للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مسألة ذبائح أهل الكتاب
تأييد الفتوى بالإجماع

واقعة الفتوى أن النصارى في قطر من الأقطار (هو الترنسفال) يضربون
البقر قبل ذبحه بآلة محددة تسمى البَلْطَة ثم يذبحونه ذبحًا، وأنهم في زعم السائل لا
يسمون الله على ذبائحهم.
(تحرير الجواب)
وتحرير الجواب من حيث صحة الذبح أن ضرب الحيوان قبل ذبحه بمحدد أو
غير محدد لا ينافي كون ذبحه بعد ذلك من التذكية التي يحل بها أكله فهو حلال
بإجماع المسلمين من السلف والخلف، والمتبادر من تصريح السائل بذبح البقر هو
أنهم يذبحونه وفيه حياة، إذ الميت لا يذبح. والمتبادر أن هذه الحياة هي التي يسميها
بعض الفقهاء من الخلف الحياة المستقرة التي من علامتها انفجار الدم والحركة
العنيفة، إذ لو ذكي الحيوان وليس فيه إلا الرمق لما اعتد العامي (كالمستفتي في
الواقعة) بذبحه؛ بل لما سمّاه ذبحًا فالحياة هي الأصل، ولم يرد في السؤال مما
يدل على زوالها أو بقاء الرمق فيها فقط فيقال: إنها حلال على رأي الجمهور والأكثر
كما قال المفسرون (ونقلنا ذلك عنهم في الجزء الماضي) لا بالإجماع كما تدعي.
وما قلناه من أن إطلاق السؤال أنهم يذبحون بعد الضرب يقتضي أن يكون
المذبوح حلالاً بالإجماع نعرضه على علماء الإسلام في مصر وفي سائر الأقطار،
ونقول: إنه لا يمكن لأحد منهم رده. ومن يزعم أن أئمة المسلمين اختلفوا في حل
الحيوان يذبح بعد ضرب بأي شيء فليكتب إلينا بالبيان لننشر قوله ونحن على يقين
من أن كل عالم إسلامي يعلم أنه لا خلاف في ذلك وإنما الخلاف فيما إذا ثبت أن
الحيوان ذبح بعد عروض سبب يحال عليه الهلاك وليس فيه حياة مستقرة فقال
بعض الفقهاء: لا يحل. وقال أكثرهم: إنه يحل. وتقدم في الجزء الماضي قول
المفسرين في ذلك.
وعلامة الحياة المستقرة انفجار الدم والحركة العنيفة كما قاله فقهاء
الشافعية وقد علمت مما نقلنا عن الصحابة وغيرهم في الجزء الماضي أنه يكفي في
الموقوذة ونحوها علامة تدل على الرمق من الحياة كحركة الجفن أو الذنب وأنه
المتبادر من قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (المائدة: ٣) .
وأما مسألة التسمية في الواقعة فنقول: إنه لا سبيل إلى الحكم على أهل قطر
من الأقطار بأنهم لا يذكرون الله على ذبائحهم إلا إذا كان دينهم يمنعهم من ذلك.
والمسؤول عنهم في واقعة الفتوى ليسوا كذلك؛ لأنهم نصارى ولو أحل الله ذبائحهم
وهم كذلك لما كان للاختلاف في اشتراط تسميتهم وعدمها وجه من الوجوه. وقد
نصوا على أن ذبيحة الكتابي لم يعلم أذكر اسم الله عليها أم غيره أم لم يذكر شيئًا هي
حلال بالإجماع وذلك هو الواقع في مسألتنا؛ إذ العلم بعدم ذكر اسم الله على كل ذبيحة
في قطر الترنسفال أو في أي بلد من البلاد متعذر، وإنما يتيسر العلم بذلك في
ذبيحة معينة وليس هو واقعة الفتوى. فالمسؤول عنه هو في الواقع ونفس الأمر من
المجهول وهو حلال بالإجماع. وإننا نعرض هذا أيضًا على علماء الإسلام في
مصر وفي سائر الأقطار الإسلامية، ونقول: إنه لا يمكن رده ولا نقضه ومن زعم
خلاف ذلك فعليه بالبيان. وممن صرح بالإجماع في المسألة الطبري وابن كثير
كما تقدم في الجزء الماضي.
وأما محل الخلاف في مسألة التسمية من الكتابي وعدمها فهو إذا علم المسلم
في ذبيحة معينة أن الكتابي لم يذكر اسم الله عليها أو ذكر اسم غيره وقد رأيت النقل
من الجزء الماضي عن المفسرين في أن ممن قال بالحل من الصحابة (رضي الله
عنهم) أبا الدرداء وعبادة بن الصامت وابن عباس ومن التابعين الزهري وربيعة
(شيخ الإمام مالك) والشعبي ومكحول وعطاء، وأن الشعبي وعطاء سُئلا عن
اليهودي يذكر اسم عُزير والنصراني يذكر اسم المسيح فقالا: إن الله قد أحل
ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون: ورأيت أن عليًّا وابن عمر وعائشة القائلين بالمنع
إنما قالوا: إذا سمعت الكتابي يذكر اسم غير الله فلا تأكل، وهذه العبارة على
كونها تشترط السماع ليست نصًّا في التحريم؛ إذ يحتمل أن يكون النهي للتنزيه.
