الأمم التي
فتحوا بلادها إلى لغتهم بدون إلزام ولا قهر ولا مدارس سياسية كما يفعل الإفرنج
وهذه قدرة على عمل عجزت عنه الدول الأوربية والرومانية قبلها ورابطة اللغة من
أقوى الروابط بين الأمم. هذا هو أثرهم فيمن بقي محافظًا على دينه في البلاد التي
فتحوها.
والكاتب يعلم أن أكثر الشعوب التي استولت عليها العرب قد دخلت في دينهم
فالمجوسية نسخت من بلاد الفرس والنصرانية قَلَّ أتباعُها في مصر وسوريا ولم
يكن ذلك بقهر ولا إكراه؛ بل كان المسلمون يدخلون البلد ثم يتركونها لأهلها
ويقيمون فيها حامية قليلة تدافع عنها من يعتدي على أهلها إن كان هناك خوف وتقر
الناس على دينهم وعاداتهم، وتجعل أكثر العمال منهم؛ ولكنهم كانوا ينجذبون
للشرذمة التي تكون عندهم بجاذبية الحق والعدل والفضيلة فيها فيتبعونها في الدين
واللغة عن رغبة واختيار.
أما الترك فقد عجزوا عن مثل ذلك لأن سهمهم من الإسلام وأركانه الثلاثة كان
دون سهم العرب، وما كان للأعجمي المقلد أن يفهم من الكتاب والسنة ما يفهمه
العربي المجتهد لا سيّما بعد ظهور البدع. ومع هذا كله كان الترك أكثر رفقًا
بالشعوب التي يفتحون بلادها من سائر الفاتحين وقول الفيلسوف السابق يشملهم.
(للرد بقية)