للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نظام الحب والبغض
تابع ويتبع

قد سمعنا أقوال الناس في أنساب الشعوب، ولكل أمة أساطير تحكيها في
أصلها ونسبها وتنتحل لها من الفضل والتميُّز ما تنتحل. وكل الذي زعموه خيال لا
يصح و (كذب النسابون) .
أما هؤلاء البحاثة النسَّابة من الأوربيين وهم أمثل النسابين في هذا العهد
لإنعامهم في التدقيق وإمعانهم في التحقيق فإنهم يذهبون إلى أن القرابة القريبة إنما
تعرف بتقارب اللغات. وقد يصح هذا لو كان لنا ثقة بأن الأقوام المتباعدة لم يطرأ
على ألسنتهم تغييرات توجب فيها قربًا من ألسنة البعداء وبعدًا من ألسنة القرباء
ولكن أنى لنا تلكم الثقة؟
وههنا نكتة كنا نود أن يسلم منها هؤلاء المحققون وهي نسبة العترة المتولدة
من والدين مختلفي القبائل إلى قبيلة الأب من دون الأم. فما الداعي أن نقول: فلان
ابن فلان حتى نوصله إلى أصل قبيلة ذي الصلب المشكوك ولا نقول:
فلان ابن فلانة حتى نوصله إلى قبيلة ذات الرحم المتيقن؟ ولكن سرى
لهؤلاء التقليد أيضًا وخلطوا ما قبل التاريخ بما بعد التاريخ؛ إذ قالوا: أصول البشر:
(١) الساميون (٢) والإريانيون و (٣) التورانيون ثم ألحقوا كل جيل من
الشعوب الحاضرة بأصل من هذه الأصول.
وإن نتبع الظن كما اتبعه غيرنا فإني لا أرى من قرابة للأجيال قريبة إلا
باعتبار تقارب المقرّات التي تفرق فيها البشر وهذا الرأي يعرفنا بقربى شعوب
الأرض من بعضهم فيما قبل تعريفًا يوصلنا إلى ما بعد. ويعطينا قاعدة نعتقد فيها
بقرابات الشعوب الحاضرة اعتقادًا جديدًا غير اعتقاد أولئك النسابين ومقلديهم. وهي
أن العبرة بآخر دور من المزيج وهذا يتحقق بتقارب المقر لا بتقارب اللغة،
فكم نعلم من فئة هاجرت من ديارها وحلت في ديار أخرى وتغذت من مواليدها
وتزوجوا بنسائها، ثم تغذت أولادهم من مواليدها وتزوجوا بنسائها فلم يلبثوا بطونًا
قليلة حتى صارت أعقابهم بعضًا من الذين هاجروا إليهم في اللون وتركيب البنى.
فأي الفريقين أقرب إلى هؤلاء؟ آلذين هاجروا عنهم لتقارب لغاتهم، أم الذين
هاجروا إليهم لامتزاجهم بها وتقارب أبدانهم واشتراكها في التركب من مواليد أرض
واحدة؟ ولِمَ لا ننسب أولاد المهاجرين المتولدين من بنات المهاجر إليهم إلى قبيلة
أمهاتهم؟
هذا إن حافظوا على أصل لغتهم أو أبقوا القرابة بينها وبين تلك، وقد يكون
هذا إن كان المهاجرون كثيرين كالعرب الذين هاجروا - قبل الإسلام - من الجنوب
إلى الشمال وكالأوربيين الذين هاجروا - قبل التمدن - من الشمال إلى الجنوب.
وأما إذا لم يحافظوا على اللسان - وهو كثير - فهل تجدون لهم قريبًا غير مَن
هاجروا إليهم ثم امتزجوا بهم؟
على أنه ما من أمة اختلطت بغيرها وأخذت منها إلا وتعطيها كما أخذت؛ فإن
أمة هاجرت وأخذت من المهاجر إليهم ألفاظًا وبيانات، حتى خالفت من هاجرت
عنهم بعض المخالفة فإنها تعطيهم ألفاظًا وبيانات من عندها حتى يوافق من هاجروا
إليهم لمن هاجروا عنهم بعض الموافقة، ثم قد تحدث أسباب تجعل هذا القليل من
المخالفة أو الموافقة كثيرًا.