وإذا سلمنا أنه للتحريم فلنا أن نقول: إن المسلم في الترنسفال يسهل عليه أن
يأكل من اللحم الذي يجده في السوق لانتفاء الشرط وله أن يتورع في الذبيحة التي
يسمع النصراني يذكر عليها اسم غير الله فلا يأكل منها ليوافق الإجماع في الحالين،
ولا تنسَ أن السائل لم يقل: إنهم يذكرون اسم غير الله، فعلمنا من هذا أن الفتوى في
واقعتها ليست مؤيدة برأي القاضي أبي بكر بن العربي؛ بل هي مؤيدة بالإجماع ومن
الجهل العام أن يستطيع رجل جاهل بالشرع - معروف بسوء القصد - تشكيك
بعض الناس في حلها.
فإن قيل: لماذا استدل المفتي بقول القاضي أبي بكر بن العربي من أئمة
المالكية ولم يستدل بالإجماع إذا كانت المسألة إجماعية كما قلت؟ والجواب أن
المفتي لم يكن في جوابه في مقام المناظرة والاحتجاج؛ وإنما سئل عن حكم الله
فاستدل بكتاب الله لا بقول ابن العربي وبعد الاستدلال بالنص، قال: وأرى أن يعولوا
على ما قاله فلان في تفسير الآية. والغرض من ذلك الإرشاد إلى الأخذ بالاحتياط في
شبه مسألة اختلف فيها الصحابة (رضي الله عنهم) وهي ذبيحة نصارى بني تغلب
قال علي كرم الله وجهه: لا تحل لأنهم لم يأخذوا من النصرانية إلا شرب الخمر.
وقال غيره: منهم تحل لأنهم انتموا إلى النصرانية ولا يجب علينا البحث عن
أعمالهم. فأراد المفتي أن يأخذ أهل الترنسفال بالاحتياط فلا يأكلوا إلا من الذبيحة التي
يأكل منها القسيسون مع العامة، وإلى أن الدين يسر يبيح أكثر مما في واقعة السؤال،
ولم يكن قول ابن العربي هو العمدة له في الاستدلال. وما ذكرناه في مقالة الجزء
الماضي يتضمن كل ما لخصناه هنا ولكن الكلام هناك متشعب والنتائج فيه
ممزوجة بالمقدمات والدلائل والنقول فاختصرناه هنا؛ ليعقله كل قارئ. والمراد
بالإجماع بشرطه إجماع أهل السنة المحلين لذبائح أهل الكتاب دون الشيعة.
تهافت المرجف في الفتوى
ما قام أحد بدعوة إلا ووجد من لبّى دعوته حتى الذين ادعوا الألوهية من دون
الله وشبيه الشكل منجذب إليه. وقد بدأ بالإرجاف في الفتوى رجل من محرري
الجرائد الساقطة عرف بالطعن في المفتي من عدة سنين حتى زعم أنه ينكر الله أو
توحيده وحوكم في ذلك وفي مثله وحكم عليه غير مرة وسجن. ولما دفع أو اندفع
صاحب الجريدة المحدثة إلى الإرجاف استخدمه فصار يكتب له باسمه وينقل بعض
ما يكتبه له في جريدته التي صرح فيها بأنه المحرر لها فصارا اثنين في (الظاهر)
ولكنهما واحد في الحقيقة. ثم علمنا أن صاحب (الحمارة) الذي حوكم قبل الآن
في طعنه بالمفتي وسجن وحدث السياسة المشهور بالطعن في المفتي أيضًا قد انضما
إليه أو إليهما فحدث السياسة رابعهم. فهؤلاء حماة الإسلام اليوم الذين يتبجحون
بنصره والمدافعة عنه بتحريم ذبائح أهل الترانسفال وهي حلال بإجماع أهل السنة
والجماعة كما تقدم بل الحقيقة أن المعترض هو الأول وحده والآخران يصدقانه فقط.
أما مَنْفَذ الإرجاف فقد كان في أول الأمر تسمية ذبائحهم موقوذة وقد أكثر اللغو
في ذلك. ولما نشرت الجرائد المنتشرة المقالات المبينة أن حقيقة الموقوذة هي ما
ضربت بغير محدد حتى ماتت قبل أن تذبح وفيها حياة خرق له منفذًا ثانيًا وهو أن
أحبار اليهود وقسوس النصارى لا يعتدون بذبيحة أهل الترنسفال. وقد أخذ بخناقه
هذا المنفذ فخلط فيه أشد مما خلط في الأول؛ إذ كان ينقل من العبارة فيهما بعضها
على حد: (لا تقربوا الصلاة) يقتصر عليها من يريد تحريم الصلاة. وإذا صح
أن قسوس النصارى لا يعتدون بتلك الذبيحة ولا يجيزون أكلها فالفتوى صريحة في
تحريمها؛ إذ فيها اشتراط أن يأكل منها قسيسهم وعامتهم ويتفقون على أنها حلال في
دينهم. فانظر كيف يناقض المرجف نفسه فيؤيد الفتوى من حيث لا يفهم، ثم يفندها
من حيث لا يعلم.
