للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نظام الحب والبغض
تابع ويتبع

باب (٢) : كيف حدثت القوة للإنسان؟
تلك القوى [*] تابع أصل وجودها من حيث الجملة لفطرة النوع. وأما قسط
كل فرد من كل قسم من أقسامها فتابع لتوزيع عام مرتب اقتضاه نظام الوجود
المؤسس على وجود المتضادات.
فمن كان يرجو أن ينال نصيبًا حسنًا من ذلك التوزيع فليعرض عن الذين
يجادلون في مثل هذا المقام في عمل الإنسان كقول فريق منهم: إذا كانت قوته من
صانعه قلت أو كثرت فأي فضيلة أو رذيلة له. وكقول آخرين: إذا كانت قوته منه
فلم يعتذر بصانعه إن قصر.
ولم نوصِ بهذا الإعراض تقييدًا للأفكار أن تجول في المعقولات كما خولها
الفاطر، ولا استصغارًا لهذه المسألة؛ بل لأننا نجدنا كيفما قلنا نجري في هذه الحياة
على إثابة المحسن ومؤاخذة المسيء. فعلمنا أن البحث عقيم وإن أنتج فهو لا يعدو
هذه النتيجة الموافقة لما في الإنسان من مكنونات الأسرار.
ولا نعيا أن نقول لأمثال أولئك السائلين: إن الفاطر (جل وعلا) فطر هذا
النوع على صورة يتصرف معها في عوالم الأرض ثم ينتهي إلى عالم الغيب ليُتم
هنالك فيه أمرًا لم يبتدئه عبثًا، وكان من حكمته أن يكون أفراد هذا النوع درجات.
وجعل في الأفراد شوقًا للترقي من درجة دنيا إلى درجة عليا. وأغاث هذا الشوق
بإيجاد استعداد عام في أصل الفطرة للترقي. فمن أزعجه الشوق حتى عرض نفسه
لنيل نصيب من الاستعداد العام يوشك أن ينال المنح والتحف مما في أصل الفطرة،
ومن احتج على الشوق في تسفله الخاص بأنه تابع لترتيب الدرجات العام فحجته في
نفسه داحضة؛ لأن القضاء العام في تفاوت الدرجات يقابله إيجاد استعداد عام. فلئن
صح حجة في وجود متسفلين يقابلون متعالين فلا يصح حجة في تسفل فرد بعينه.
هذا هو سبيلنا الذي اتفق البشر كلهم على سلوكه في قوانينهم الحقوقية
والجزائية وليس بعد هذا إلا هراء غاليَيْنِ: أحدهما ينكر إفاضة القوة الغيبية على
القوة الحسية مطلقًا، والآخر ينكر وجود القوة الحسية مطلقًا.
فنذرهم في هرائهم يتجادلون ونأخذ لأنفسنا نصيبًا من بناء الحكم على الواقع
لنستفيد علمًا نافعًا لنا في يومنا هذا وفي اليوم الموعود.
تدرج الإنسان في القوة
لكل فرد من أفراد الإنسان نوعان من القوة:
(١) قوة طبيعية وهي ما منحه الفاطر لشخصه من قوة جسد وعقل وقلب.
(٢) قوة صناعية وهي ثمرة التعاون الذي اهتدى البشر لفوائده.
أما تدرج الإنسان في القوة الطبيعية فتابع لارتقائه في القوة الصناعية [**]
ولذلك نفيض الآن في بيان القوة الصناعية وشرح كيفية حدوثها ونحصر الكلام ههنا
في ثلاث روابط فيها ينحصر التعاون العظيم الذي ينتج القوة الصناعية. وهي:
(١) رابطة قرابة الأجساد بواسطة الأرحام، ونسميها رابطة القومية.
(٢) رابطة قرابة الأفكار بواسطة الاتباع لذي دعوة، ونسميها رابطة الدين
والمذهب.
(٣) رابطة قرابة القلوب بواسطة التراضي في اقتسام الأعمال التابعة لحب
الزينة وحب التميز، ونسميها رابطة المدنية.
رابطة القومية
في الإنسان أشواق لا تسكن لمطالب لا تحصر، فمنها مطالب تقتضيها مادة
جسمه. ومنها مطالب يقتضيها جوهر نفسه، ومنها مطالب تقتضيها مادة الجسم
والنفس معًا. وهذا القسم من المطالب هو الأكثر.