وإنما التزمنا التعرض لهذا المبحث؛ لأن كلامنا في هذا الباب استدعى بيان ما
هو الأقدم من أحوال البشر؛ لتفيدنا معرفة تقلبه في الأطوار والأدوار معرفة ما هو
الأنسب الراجح من سننه، فإن الأنسب البقاء وبمثله يكون الارتقاء والمرجوح منه
ما باد، ومنه ما سيبيد بهمة المتفكرين.
وبالذي حررناه ينجلي لكم أن رابطة القومية قد أسسها قصد التعاون من بعد
تفرق الأزواج في كل مغار، فهو الذي جمع أبناءً من أزواج متعددين على رابطة
معناها قانون يحكم فيه بتكافل القرباء وتوحيد مصالحهم التي هي بالنسبة إلى غيرهم.
وقد رضخ البشر لهذا القانون الصناعي المادي حتى ظنه الظانون طبيعيًّا
روحيًّا فيئسوا من معالجة المرضى بالتعصبات التي لم تأذن بها الإنسانية (هي
المعنى المخلوق لأجله الإنسان) ويدلنا على كونه غير طبيعي كثرة ما يدعو
اختلاف المصالح بين القرباء إلى تبعيدهم وتقريب البعداء. وكم علمنا من حوادث
جرت على هذه السنن. وليس بعيدًا عهد المستعينين بالمماليك وهم أبعد البعداء على
سراة أمتهم وخواص أسرتهم وهم أقرب القرباء، وسواء كان المستعينون بالغريب
على القريب مدافعين أو مهاجمين فكلتا الحالتين تهدياننا إلى وقوع تعاد بين القرباء
يوقع الفرقة والتِّرَة، وحدوث تعاون بين البعداء يحدث الصلة والفرة. وهذا يهدينا
إلى أن الأصل صناعي لا طبيعي.
ولعل الذين يرون رسوخ ذلك الرضوخ لذلك القانون (رابطة القومية) طبيعيًّا،
إنما يبنون ظنهم على أن قرابة الأبدان توجب قرابة الأفكار والقلوب. وهو ظن
ليس ببعيد؛ بل يتبادر إلى ذهن كل امرئ، بيد أن إنعام النظر يهدي إلى أن الحس
يخطئ هذا الظن؛ وذلك أننا نجد أخص قرابة وهي قرابة الأولاد من الوالدين لا
توجب قرابة الأفكار والقلوب إلا إذا كانت أفكار الأولاد مأسورة بيد الوالدين أو
أحدهما وهو الأكثر.
والبداهة تشهد أن هذه القرابة الفكرية على هذا الوجه صناعية أيضًا. ومن
المشاهَد أن الذين خلصوا من هذا الأسر قد بعدوا بأفكارهم عن أفكار والديهم بعدًا
شاسعًا. ومن العجب أن هؤلاء الخالصين من ذلك الأسر على قلتهم وانفرادهم في
أممهم كانوا هم المغيرين لعادات البشر وأخلاقهم. والتغيرات التي حدثت في النوع
هي الدرجات التي تنقل فيها حتى بلغ هذا اليوم وشعوبه وأجياله متفاوتة هذا التفاوت.
بل نحن نجهر بما أخفى من هذا وهو أن البشر قبل أن يرتقوا (أي: قبل أن
تحدث لهم روابط أخرى غير رابطة القومية) لم تكن رحمتهم لأولادهم طبيعية لعلة
أنهم أجزاء منهم، وأقرب الأغيار إليهم، وأمانة عظمى في أيديهم، بل كانت
رحمتهم طبيعية لعلة أنها لازمة من اللوازم العامة فلم يكُ من فرق بينها وبين تلك
الرحمة الموجودة عند الحيوان مادام مولوده صغيرًا محتاجًا للرحمة.
وتظهر الثمرة من اختلاف العلتين في نقصها متى كبر أو فقدانها إلا أن تنقلب
إلى معنى آخر فيكون الحكم لذلك المعنى لا لها.