ثم خرق له منفذًا ثالثًا وهو الطعن بابن العربي؛ لأن المفتي ذكره في فتواه وأيد
رأيه في الأخذ بالآية الشريفة مع اعتبار ذلك الشرط المذكور آنفًا. أما طريق هذا
الطعن فهو أن بعض الفقهاء بحث في فتوى لابن العربي بحل ما يختقه الكتابي وقد
تهافت قول المرجف وتناقض في هذا أيضًا ونقل في هذا أيضًا ونقل عن المالكية ما
يصرح بأن فتوى القاضي ابن العربي صحيحة على خلاف فيها وأن وجه النقد
عليها من جهة العبارة فقط وهو أنه أطلق القول ولم يقيده بأن يكون فتل عنق
الدجاجة المسؤول عنه بقصد التذكية؛ أي: الإماتة لأجل الأكل فقد جاء في نقله عن
المالكية بعد نقل ما قاله ابن العربي ما نصه:
ظاهر كلام ابن العربي التعارض ولكن جمع بينهما ابن عرفة ونصه:
وقول: ابن عبد السلام: أجاز ابن العربي أكل ما قتله الكتابي ولو رأيناه يقتل
الشاة؛ لأنه من طعامهم، يرد بأن ظاهره نوى بذلك الذكاة أولاً وليس كذلك فنقل
جميع ما تقدم عنه مختصرًا وقال ما نصه: قلت: فحاصله أن ما يرونه مذكى عندهم
يحل لنا أكله وإن لم تكن ذكاته عندنا ذكاة.اهـ) اهـ من جريدتي المرجف.
وما قاله ابن عرفة وهو من أكبر فقهائهم موافق لما قلناه في الجزء الماضي
من أن مجموع الأحاديث يدل على أن الذكاة هي ما كان إزهاق الروح فيه بقصد
الأكل لا مطلق التعذيب والإعدام. وظاهر أن مسألة فتوى ابن العربي لم يكن
ينقصها إلا النص على أن قتل عنق الدجاجة يعد ذكاة إذا أرادوا به ذلك وكأنه لم
يذكره لدلالة القرينة عليه.
ثم ذكر قولاً آخر عن (المعيار) في المسألة وأنه أيد فتوى ابن العربي أيضًا
وقولاً آخر عن الزياتي وأنه سلمه فعلم أن المسألة مسلمة عند فقهاء هذا المذهب.
وإنما أورد المرجف هذه النقول وهي حجة عليه؛ لأنه وجد أن بعض
المتأخرين قال: إن في هذا الكلام نظرًا من وجوه. وقد تصفحنا تلك الوجوه فرأيناها
غير وجيهة، فإنه في أولها يستشكل تصديق أحبار أهل الكتاب ورهبانهم في أن هذا
حلال عندهم ويستدل على ذلك بأن القرآن شهد عليهم بالتحريف والتبديل وثبت أنهم
كذبوا بحضرة النبي (صلى الله عليه وسلم) وأنه عليه الصلاة والسلام قال: (لا
تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم) ، وهذا الوجه
حجة على ذلك المتأخر فإن الله تعالى قد أطلق القول بحل طعامهم وهو عالم بذلك
منهم وأخبر به نبيه والمؤمنين.
فدل ذلك على أنه لا يطلب منا؛ بل يحرم علينا أن نعتمد على ما في كتبهم
المحرَّفة وعلى أقوالهم فيها، وإنما يحل لنا أكل طعامهم من غير بحث عن حكمه
عندهم وإنما طعامهم ما يأكلون إلا ما حرم لذاته كلحم الخنزير. وقصارى هذا
أن فقهاء المالكية كابن العربي أخطؤوا في اشتراط كون طعامهم مما يأكل منه رجال
الدين عندهم. وهذا صحيح ولذلك قلنا في الجزء الماضي: إن ما قاله ابن العربي
وعوّل عليه المفتي هو من باب الورع والظاهر ما عليه أكثر الصحابة من حل
طعامهم مطلقًا وإن لم يتمسكوا بشيء من كتبهم وأحكام دينهم كبني تغلب من متنصرة
العرب.
والوجه الثاني: البحث في التفرقة بين لحم الخنزير وما يقتلونه بالعقر
كالضرب بالشاقور. ونقول: إن الفرق قد تقدم في الجزء الماضي نقلاً عن كتاب
(صفوة الاعتبار) ، وباقي الوجوه مناقشات في العبارات على أن مقتضى هذه
الأبحاث أن لا يحل من طعام أهل الكتاب شيء إلا ما علمنا أنهم جروا فيه على
أحكام الشريعة الإسلامية وما هم بفاعلين فيكون قصارى قول الباحث أن الآية لا
معنى لها، ولم تفد حكمًا جديدًا وهو ظاهر البطلان. وإذا اعتبرنا كلام هذا المتأخر
فأكثر ما فيه أن تكون مسألة أكل ما يخنقه أو يعقره الكتابي مختلفًا فيه عند المالكية.
ويجب أن يكون من أعظم المرجحات ما كان أبعد عن الحرج المنفي بنص القرآن
وهو قول القائلين بالحِل. ولا يخفى أن هذا الخلاف ليس في موضوع فتوى مفتي
الديار المصرية؛ لأن موضوع الفتوى في حيوان يذبح بعد ضرب وهو حلال
بإجماع أهل السنة والجماعة كما تقدم. وإنما يورد المرجف ذلك في الرد على
الفتوى لإيهام العامة الذين لا يعقلون.
الفقه في تحريم الميتة
وما أُهلَّ به لغير الله
قد علم مما بيناه في الجزء الماضي من أنواع التذكية الشرعية أن الضابط
العام الذي يجمعها كلها: هو أن يكون إزهاق روح الحيوان بقصد أكله. ويشترط في
ذلك شرط ديني واحد وهو أن لا يكون فسقًا أُهل لغير الله به من مسلم أو وثني
مشرك بالله كالذي كانوا يذبحونه على النصب وهي حجارة تنصب ويذبح عليها
للأصنام، وقد نهى بعض الصحابة عن أكل ما أهل به الكتابي لغير الله وتقدم البحث
فيه في مسألة التسمية وأن الجمهور على خلافه وذكرنا في الجزء الماضي ما يؤيد
رأي الجمهور من كون آيات تحريم الإهلال لغير الله مكية ... إلخ، وتقدم أيضًا أن
ما أُهل به لغير الله هو أشد المحرم تحريمًا؛ لأن علته دينية تتعلق بجوهر التوحيد.