والباحثون في الإنسان ينفعهم أن يعرفوا هذا التقسيم فإنه يفيدهم في التفريق
بين العلل. وما أجدرهم أن يحرصوا على إصابة الحقائق في إلحاق كل معلول
بعلته. وما أجدر الحقائق أن تكون مستورة لتمتحن طلابها. وما أجدر من توجه
إليها بفكر حر متزودًا من الإخلاص؛ أن يبلغ ما يسير به الشوق إليه.
وقد عرف من قبل ومن بعد أن الإنسان لا يبلغ شيئًا من مطالبه بدون التعاون
إلا أن يكون شيئًا من بعض المطالب التي يقتضيها جوهر النفس وحده كالجمال
المتجلي في الأشباح الطبيعية بروحه المناسبة للنفس الإنسانية. فكأن العجز الفردي
بالنسبة إلى المطالب التي لا تفتأ تتجدد كل حين - داء عظيم يحول بين الإنسان وما
تطالبه به فطرته. ويهدد كل فرد بالضعف المميت. وكأن التعاون دواء هذا الداء
فهو يرفع من أمامه الحوائل، ويدفع عنه الغوائل، ويهب كل فرد قسطًا بقدر من
القوة المحيية.
لكن هذا الدواء إنما يشفي عجز كل فرد من المتعاونين بالنسبة إلى غيرهم من
إنسان وغير إنسان. فما الذي يشفي عجز كل فرد منهم بالنسبة إليهم أنفسهم إذا
أجمعوا أمرًا أن يخذلوه؟ الجواب عن هذا سيتضح من الكلام على الرابطتين
الآتيتين، وإنما عجلنا بإيراد هذا السؤال الآن للإشعار بادئ بدء بأن رابطة القومية
المؤسسة على مطلق التعاون لا تجعل المتعاونين على الغير في أمن من أن يعدو
بعضهم على بعض ولذلك نضطر أن نقول:
لئن كانت هذه الرابطة قد نفعت الإنسان فإن نفعها أبتر وقد ضرته أيضًا. قلنا
نفعته؛ لأننا لا نستطيع أن ننكر أنها قوت منه ضعفاء، وجمعت منه متفرقين، وفي
حِضنها ربت له أنواعًا من الاستعدادات حتى دبت ودرجت وسارت لتبلغ أشدها.
ونقول: ضرته؛ لأنها كما جمعت منه متفرقين فرقت منه مجتمعين. وكما عرفت
له قربى. نكرت له قربى. وكما آنسته أوحشته. وكما حببته إلى طائفة بغضته إلى أخرى. ولم تزل واقفة به أحقابًا طوالاً وقفة إخوانه من الحيوانات التي ينهش بعضها بعضًا، لا يميزه عنها إلا استواء القامة وإبانة هذه اللحمة (اللسان) عن
مكنون ضميره، ولا مكنون هنالك غير ما يريد أن يدعو به عصبته لنهش عصبة
أخرى. أو لم تروا إلى الذين جمدوا على هذه السنة القديمة من أهل البوادي؟
أرأيتم إن أمسك الصناع عنهم أكسيتهم وأخبيتهم والأدوات اللازمة لهم هل
يخصفون غير ورق الأشجار، وهل يلبثون إلا في جوف الأوجار؟
فلولا الذين غسلوا عن أذهانهم وضر الاغترار بهذه القوة البسيطة التي لا
يعدو نفعها أمن الفرد من الغريب بفضل عون القريب لكنا حتى هذا اليوم والأنعام
سواء.
ولكن أولئك النفر لما أتاهم ذلك الذكر وعلموا أن الإنسان قريب الإنسان،
كيفما كان اللون واللسان، وأَنَّى كان المسعى والمكان، أزعجهم الشوق وتشوقت
نفوسهم أن تشرف على قوى أخرى هي أسمى من تلك وأنفع للبشر الذين هم إخوان
أجمعون فأفاضت عليهم القوة الغيبية ما أفاضت من العناية بهم وبإخوانهم بني
الإنسان وذلك هو اليوم الذي طفقت فيه مواهب النوع الكامنة تتألق في هذه الأرض
التي هي عرش سلطانه، ومجلى تجليات عرفانه. ولا تزال تلك المواهب تزداد
إشراقًا ما ازداد الناسجون على منوال أولئك النفر الكرام لهم منا التحيات الطيبات.
