للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


لبس القلنسوة المعروفة بالبرنيطة
أو التشبه بالنصارى

يسافر في كل سنة عدد عظيم من أمراء المصريين وحكامهم ووجهائهم إلى
أوربا فيلبَسون فيها لَبوس الإفرنج ويتزيَّوْن بزيهم لا يدعون منه شيئًا على أن زي
هؤلاء في الأغلب هو الزي الإفرنجي لا فرق إلا فيما يوضع على الرأس فأكثر
المصريين يتبعون حكامهم بلبس الطربوش الذي أخذه الترك عن الروم وهم في
أوربا يلبسون البرنيطة لا فرق في ذلك بين الأمير والمأمور إلا أفرادًا يعدهم
الجمهور شذاذًا ويلومون بعضهم على محافظتهم على لبس الطربوش هناك.
ويظن أكثر المسلمين أن لبس البرنيطة مخل بالدين الإسلامي حتى إن جريدة
(الحاضرة) تجرأت منذ عامين على التعريض بعزيز مصر لما بلغها من لبسه
البرنيطة في أوربا وقالت: إن هذا ممنوع في الإسلام. وأجبناها يومئذ في المنار.
ونرى الناس يلهجون في هذه الأيام بخبر فتوى من بعض العلماء بعدم إخلال
لبس البرنيطة بالدين الإسلامي. قالوا: إن رجلاً من مسلمي الترانسفال سأل العالِم
عن ذلك، وقال له: إن المسلمين في تلك البلاد مضطهَدون ومهضومو الحقوق لأنهم
مسلمون وأنه لا طريق إلى معاملة حكامهم وجيرانهم لهم بالمساواة إلا مساواتهم لهم
في زيهم ولا يتم ذلك إلا بلبس البرنيطة.
فأجابه العالم بأن اللبس من أمور العادات لا من أمور الدين وأن ما قاله بعض
الفقهاء من كراهة التشبه بالكافر في عاداته قد قيدوه بقصد التعظيم لدينه لا بقصد
المصلحة وأهل الترانسفال على ما يقول السائل لا يقصدون إلى ذلك بل تحملوا
كثيرًا من الأذى في تركه والضرورات تبيح المحظورات، فأمر الكراهة أهون.
هذا ما سمعناه في المسألة ويقال: إن بعض المتفقهة استكبروا الأمر وعدّوه من
المشكلات الدينية وطفقوا يتهامسون ويتباحثون فيه، وما ذاك إلا من قلة الفقه ومن
عدم النظر في السنة وفي تاريخ الأمة فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم لبِس الجبة الرومية وهي من لبوس النصارى ولبس
الطيالسة الكسروية وهي من لبوس مجوس الفرس. وكذلك الصحابة عليهم
الرضوان لبسوا في كل بلاد فتحوها من لبوس أهلها حتى قلنسوة النصارى بغير
نكير إلا ما كتبه عمر إلى عتبة بن فرقد لما خشي على قومه الترف والسرف
وفساد البأس والمنعة فقد كتب إليه يأمره بالبروز إلى الشمس وبالخشونة وبترك زي
الأعاجم وهو أمر للمصلحة لا للتشريع، كيف وعمر يعلم أن الشارع قد لبس لبوس
الأعاجم. وقد لبس المسلمون بأمر المنصور قلانس كقلانس الكفار ولم ينكر ذلك
أحد إلا ما كان من هزل بعض الشعراء؛ ولكن المسلمين وجموا واستنكروا تغيير
السلطان محمود العثماني زي قومه بزي الإفرنج لما كانوا عليه من الجمود على
العادات ولكن عقلاء الترك الآن يعدون ذلك أصلاً من أصول الإصلاح؛ لا لأن
تغيير الزي كبير النفع؛ ولكن لما فيه من زلزال ذلك الجمود الذي كان مانعًا من
اقتباس الدولة كثيرًا من النظام النافع في الجند والإدارة والسياسة عن أوربا التي
سبقت وبرزت فيه وقد رأينا أثر سبقها وجمودنا باستيلائها على معظم بلاد المسلمين.
نعم، إنني لا أنكر أن اختيار التشبه بالأجنبي هو أثر الضعف القاضي
باحتذاء المغلوب مثال الغالب في زيه وعاده وأنه ينبغي للأمة أن تحافظ
على عادتها أشد المحافظة ما لم تكن ضارة وإذا أرادت استبدال عادة بأخرى فليكن
ذلك بحسب المصلحة لا تقليدًا محضًا للأجنبي.