ومن عجائب جهل عامة المسلمين بالدين في هذا الزمن أن صار فيهم قوم
يهلون لغير الله من الشيوخ الميتين المعتقدين ولا تكاد تجد لذلك منكِرًا. بل يذكر
عن العامة أن بعض علماء الوقت يأكل من البهيمة (السائبة) للسيد البدوي عندما
تذبح على اسمه في مولده وإن ذكر اسمه عند الذبح وكأن هؤلاء المشايخ يكتفون في
التأويل بأن الذبيحة تحل؛ لأن مريق الدم منسوب إلى الإسلام ويذكر اسم الله، وإن
كانت سُيبت أولاً وسيقت آخرًا لأجل التقرب إلى السيد البدوي ويقصد بها إرضاؤه
والتماس الخير منه لذاته بدون ملاحظة شيء آخر، كما عليه البعض أو لأنه
واسطة عند الله يفعل الله لأجله ما يريد هو أو يريد المتقرب إليه عند قبره أو في
بلده.
ولكن من يتدبر القرآن ويتفقه في الدين يعلم أن تحريم ما أهل لغير الله به على
المسلمين حكمته أن لا يقعوا في مثل ذلك الذي كان عليه المشركون الذين كانوا
يعتذرون بما حكاه الله عنهم بقوله: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: ٣) ، وإذا لم نصدق أن
بعض المنتسبين للعلم يأكلون مما يذبحه بعض الناس للسيد وغيره، فإننا نعلم أن هذا
المنكر فاشٍ ولا ينكرونه على العامة ولو أنكره علماء الأزهر والجامع الأحمدي لما
استمر الناس عليه؛ بل لو أن الجرائد اليومية ساعدت (المنار) ورددت قوله في
إنكار مفاسد الموالد لزالت كلها أو بعضها ولكن الأهواء السياسية والشخصية لم تهب
على هذه الذات أنواط ولكنها هبت على الشجرة الطيبة التي يستظل بها الأستاذ الإمام
تريد أن تزعزعها أو تقلعها ولكنها شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء فلا تقوى
عليها هذه الأهواء.
بقي من بحث الفقه في التذكية وتحريم الميتة مسألة لم نذكرها في الجزء
الماضي؛ لأن المقال فيه كان قد طال وهي: ما هو الفقه في تحريم ما مات حتف
أنفه وهو المتبادر من لفظ الميتة عند الإطلاق وما هو في معناه كالمنخنقة والموقوذة
والمتردية والنطيحة وما أكل السبع منها إذا لم تذكَّ؛ أي: يجهز عليها بقصد الأكل؟
وما هو الفرق بين الصيد يأتي به الكلب المعلم ميتًا فيكون حلالاً وبين ما أكل السبع
منه فمات ولم تدرك ذكاته وما ضرب الإنسان بعصا أو حجر فمات كذلك ولم يذكَّ
بالقصد؟ وما الحكمة في جعل القصد محللاً؟
والجواب عن ذلك فيما يظهر لنا بعد اعتبار تعظيم شأن القصد في الأمور كلها؛
ليكون الإنسان معتمدًا على كسبه وسعيه وهو الحكمة الأولى في ذلك - هو أن الميت
حتف أنفه يغلب أن يكون قد مات لمرض أو أكل نبات سام، وبذلك يكون لحمه
ضارًّا كلحم الخنزير فإن هذا قد حرم لضرره (راجع الجزء الثامن) فهذه حكمة
ثانية.
وثم حكمة ثالثة غير اعتبار القصد وخوف الضرر وهي أن الطباع السليمة
تستقذر الميت حتف أنفه ولا تعده من الطيبات والدين يربي الإنسان على شرف
النفس ولذلك أحل الطيبات وحرم عليه الخبائث. وأما ما هو في معنى الميتة حتف
أنفها من المخنقة والموقوذة ... إلخ، فيظهر في علة تحريمه كل ما ذكر إلا حكمة
توقع الضرر في الجسم، فيظهر فيه بدلها تنفير الناس عن تعريض البهيمة إلى
الموت بإحدى هذه الميتات القبيحة في حال من الأحوال وأن يعرفوا أن الشرع يأمر
بالمحافظة على حياة الحيوان وينهى عن تعذيبه أو تعريضه للتعذيب ويعاقب من
يتهاون في ذلك بتحريم أكل الحيوان عليه إذا تهاون في حفظ حياته، فإن الرعاة
يغضبون أحيانًا على بعض البهائم، فيقتلونه بالضرب ويحرشون بين البهائم،
فيغرون الكبشين بالتناطح حتى يهلكا أو يكادا، وممن كان يرعى أنعام غيره بالأجرة
يقع له مثل هذا أكثر، ولو كان أكل ما هلك بتلك الميتات حلالاً لما بعد أن يتعمد
الرعاة وأمثالهم من التحوت تعريض البهائم لها ليأكلوها بعذر. ويدل على هذه
الحكمة أحاديث صحيحة منها قوله (صلى الله عليه وسلم) - بعد النهي عن الخذف
وهو الرمي بالحصا والبندق (الطين المشوي لذلك) -: (إنها لا تصيد صيدًا ولا
تنكأ عدوًّا ولكنها تكسر السن وتفقأ العين) رواه أحمد والبخاري ومسلم، هذا ما
ظهر لنا، ومَن آتاه الله حكمة وراء ذلك فليتفضل علينا ببيانها.