وهب أن فينا من لم يصل فهمه إلى ما أرشد أولئك إليه فلم يعرف له فائدة
عائدة لنفسه في هذه الحياة ولم يؤمن بنصيبه في الحياة الثانية التي يتم فيها المقصود
من الجوهر الإنساني القائم في هذه الصورة البشرية فهل يحسن به أن لا يفرق في
حياته هذه بين ما يجعله عن البهائم رفيعًا، وما يجعله لها رفيقًا؟
وها نحن أولاء ننبئكم عن هذه الرابطة بما تعلمون به أنها ترفع الإنسان على
الأنعام إلا قليلاً، ونريد أن نزيد في هذا المقام تبيانًا لتدرج اتصال الإنسان وانفصاله
ونجلو في هذا المعنى أقدم شؤونه فمن كان قد حدثه بمثله عقله فسوف يحدث له ذكر
أو مَن لم يكن قد حدثه من قبل فإنه ملاقيه مفيدًا. وتاليه لذيذًا.
كان الإنسان واحدًا أبدعه الموجود مثالاً لكمال الخلق في هذه الأرض. وخلق
فيه خاصة التفريع. أما تفرع أول فرع من ذلك الأصل الواحد فلم يزل عند العقل
من الأسرار الغامضة وهو يعد خاتمة الأدوار لتكون الإنسان على هذه الصورة
المحسوسة اليوم من توقف التفريع أو التوليد على زوجين يتولد من امتزاج خلاصة
من جسديهما فرع كأحدهما (أي: إما ملقح وهو الفحل أو متلقح وهي الأنثى) ،
وللتفريع أو التوليد في كل الكائنات الأرضية ناموس تكويني هو ناموس التلقيح
وهو اقتران أجزاء معلومة ببعضها ليتولد بينها وليد جديد.
وقد عرف الآن بما ارتقى إليه علم التحليل (الكيميا) أن كل أنواع المواليد
الثلاثة تابعة لهذا الناموس. ولذلك أصبح من المعروف كيفية تولد كل شيء إلا
الأجزاء المولدة. وما يدرينا ما يحدث من العلم بعد.
فتوليد الإنسان بتوقفه على العمل المدعو بالتلقيح لأجل امتزاج الأجزاء
المعلومة ليس ببدع ولا هو أغرب من توقف النباتات بل الجمادات على ذلك، بيد
أن هذه الخاصة التي للإنسان في التوليد يشاركه بنظيرها بعض أنواع الحيوان،
والبعض الآخر من أنواع الحيوان كالديدان مثلاً هو الذي جعل مجالاً لظن بعض من
الذين لم يخضعوا للكتب الموحاة بأن التفريع الأول من الأصل الأول الذي هو
الجماد قد وجدت منه فروع كثيرة متعددة وأن هذه الفروع في خلقتها - خاصة
التفريع - على هذا التلقيح المعروف.
أما نحن الملِّيين فلا نتبع أمثال هذه الظنون بل نتبع ما أنبأ به الوحي فنقول:
إن الأصل الأول هو الجماد. والأصل الثاني بشر سوي ذو حياة كحياتنا في
الاستعداد وهو واحد. والفرع الأول الذي اشتق من ذلك البشر السوي واحد. ثم
جعل الفاطر فيهما سوائق طبيعية لإجراء التلقيح. أولها سكون النفس في كل من
المتلاقحين واطمئنانها وانبساطها وتلذذها برؤية الآخر وغايتها انجذاب كل منهما
للآخر وتلاصقها، بحيث لو ساعدت الخلقة بأكثر من هذا الوجه لتضامت ذرات
أجزائهما تمام التضام فصارا جسمًا واحدًا. ولكن الفاطر قد جعل لهذه الكهربائية حدًّا
معلومًا. وسيسألك أهل الشرائع أن تبين لهم السبب في جواز تلقيح هذا الأصل الذي
كأنه والد، لذلك الفرع الذي كأنه ولد، ثم جواز تلقيح فروعهما بعضها لبعض مع
أنهم إخوة.
