للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


اعتبار رؤية الهلال في الشهور العربية

(س٤) : من رضاء الدين أفندي قاضي القضاة في أوفا (الروسية) :
حديث: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان
ثلاثين يومًا) الذي أخرجه الشيخان وغيرهما يوجب صوم شهر رمضان عند رؤية
هلاله أو إكمال شعبان ثلاثين يومًا ولكن هذا الحكم هل يتعدى إلى غيره من شهور
السنة بأن يقال: إذا لم يُرَ هلال شعبان يكمل رجب ثلاثين يومًا وإذا لم ير هلال
رجب يكمل جُمادَى الآخرة ثلاثين يومًا وهلم جرًّا على ما يفيده قول ابن الهمام في
حاشيته على الهداية (ج٢، ص ٦٠، طبع بولاق بمصر) أم هذا الحكم خاص
بأول شهر رمضان فقط لا يتعداه إلى سواه؟ وأما ابتداء شعبان وسائر الأهلَّة
فيعرف بغير هذا مثل التقويمات المطبوعة في عصرنا أو بعد السنة القمرية ثلاث
مائة وأربعة وخمسين يومًا من ابتداء شعبان الماضي أو غير ذلك مما لا يتعلق به
حكم شرعي أصلاً. فإننا نحن سكان القطبة الشمالية لا يمكن لنا رؤية الهلال في
أول ليلته إلا نادرًا وخصوصًا أيام الشتاء التي يقصر فيها النهار جدًّا.
فعلى الاحتمال الأول أعني لزوم رؤية هلال شعبان ورجب وغيرهما ربما
يتردد ابتداء رمضان وشوال بين ثلاثة أيام أو أزيد ولذلك يكثر فينا الاختلاف بين أئمة
المساجد في الصوم والإفطار وقد صار هذا الاختلاف في هذه الأيام أضحوكة عند أهل
سائر الملل الذين يعيشون معنا فكثيرًا ما يصوم أهل محلة ويفطر أهل محلة
أخرى والمسافة بينهما قريبة، بل ربما يختلف إمامان لمسجد واحد وأشخاص من أهل
بيت واحد.
ولما كانت هذه المسألة من المسائل الشرعية وحَرية بالاهتمام وجريدة المنار
هي المجلة الوحيدة التي تذب عن الدين - نرجو الإجابة عن هذا السؤال ولعلّي
أستفيد من جوابكم عن هذا أيضًا، كما استفدت من أجوبتكم المتقدمة ويستفيد أيضًا
سائر الإخوان وطلاب الحقيقة.
(ج) قد علم مما كتبناه في الجزء الماضي حكمة الشارع في جعل المواقيت
الدينية مما يشترك في معرفته العامة والخاصة، وعلم أيضًا أن اتفاق المسلمين في
كل قطر من الأقطار على هذه المواقيت ممكن، ولا أرى كثرة الخلاف في رؤية
الهلال من أهل البلاد المتجاورات إلا بسبب استحلال الكذب أو الاستهانة في
الشهادة برؤية هلال رمضان، بحيث يشهدون بتوهم الرؤية، لا سيما في بلاد
يكرمون فيها أولئك الشهود وأذكر أنني رأيت في بعض السنين الشمس قد غربت
كاسفة ثم شهد رجلان أظن فيهما العدالة - بأنهما رأيا الهلال فحكم القاضي
بشهادتهما في الدعوى التي جرت البدعة الذميمة بها في إثبات شهري الصيام
والإفطار وصام الناس. ولا شك أنهما كانا كاذبين في شهادتهما؛ إذ لا معنى
لغروب الشمس كاسفة إلا غروبها مع القمر. ولا أزال ألتمس لهما العذر بأنهما
لكثرة التحديق تخيلا أنهما رأيا الهلال فشهدا بالتوهم. وإذا كان الهلال بحيث يُرى
فإنه يراه في كل بلد كثيرون من المستهلين إلا أن تختلف المطالع ولما كان إخواننا
من الشيعة يعملون بالرؤية نراهم قليلي الاختلاف فيها وذلك أنهم لا يحاولون موافقة
تقاويم الحاسبين فهذه المحاولة وتلك المساهلة هما السبب عند السنيين في كثرة
الخلاف التي صاروا بها سخرية إلا حيث يتلافون ذلك كما يفعلون في مصر وقد
ذكرناه في الجزء الماضي.
وحاصل القول في الجواب أن اعتبار رؤية الهلال في المواقيت الدينية لازم
متعين وهو لا يجب في الأمور الدنيوية، وإذا دقق الحكام فإنهم يمنعون الخلاف إلا
قليلاً، وإن الاختلاف في الرؤية لا يقتضي من الخلاف في إثبات الشهور القمرية
بالرؤية أو إكمال العدة أكثر مما يقتضيه الاعتماد على التقاويم فإننا نرى التقاويم
التي تطبع في مصر كل عام تختلف في إثبات هذه الشهور. وماذا علينا إذ كان من
مقتضى عرفنا الشرعي أن يكون أول الشهر القمري في الشرع متأخرًا يومًا واحدًا
عن أول الشهر الفلكي، ولماذا لا يعمل المسلمون في كل قطر بما يثبت عند حاكم
عاصمته والمسلمون أمة واحدة، هذا ما نراه كافيًا وإن استُزِدْنَا زدنا.