ذكرنا هذا البحث في فقه الشريعة وحكمتها؛ لأن أحكام المعاملات والعادات
هي معقولة المعنى كلها مبنية على قاعدة دفع المضرات وجلب المنافع وأما قول
بعض العلماء: إن أحكام الدين على قسمين: قسم تعبدي نؤديه امتثالاً لأمر الله تعالى
وإن لم نعقل وجه فائدته ومنفعته وقسم معقول المعنى نمتثل فيه الأمر من حيث
نطلب به المنفعة المقصودة منه فلا شك أن التعبدي منهما لا يظهر له وجه إلا في
أحكام العبادات التي يتقرب بها إلى الله على حسب ما وضع وشرع. ومن عجيب
أمر علماء الرسوم وأهل الرأي أنهم حكموا قياسهم ورأيهم في مسائل العبادة المحضة
حتى زادت على المنصوص أضعافًا كثيرة وجمدوا على بعض أحكام العادات ولم
يبحثوا عن عللها وحكمها بل منعوا أو كادوا يمنعون القياس فيها، فتدبر.
تأييد علماء العصر والجرائد للفتوى
لما قام المرجف يلغط في الجريدة المحدثة بالانتقاد على الفتوى نفر طائفة من
أهل العلم إلى الرد عليه في الجرائد فنشروا مقالات كثيرة أيدوا بها الفتوى
بالنصوص القاطعة، والأدلة الساطعة. ومن هذه الجرائد الأهرام والمقطم والوطن
اليومية. وأما الأسبوعية الإسلامية التي كتبت فلم نحصها ولكن أشهرها (جريدة
التمدن) التي يحرر مباحثها الدينية بعض الأزهريين والنيل والممتاز والرائد
العثماني.
وقد نشر كاتب أديب في المقطم مقالة (عتاب صديق) للعلماء ولبعض الجرائد
اليومية الإسلامية لعدم الكتابة في الموضوع فأحسن كل ما كتب إلا تعظيم شأن الخلاف
وتكبير المسألة، وهي صغيرة ولم يخالف فيها إلا المرجف ومستأجره وأيده الحدث
وصاحب الحمارة؛ ولذلك أجابه أحد العلماء المدرسين المؤلفين بجواب وجيز نشر في
(عدد ٤٤٩٩) من المقطم وقد جاء فيه ما نصه:
(ولعمر الحق إنما دعاهم (أي: العلماء) إلى السكوت عنها وضوح السؤال
والجواب وعدم الحاجة إلى رد أقوال المعترض على إفتاء ليس عليه بنظر الشريعة
غبار - أصل المسألة ذبيحة ضربت على رأسها ببلطة ثم ذبحت أتحل أم لا؟ أفبعد
قول السائل ثم ذبحت يتوهم أنها ميتة أو ...؟ كلا) ... إلخ، أما سكوت المؤيد
فالظاهر أن سببه عدم العناية بالجريدة المحدثة وكراهة إشهارها مع اعتقاد أنها ضارة
ولهذا لم يذكر أسماء الذين ردوا عليها أيضًا. وإذا كان هناك سبب باطن أيضًا فليس
لنا أن نبحث عنه وإنما كلامنا في الظاهر فقط وأما الراوي فقد كتب أخيرًا ما يدل على
الانتصار للفتوى.
وبَيْنَا نحن نكتب في هذا المقام وردت علينا جريدة جديدة تسمى (الواعظ)
فرأينا فيها مقالة وعظية لعالم مغربي عرج على القاهرة في طريقه إلى الحج فلما
قرأ ما نشرت الجرائد في موضوع الفتوى كتب هذه المقالة وأرسلها لبعض الجرائد
الصامتة الساكتة فلم تنشرها فرغب إلى صاحب الواعظ أن ينشرها ففعل فكان فعله
مما حقق أن اسم الجريدة وافق المسمى. وقد رأينا أن ننقلها تنويهًا بالواعظ وتنبيهًا
للناس إلى مكانة المرجف من نفوس العلماء الغرباء؛ بل على مكانة المصريين عند
من يتوهم أنه يروج فيهم مثل هذا الإرجاف ومكانة الأستاذ الإمام من نفوس عقلاء
المسلمين في بلاد المغرب وهذا نصها:
(أيها المسلم) هل أتاك خبر ما شاعت به الأنباء من قيل وقال في فتوى
الشيخ الإمام، وهل علمت ما كتبه المنار مما نص عليه الفقهاء والعلماء والصحابة
وصاحب الشرع عليه الصلاة والسلام، وما حدث في أوائل القرن الماضي في
الديار المصرية؟
تأمل وانظر كيف انعكست الأحوال وانقلبت ظهرًا لبطن، وأصبح الدين آلة
في أيدي رجال العلم يحرِّمون اليوم ما حلله آباؤهم من قبل، معارضين فتوى السيد
الإمام وجمهور الفقهاء والصحابة والتابعين وصاحب الشرع عليه الصلاة والسلام.