ولَبَيانُ السبب في حدوث الشرائع ثم حدوث الاختلاف فيها أنفع لهم لو كانوا
يتفكرون. وأول واجب أن يعرفوه لعلهم يعلمون بذلك هو أصلح الشرائع وأنفعها،
وأبقاها وأسماها. وسنتلوا عليهم من هذا الحديث لعلهم يشعرون؛ ليتذكروا أن الشرائع
إنما تفصل من أجل الاجتماع وأن التلقيح في ذلك اليوم لم يكن محتاجًا إلى شريعة،
وأن الذي تمنعه الشرائع ليس كله قبيحًا في ذاته وإنما يقبح لعلة من العلل. فلا
تعجلوا ولا تعجبوا من ذلك التلقيح الذي هو سبب تكثر هذا النوع. ولا تسألوا عنه
ولكن سلوا عن اختلاف هذه الفروع التي أصلها واحد. وإليكم هذا البيان الكاشف:
إنه لم يكن في تلك الأيام هذه البيوت المبنية للوقاية من الحر والبرد فيظهر
أنهم كانوا يلجؤون إلى الكهوف والمغارات ويتخذون الأوجار، إما حفرًا بأيديهم إن
كانت أظفارهم يومهم ذاك أقوى من الأظافر يومنا هذا. وإما غصبًا مما حفره
غيرهم من الحيوانات كدأب قبائل منهم أبقاهم الصانع على تلك السنة لتكون حالهم
ذكرى للذين ارتقوا وآية يعتبر بها عشاق الارتقاء.
ولكن أي المغارات تكفي لأن تستكن فيها تلك الفروع التي طفقت تزيد
وتتضاعف في كل عام ما شاء الخالق أن تتضاعف. فكأنهم لما تعددوا نشأ كل زوج
منهم يلتمس في الأرض مغارًا يكنه وأولاده فهذا التفرق في المقر هو أول تفرق
وتباعد حصل بين أولئك الإخوة وذراري الإخوة. وهو من الأسباب الأصول في
اختلاف البشر هذا الاختلاف العظيم.
ولما كان بين الإنسان وسائر الحيوان بون في الفطرة والاستعداد وخلقه بهذه
الصورة البشرية يضطره في جلب النافع وجبّ الضار إلى التعاون وهو يقتضي
اجتماع متعددين ولو قليلاً منهم أتم البارئ تكوين هذا المخلوق الحي على هذا الوجه
بأشياء جعلها من أعظم مميزاته التي تبلغه الغاية من الكمال الذي يقدر لمخلوق من
أعظمها:
(١) الاستعداد للصناعة و (٢) الفضل في قوة الإدراك و (٣) النطق
الذي يبين به مدركاته.
فبالنطق تخاطب على أن يتعاون. وبالاستعداد للصناعة بيّن كل منهم
لأصحابه ما يصنع مما يلزمهم على أن يكفوه مؤنة ما يلزم له. وبقوة الإدراك هُدي
للذي يصنعه بقدر ما هم فيه إذ ذاك من سذاجة الحياة وبقدر ما تضطرهم إليه
الحاجات من جلب وجب.
وههنا يحسن أن نذكر قاعدة وهي أن تفرق كل اثنين فأكثر يوجب حرمان
الجميع من فوائد ما في فطرة كل من المواهب. واجتماع كل اثنين فأكثر يوجب
اشتراك الجميع في الفوائد على السوية أو التفاضل.
فالخوف من حرمان الجميع من جميع المواهب التي لا تثمر إلا بالتبادل هو
الذي يوجب الاتصال والرضى بما قسم وإن قل. أما إباء البعض واستنكافهم عن
قبول القسمة المفضولة فهو الذي يوجب الافتراق. ونلخص هذا الكلام بقولنا:
(بدل الأصل سبب الوصل. وبدل الفضل سبب الفصل) .
هذه أسباب الاتصال والانفصال تتجلى مادية فلا ينكرها فكر سليم قط.