ولا أنكر أن المصريين الذين يلبسون البرنيطة في أوربا ملومون وأن سبب
لبسهم إياها ضعف العزيمة ولكنني لا أقول: إنهم قد عصوا الله تعالى واستحقوا عقوبته بذلك. ولو كان أمر اللبس من أمور الدين لوجب أن نتبع فيه الشارع وقد كان يلبَس الإزار والرداء ولم يلبس السراويل قط بل لم يلبس هذه الجبة
والفرجية ذات الأكمام الواسعة والأذيال الطويلة التي جمد عليها علماء المسلمين لهذا
العهد ولكنه نهى عنها ولبس الجبة الرومية الضيقة الأكمام فكان يتعذر الوضوء بها
حتى كان يخرج يديه من أسفلها عند الوضوء ليغسلهما. وقد كنت كتبت في
موضوع اللباس والتشبه فيه بالأجانب عشرات من الصحائف في كتاب (الحكمة
الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية) ، ذكرت فيه حكم الملابس في الدين وفي
المنفعة وفي الذوق وفي عرف الصوفية وفي السياسة وذكرنا حكم التقليد فيها وقد
جاء في أول الفصل المعقود للبحث في (كيفية اللبوس والتقليد فيه) ما نصه:
قد علم مما تقدم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعض أصحابه عليهم
الرضوان قد لبسوا القباء والفروج والطيالسة الكسروية واستعملوا المياثر [١] وكل
ذلك من لبوس الفرس وأنهم لبسوا أيضًا البرانس والجبب الرومية وهي من لبوس
النصارى. والجبة الرومية لم يتقدم لها ذكر وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى
الله عليه وسلم لبسها فكان يخرج يديه من أسفلها عند إرادة غسلهما في الوضوء
لضيق أكمامها الذي لا يمكن معه التشمير. ولبسوا أيضًا البرود والحبر المخططة
والمعلمة وهي من لبوس اليمن. وتلك الثياب كانت كغيرها تُجلب إليهم من العراق
والشام ومصر واليمن، لا أنهم كانوا يحتذون مثال هذه الشعوب في صنع لبوسها؛
إذ لم يكونوا أصحاب صنائع. وفي ذلك دليل على أن الشرع ينيط أمر اللباس من
حيث كيفية الأثواب وتفاصيلها باختيار اللابس ولا يحظر على شعب وقبيل
استعمال جديلة شعب آخر؛ لأنها أمور عادية لا تتعلق بحقوق الله تعالى ولا بحقوق
الخلق لذاتها.
نعم، كان أكثر ما يلبس النبي وأصحابه الرداء والإزار تبعًا لعادة قومه لا
لوحي نزل بأولوية ذلك وأفضليته شرعًا. على أنه مناسب لحلة القطر الحجازي
الحار. وإذ لم يرد في الشرع تفضيل كيفية مخصوصة وشكل معين في الملابس،
لأن الشرع نزل فيما هو أهم من ذلك فينبغي أن يناط ذلك بالرأي الصحيح وهو إنما
يرجح ما يوافق حالة المكان والزمان) . اهـ المراد منه. وبعد هذا تفصيل في
تفضيل بعض الملابس على بعض لاختلاف الزمان والمكان.
وقد حكَّم الفقهاء العادة في أمر الملابس حتى في الشرع فاستحبوا ما كرهته
السنة لمعنى يقتضي الكراهة مع بقاء ذلك المعنى وحجتهم أنه صار عادة. فقد ورد
في الحديث النهي عن إطالة الثياب ووعيد الذي يجر ثوبه خيلاء واتفق الفقهاء على
أن إطالة الأذيال أو الأكمام للخيلاء حرام ولغير الخيلاء مكروه شرعًا. ثم إنك ترى
مثل الشيخ الحفني يقول في تفسير الحديث من حاشيته على الجامع الصغير: إن
كراهة زيادة طول الثوب عن الكعبين لغير المختال مخصوصة بمن لم يصِر ذلك
عادة لهم كأهل مصر. وقال النووي في شرح مسلم نقلاً عن القاضي عياض وأقره:
وبالجملة يكره كل ما زاد على الحاجة والمعتاد في اللباس من الطول والسعة والله
أعلم، وذكر الشمس الرملي في شرح المنهاج أن إفراط توسعة الثياب والأكمام بدعة
وسرف وتضييع للمال ثم قال: نعم ما صار شعارًا للعلماء يندب لهم لبسه ليعرفوا
بذلك فيسألوا، وليطاوعوا فيما عنه زجروا، فأنت ترى أنهم جعلوا المحظور بنص
الشارع مندوبًا شرعًا وقد رأيت ضعف شبهتهم فإننا إذا سلمنا لهم بأنه ينبغي أن
يكون للعلماء زي خاص نقول: إنه ينبغي أن يكون ذلك الزي مما لم ينهَ عنه الشارع
نهيًا صريحًا.