ويا ليت شعري أهذا دليل على وقوع الأمة في شرك الجهالة وأنها ستتدلى إلى أسفل
سافلين أم ذلك تنافس يمحى ويزول؟
مَن للمسلمين برجال يؤيدون الدين ويقومون بالإصلاح ويحافظون عليه كالسيد
الإمام المفتي برأي الجمهور وما اعتمده العلماء، فهل يرد عليه بما رآه الآخرون
وهل يعترض بمذهب على مذهب؟
على أن هذه الشريعة السمحة البيضاء تشعبت فيها الأقوال؛ ليأخذ العلماء من
كل زمان بما يناسب الأمة من أحوال، ولا تكون ضيقًا على عباد الله؛ إذ هي
الشريعة التي ينتظر المسلمون وعقلاء النصارى أن تعم الأرض كلها كما قال تعالى:
{وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} (الصف: ٨) وكما قال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: ٣٣) ، فهل يليق أن نسِمَها بالحرج والضيق؟ وقد اعتاد العلماء أن يقووا
قولاً ضعيفًا ليأخذوا به عند الحاجة إليه. وليست فتوى السيد الإمام من هذا القبيل،
وإنما الكلام في أن الشريعة أوسع مما يضيقون.
وما لنا ولهذا وذاك! كنا نقرأ في كتب الفقه أن المفتي والقاضي لا يوليان إلا
إذا حازا درجة الاجتهاد كالأئمة الأربعة وإلا كان تقليدهما باطلاً فهل يسمح الدهر
بهم وإذا سئل العلماء عن المجتهدين يقولون: انقطع الاجتهاد من القرن السادس
وكل قاضٍ ومفتٍ بعد هذا الانقطاع فهو قاضٍ للضرورة وكأنهم بهذا حكموا على
الأمة أن تتدلى وتنقرض وقد حكموا بتطبيقهم هذا على الشريعة الغراء أن تتقلص
على الأحكام ويحل محلها القانون السياسي.
مَن لنا بقوم يشعرون بما نقول وأنا رجل مغربي طالما تمنيت أن يكون في
المسلمين رجال عظام حتى إذا ما رأيت هذا السيد في بلادي قرت به عيني. وها
أنا قد وفدت الآن على مبعث أنوار عرفانه فوجدت لغطًا دلني على أن القوم هنا لا
يبالون بشريعتهم ولا رجالها!
ويا ليت شعري هل درى إخواننا العلماء أنهم بتحريمهم ذبيحة أهل الكتاب
يفتاتون على القرآن؟ !
القرآن أحل ما جرحته كلاب الصيد وقتلته. وعلم الله تعالى أن الإنسان أفضل
من الحيوان فاستدرك ذلك وأحل ذبيحة أهل الكتاب، وإلا كانوا في نظر الشرع أقل
من الكلاب، وجل الله أن ينزل الإنسان الدين في شريعة متممة للشرائع على أخس
حيوان وأقبحه في نظرها مع أن هذا الدين جاء ليعم الأرض كلها. وهو الذي أحل
مناكحة الكتابي ومعاشرته ومجاملته ومعاهدته وأوجب الدية في قتله ولم يجز قط
الأكل في إناء ولغ فيه الكلب حتى يغسل سبع مرات إحداهن بتراب.
أيجوز لنا أن نأخذ الذبيحة من بين أنياب الكلب ولا نأخذها من بين يدي
الإنسان؟ ... حاشا لله حاشا.
أظن أننا الآن أصبحنا أضحوكة في عيون الإفرنج ومضغة في أفواههم؛ إذ
يَسِموننا بالوحشية المطلقة وديننا بدين الوحوش، ذكر الله الصيد في أول سورة
المائدة فلم يشأ أن يسكت عن أهل الكتاب علمًا منه أنهم أولى بالحل، وهل ينقص
النصراني الترنسفالي في نظر ديننا عن حيوان الصيد أو أنه من التعصب الأعمى
وعدم التفطن والنظر.
وهل عرف أولئك العلماء حكمة الذبح المعتاد وشيوعه بين المسلمين
بقطع الحلقوم والمريء مع قيام غيره مقامه في الصيد والدابة الشاردة والسمك
والجراد والجنين في بطن أمه وغير ذلك:.. فليعلموا أن كل قتل بحسب الأصل
موصل للمقصود ولكن الله لحكمته ورحمته بنا وبالحيوان جعل بيننا قسمة عادلة
ومنة عامة فحرم علينا ما قتله الحيوان وما مات في الخلاء بغير قصد منا ليبقى ذلك
كله للحيوان يأكله؛ لأنها أمم أمثالنا. وكأنه تعالى لم يرض أن نأكل ما لم نقصده
ولم نفكر فيه. فأما المذكى والصيد والسمك والجراد ونحوها فإنها كلها غالبًا لا
تؤخذ إلا بالنصب والتعب.
هذا، ولما علم الله أن الناس منهم الجاهل والعالم والقوي والضعيف وضع
قانونًا عامًّا يشترك فيه عامتهم وخاصتهم في الذبح وهو ذبح العنق ولو أباح أي ذبح
لتفنن الناس في تعذيب الحيوان. فلله الحكمة البالغة. هذا هو القصد من شيوع
قطع الحلقوم والمريء مع قيام غيرها مقامها في أحوال أخرى كالسمك والجراد
والصيد وذبيحة الكتابي.
يا أيها المسلمون: هل أنتم منتهون عن هذا؟ إنه ليحزن العقلاء أن نتكلم في
صغائر الأمور وقد تركنا كبارها. وهل يجوز إكبار لبس البرنيطة مثلاً واستصغار
تعلم اللغات وأنها القتَّالة للعواطف القومية المجتثَّة لأصول المعتقدات الدينية من
مغارسها في النفوس.
تركنا كبار الأمور واستمسكنا بصغارها وإنه لعار عظيم. هلا قمنا وقعدنا هذا
القيام وهذا القعود لفروض الكفايات كالصناعات والسياسات التي ينطق بها القرآن.