وهناك للاتصال أسباب روحية يصورها بعضهم في أشباح من الشعر كقولهم: إن في
الإنسان طبيعة الإنس بالجنس (أي: النوع) ولكنك إذا سألتهم عن سبب الافتراق
يحارون. وفي أمن من هذا رجل يقول: إن الذي أوجب الاجتماع من جنس الذي
أوجب الافتراق وأسباب الافتراق مادية بالاتفاق فتلك مثلها. وللافتراق أسباب
أخرى أهمها ارتياد الماء والكلأ والصيد وبعد هذا يبقى علينا بيان اختلاف ألسنته
وألوانه وتباعد قرابته. أما اختلاف الألسنة فله أسباب كثيرة:
(أولها) : الفرق الطفيف الموجود بين منطق كل شخص وآخر. فإن هذا
الفرق الطفيف يحدث بدوام التفرق فرقًا عظيمًا. ويقلد أولاد المنفصل بصنعهم ما
خالفه فيه قومه الأولين بغير صنعه كرجل انفصل عن قوم وهو ينطق التاء طاءً
وآخر يعكس، وآخر ينطق الذال ظاءً وآخر يعكس، وآخر يلفظ الهمزة عينًا وآخر
يعكس، وآخر يلفظ السين صادًا وآخر يعكس، وآخر ينطق الجيم شينًا وآخر
يعكس، وآخر لا ينطق بالقاف، وآخر لا ينطق بالراء، وآخر لا ينطق بالتاء، وآخر لا ينطق بالكاف وهكذا، فهذا أكبر باب تفرقت منه اللغات ونقصت به
حروف لغة عن أخرى وكل هذا الذي مثَّلنا به محسوس نسمعه في كل يوم.
(وثانيها) : رؤية كل مجتمعين في جهة من الأرض ما لم يروه من قبل
تفرقهم عن غيرهم من نبات وجماد وحيوان، فيحتاجون أن يعبروا عنه في تخاطبهم
باسم من الأسماء. وهذا باب كبير أيضًا.
(وثالثها) : تنويع الأساليب في البيان وهو الذي أحدث الكنايات والمجاز
والأسماء المشتقة في كل لغة. وبطول الزمن تهجر الكلمة الموضوعة بادئ بدء
ويقوم المجاز أو المشتق عند قوم مقامها ولا يفعل هذا الآخرون بل قد يفعلون بكلمة
أخرى ما لم يفعله بها الأولون وهكذا فيقع البون.
(ورابعها) : أنه قبل الاجتماعات العظيمة كانت لوازم الإنسان بسيطة قليلة
وعلى مقدارها كان الكلام بسيطًا قليلاً أيضًا وبعد أن تفرقوا حدث في كل طائفة منهم
من الكلام ما كان على مقدار اجتماعهم ولوازمهم وأخذهم من غيرهم ومبلغ ما حدث
عندهم من الصنائع والأعمال.
(وخامسها) : عدم وجود حوافظ تحفظ اللغات من الاصطلاحات المغيرات
للأوضاع، فلا يشعر كل قوم بما تغير عند الآخرين فتكون الفرقة.
وهذه الأسباب التي بيناها تعد أسبابًا في كل لغة لما يسمونه الترادف مثاله في
لغتنا: أعطى وآتى من قبيل الباب الأول والليث والأسد من قبيل الثاني والسيف
والحسام من قبيل الثالث والخياطة والدرز من قبيل الرابع والدعاء والنداء من قبيل
الخامس.
وعلى القارئ الذي وعى ما قررناه ومثلنا به أن يتعرف بتدقيقه فروع هذه
الأسباب وأن ينعم بفكره في هذه الأبواب فإنه قد يهتدي من التدقيق بالفروق التي
بين المترادفات في لغة أو الفروق التي بين لغة وأخرى في المفردات إلى ما تقر به
العين من المعرفة اللذيذة المفيدة.
وعليه من بعد أن عرف تأثير التفرق في الديار على الألسنة أن يعلم أن هذا
التفرق هو المؤثر على الألوان أيضًا. فإن فريقًا مكثوا فيما جاور خط الاستواء
فاسودَّت جلودهم وآخرين لبثوا منذ القديم على شطوط الأنهار لم ينتقلوا فاصفرت
ألوانهم وشوهت خلقتهم وآخرين تنقلوا في البلاد ثم توسطوا المعمورة فابيضت
ألوانهم واعتدلت خلقتهم وصح تقويمهم وذكت عقولهم هكذا قيل من قبل وهو يشعر
بأن كل فريق من هؤلاء أولو قربى فيما بينهم. وما يجدينا هذا إن كنا لا
نعرف ما دون ذلك من القرابات والأنساب. ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز.)
((يتبع بمقال تالٍ))