وذلك المعنى قد يكون الأمل بأن يكون عونهما يوم يكونان ضعيفين ويكون
قويًّا وقد يكون حنين النفس إلى ما ألفته بواسطة التربية. ومألوف النفس مرحوم
عندها ومحبوب ومولوه به. وقد تألف النفس جمادًا أو نباتًا أو حيوانًا فيكون لديها
أعز من الولد. ولا سيما إذا شارك الألفة شيء من التربية؛ لأن من جملة حب
الذات حب صنعتها وإلا لما صنعت والتربية من الصنعة؛ بل هي أم الصنائع لأن
في معناها التزييد وهو روح الصنع.
فالأمل هو الذي يجعل الأبناء أعز وأحب من البنات؛ بل فقده هو الذي كان
يجعل البنات حملاً ثقيلاً يجب الإسراع بطرحه كمثل أولئك الذين كانوا يئدونهن فلو
كانت رحمتهم للأولاد لتلك العلة المظنونة (علة كونهم أجزاء من الوالدين وأمانة
كبيرة عندهما) لما كان هذا الفرق. ولما كان فرق أيضًا بين أولاد الأبناء وأولاد
البنات وإنك لتراهم يفرقون. قال قائل منهم:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
والأمل هو الذي يكثر الحب والرحمة للأولاد إذا قلوا ولا سيّما إذا كان الوليد
وحيدًا ويقلله إذا كثروا. والتربية هي التي تجعل الصغير أعز من الكبير غالبًا
عند الأمهات. والذكر أعز من الأنثى لدى الآباء. والتربية هي التي تجعل
المربى البعيد من الإنسان في حكم الولد. كمثل ولد حملت به زوجته من غيره ثم
وضعته على فراشه وربياه في خبائهما؛ بل كولد التقطاه ليكون لهما في حكم الولد.
وتجعل غير المربى القريب من الإنسان في حكم البعيد كولد حملت به منه غير
زوجته ووضعته على غير فراشه، وولد حملت به ولما وضعته رمته ليلتقطه
الأبعدون أو لتأكله الكلاب والذئاب.
هذا، وما نحن في هذه البيانات بواترين حق تلك الصناعة التي كشفنا
أسرارها من أول نشأتها. ولكننا مهدنا تقلبها لنشير إلى بطلان أكثر التعصبات
المبنية عليها عند الذين تزكت نفوسهم وصحت أخلاقهم. فإنه لا معنى لدى أهل هذا
العلم (علم النفس وما يصلحها - علم الأخلاق) لتعصب كل قوم على آخرين بغير
الحق إلا الإثم والعدوان، والبغي والطغيان. وساء ذلك من تعاون. وما هو إلا
التغابن لو كانوا يفقهون.
وقد اغترّ بها الإنسان. يوم عداه العرفان. من أجل هذا كتب عليه الأثقلان.
الجهاد والعدوان. وغلب عليه المهلكان. الاستبداد والكفران. وبئس ذلكم الشان.
وأقبح من تلك التعصبات الباطلة الفخر بالأنساب وتخيل الشرف والمجد
بالتولد من ذاك الوالد وذاك الجد. وإن تلك لأوهام باطلة، لا تروج إلا على العقول
العاطلة، ولا يتعلق بها إلا كل ختال ختار. فقُوا أنفسكم من هذا العار - أن تكونوا
لها فاعلين، أو تكونوا بها مؤمنين.
هذا ما توصيكم به الفضيلة وهي التي تزكي حقائقكم وتهب كل نفس قوتها
وسعادتها. أما ما توصيكم به السياسة وهي التي تزكي أسماء جماعاتكم. وتهب كل
جماعة حظها من التميز على أختها فإنها توصيكم أن لا تنسوا حظكم من تلك
الرابطة، وإن استعنتم بالأوهام، وتوصيكم أن لا تجمدوا عليها لئلا تبقوا كالأنعام؛
كما بقي أهل المغارات وإخوانهم من في الخيام، فكونوا من إخوان الفضيلة أو
إخوان السياسة إنكم مخيّرون. وتفكروا ينفعكم التفكر ولعلكم ترشدون. ولا تقلدوا
إن المقلدين إخوان الهون. ومن ظن أن حكم الأمم بهذه الرابطة فأعلموه أنهم
بالسياسة حاكمون. وفي الآتي نفصله للذين يقرؤون.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز.)
((يتبع بمقال تالٍ))