لقد دخلت بلادكم الإفرنج مداخلة أُشرِبت بها القلوب والأجسام، وأصبحت
المنازل والأبواب والثياب وكل جديد فيها من آثارهم وولائد صناعاتهم. فكيف
تحللون هذا كله وتحرمون البرنيطة على الترنسفالي الذي لا قوة له ولا استقلال
يلبسها للضرورة، لعل العلم وقف على الظواهر ولم يعبأ بالبواطن بل بالقشر دون
اللب. إن الشيخ الإمام حين قرأ الدرس في بلادنا المغربية في هذا العام فهمنا أن
مصر كعبة العلم ومنبع الفضل، مؤيدًا لما كنا نسمع من قبل، ولكن لما زرتها
تزلزل يقيني في ذلك، وما هو عندي بمتهم في قوله فلعلي عند رجوعي من الديار
الحجازية أستنشق روح الوفاق على تأييد الحق وما هو ببعيد.

(المنار)
يظهر أن الكاتب صدق المرجف في زعمه أن العلماء خطَّؤوا الفتوى وإن سبق
له القول بأن شيخ الأزهر وعلماءه لا يخالفون المفتي! ! وفي هذه المقالة بيان
حكمة رابعة لتحريم الميتة وما في معناها وهو جعلها من حظ الحيوانات التي تأكل
اللحم رحمة بها.
تأييد واقعة الفتوى
بمذهب الحنفية خاصة
أشرنا في الجزء الماضي إلى أن الفتوى مؤيدة بالكتاب والسنة وعمل السلف
وإلى أن خلاف الحنفية في مسألة التسمية ليس في شيء من واقعة الفتوى التي أفتى
فيها مفتي الديار المصرية؛ لأن الحكم في واقعتها مجمع عليه، وقد رأينا أن ننقل
بعض ما قاله الحنفية إتمامًا للموضوع حتى يعلم أن المفتي موافق لمذهب الحكومة
المصرية وإن لم يكن ذلك واجبًا عليه لا سيما في المسائل الدينية الشخصية،
خصوصًا إذا لم يكن السائل عنها من رعية هذه الحكومة. وقد كنا راجعنا ما في
الفتاوى الحامدية ثم جاءتنا رسالة من بعض شيوخ الحنفية المتخرجين في الأزهر
يذكر فيها نص الفتوى بعد مقدمة في إنكار إرجاف المرجف ثم ذكر ما يؤيدها من
كتب التفسير وأقوال السلف وختم الكلام بما نصه:
بقي علينا أن نوضح موافقة الفتوى لفروع الفقه الحنفي، فنقول في كتاب
(العقود الدرية في تنقيح الحامدية) للمرحوم المحقق العلامة السيد محمد بن عابدين
رحمه الله: سئل في ذبيحة العربي الكتابي هل تحل مطلقًا أو لا؟ الجواب: تحل
ذبيحة الكتابي؛ لأن من شرطها كون الذابح صاحب ملة التوحيد حقيقة كالمسلم أو
دعوى كالكتابي ولأنه مؤمن بكتاب من كتب الله تعالى وتحل مناكحته فصار كالمسلم
في ذلك لا فرق في الكتابي بين أن يكون ذميًّا يهوديًّا أو نصرانيًّا، حربيًّا أو عربيًّا
أو تغلبيًّا لإطلاق قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: ٥)
والمراد بطعامهم مذكَّاهم قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: قال ابن عباس
رضي الله عنهما: طعامهم: ذبائحهم، وقال بعد كلام: لكن في مبسوط شمس
الأئمة: وتحل ذبيحة النصراني مطلقًا سواء قال: ثالث ثلاثة أو لا ومقتضى الدلائل
وإطلاق الآية الجواز كما ذكره التمرتاشي في فتواه فمفاد ما ذكره صاحب المبسوط
حل ذبيحته مطلقًا سواء سمى عليها أو سكت عن التسمية أو قال: ثالث ثلاثة؛ لأن
قوله أولاً داخل تحته ما إذا سمى الله وما إذا لم يسمِ أصلاً بدليل قوله بعد ذلك:
ومقتضى الدلائل وإطلاق الآية الجواز، فمن هنا يعلم أن هذا القول موافق للفتوى من
غير نزاع في ذلك وهو قول صحيح في المذهب.
يدل على ما ذكره ما قاله صاحب كتاب فتاوى الهندية، حيث قال: ثم إنما
تؤكل ذبيحة الكتابي إذا لم يشهد ذبحه ولم يسمع منه شيء أو شهد وسمع منه تسمية
الله وحده؛ لأنه إذا لم يسمع منه شيئًا يحمل على أنه قد سمى الله تعالى تحسينًا للظن
به كما بالمسلم - ثم قال بعد ذلك -:
المتردية والمخنقة والموقوذة والشاة المريضة والنطيحة ومشقوقة البطن إذا
ذبحت ينظر إن كان فيها حياة مستقرة حلت بالذبح بالإجماع وإن لم تكن الحياة فيها
مستقرة يحل بالذبح سواء عاش أو لا يعيش عند أبي حنيفة - رضي الله عنه -
وهو الصحيح وعليه الفتوى كذا في محيط السرخسي. اهـ.