ولئن صح ما يقولون من تحكيم العادة بالشرع من غير ضرورة ولا حاجة
ليكوننَّ وزر هذا الزي المنهي عنه في السنة على مَن اخترعه لهؤلاء العلماء من
سلفهم الذين كانوا خيرًا منهم باعترافهم. ولا أعرف المخترع الأول لزي علماء
مصر، وهو أبعد الأزياء عن أدب السنة وعن الذوق وعن المصلحة من حيث
السعة والطول؛ ولكنني أعلم أن أول مَن اتخذ لأهل العلم زيًّا مخصوصًا فقلدوه فيه
بالتدريج هو القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة (رحمه الله) وما أظن أنه كان
من السعة والطول بالقدر الذي نشاهد ولا براءة من هذا إلا بجعل ابتداء العادة
كاستمرارها.
ولقد بلغ من سلطان العادة على علمائنا أنهم صاروا ينكرون على من يخالفهم
من أبناء صنفهم في الأردان المكبرة، والأذيال المجررة، فلا عجب إذا حملت
العادة بعضهم على إنكار لبس قلنسوة النصارى ولو لضرورة دفع مفسدة أو جلب
مصلحة مع العلم بأن الصحابة والتابعين لبسوا في صدر الإسلام البرانس وهي من
قلانس النصارى كما في البخاري وشرحه.
أما حجة هؤلاء وأمثالهم التي تروج عند العامة فهي أن ذلك تشبُّه بالنصارى
الذين يجب علينا مخالفتهم و ... وهذا الكلام غير صحيح على إطلاقه وإنما هو مقيد
بالمخالفة في الأمور الدينية التي لا يوجد في ديننا ما يؤيدها كالأناشيد في الجنائز
وحمل المباخر ونحوها أمام النعش واتخاذ قبور الأولياء والصالحين مساجد وغير
ذلك مما تشبهنا بهم فيه، بل جعلناه من شعائر ديننا مع النهي عنه في الأحاديث
الصحيحة. وأما الأمور الدنيوية كالأكل والزي فليس مما تجب فيه المخالفة بل
تقارب الناس في العادات يؤلف بينهم ويزيل التنافر الذي يعمي كل فريق عن
فضائل الآخر وإذا زال التنافر ظهر الحق على الباطل.
وقد علمت أن النبي وأصحابه لبسوا زي المشركين والمجوس بله النصارى
الذين نطق القرآن الحكيم بأنهم أقرب مودةً لنا. وأكثر ما قاله الفقهاء في هذا أنه
يكره أن يأتي المسلم أمرًا بقصد التشبه بالأجنبي عن دينه بل يأتيه أو يتركه للفائدة
والمصلحة أو عدمهما. ولا أرى من مصلحة المصريين أن يلبسوا قلنسوة الإفرنج
(البرنيطة) ؛ لأن هذا من مضعفات الرجاء باستقلالهم، وأما أهل الترانسفال
وأهل الرجاء الصالح فلا رجاء في استقلالهم لقلتهم وغلبة الإفرنج عليهم في كل
شيء، على أنه ينبغي لهم المحافظة على كل ما لا تضرهم المحافظة عليه من
عاداتهم التي لا تخالف الشرع. أما اتقاء الضرر فواجب شرعًا إن كان محققًا،
ومندوب إن كان مظنونًا، هذه هي القاعدة الشرعية ولكن أكثر الناس عبيد العادات
إلا الذين انسلخوا من التقليد الأعمى.
وقد فصلنا القول في مضار تقليد الأجانب في الأثاث والماعون والزينة في
كتاب (الحكمة الشرعية) ، ونقلنا منه نبذة في منار السنة الأولى، فلتراجع.