فمن هذا كله يتبين للقراء أن ما أفتى به فضيلة مولانا الأستاذ مفتي الديار
المصرية موافق لأصول مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - ولا خلاف في ذلك
فالموقوذة التي لم تمت إذا ذكيت حل أكلها سواء كان المذكي لها مسلمًا أو يهوديًّا أو
نصرانيًّا؛ لأنها قبل موتها تسمى موقوذة كما أفاد ذلك العلامة الطبري فيما ذكرناه وفي
القدر كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) .اهـ.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (التوقيع محفوظ)
فائدة في حقيقة
تفسير ابن عباس
يوجد بين أيدي الناس كتاب في التفسير مطبوع يسمى تفسير ابن عباس
ويتوهم الجاهلون أن ابن عباس هو الذي ألّفه، والحق أن الصحابة لم يكتبوا في
التفسير شيئًا وإنما رويت عنهم فيه روايات كما رويت الأحاديث المرفوعة، وكاتب
هذا التفسير يزعم أنه اعتمد فيه على ما روي عن ابن عباس؛ ولكن الروايات عنه
كثيرة متناقضة، فبعضها صحيح وبعضها مكذوب بالضرورة؛ إذ لا يمكن أن يفسر
الآية الواحدة أو يقول في الحكم الواحد بقولين متناقضين.
وأقوال المحدثين تؤيد هذا الحكم بأن بعضها صحيح وبعضها غير صحيح، وقد
نقلنا في الجزء الماضي أن ابن عباس من الصحابة الذين قالوا: إن ذبيحة الكتابي
تحل وإن ذكر عليها اسم غير الله وأن عطاءً من الذين قالوا بمثل ذلك وعطاء هذا من
رواة التفسير عن ابن عباس.
وزعم المرجف أن ابن عباس يقول بعدم الحل ويشترط أن تكون ذبيحتهم على
شريعتنا، فإن كان لقوله نقل من الكتاب المتداول أو غيره فهو من رواية الكلبي؛
إذ نقل عنه القول بذلك وقد قال المحدثون: إن روايته كاذبة ولا أحيلك - أيها
القارئ - على كتب أسماء رجال الحديث التي يصعب عليك العثور عليها
واستخراج التراجم منها ولكنني أدلك على كتاب مشهور تراجع فيه ما أنقله لك عنه
بحروفه إذا شكك المرجف في النقل فارجع إلى الصفحتين ٥٥٥و٥٥٦ من الجزء
الرابع من شرح إحياء العلوم تجد ما نصه:
وقد روى عنه (أي: عن ابن عباس) التفسير جماعة من طرق مختلفة أجودها
طريق علي بن أبي طلحة وله صحيفة كانت عند أبي صالح كاتب الليث رواها عن
معاوية بن صالح عنه. وهي عند البخاري عن أبي صالح وقد اعتمد عليها في
صحيحه كثيرًا فيما علقه عن ابن عباس وأخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم
وابن المنذر كثيرًا بوسائط بينهم وبين أبي صالح.
ومن جيد الطرق عن ابن عباس طريق قيس عن عطاء بن السائب عن سعيد
بن جبير عنه وهي صحيحة على شرط الشيخين، وكثيرًا ما يخرج منها الفريابي
والحاكم في المستدرك، ومن ذلك طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى آل
زيد بن ثابت عن عكرمة أو هو وسعيد بن جبير عنه هكذا بالترديد وهي جيدة
وإسنادها حسن وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم منها كثيرًا وفي معجم الطبراني
منها أشياء.
وأوهى طرقه طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس فإن انضم إلى ذلك
رواية محمد بن مروان الصغير فهي سلسلة الكذب وكثيرًا ما يخرج منها الشعبي
والواحدي.اهـ المراد منه.
فعلم من هذا أن رواية عطاء الذي لا يشترط في ذبائح أهل الكتاب ذكر اسم
الله هي من أصح الطرق عن ابن عباس وأن رواية الكلبي الذي كان يشترط ذلك
واهية أو مكذوبة بل هو حلقة من سلسلة الكذب. وإخراج الشعبي وغيره منها لا
يفيد وثوقها؛ فإنهم لم يعتمدوها وقد علمت أن الشعبي وعطاءً قالا بعدم اشتراط
التسمية.
الاستدلال على سوء قصد المرجف
انفرد باللغط في المسألة صاحب الجريدة المحدثة وهي من الجرائد التي تلقب
في مصر بالساقطة ولقبناها في الجزء الماضي بالسياسية إيماءً لما يتحدث به الناس
من أن اللغط يقصد به عمل سياسي في الأزهر واستدلوا على هذا بسكوت حدث
السياسة عن مشاركته بهذا اللغط مع أنه كان ينتحل الشبه البعيدة للتعريض والتشهير
بالمفتي؛ لأن الحدث متهم بتلك السياسة ومعروف بالغرض.
ثم شاع أن الجريدة المحدثة لما أساءت اللغط وخرجت عن الموضوع إلى
السباب والمهاترة والتناقض قيل: إنها لم تصادف من الجانب الذي كان يظن أنها
تتقرب إليه إلا البعد والسخط ولذلك تكلم الحدث بعد طول الأزم، فأيد الباطل وخذل
الحق، وصور المسألة عن السائل بأن أهل الترنسفال (يضربون الأنعام بالبلط فأفتاه
المفتي بأنها حلال) وقد علم القراء من نص السؤال في الجزء الماضي أن السائل
قال: إنهم يذبحون البقر بعد الضرب بالبلط ويذبحون الغنم من غير ضرب. فانظر
على تحري هذا الحدث البعد عن الصدق لإيهام الناس خلاف الحق، ثم إنه يسأل
كصاحب الجريدة المحدثة أن يتنازل المفتي لقراءة لغوهم ولمجاوبتهم عليه ونحن نعلم
علم اليقين أنه لم يقرأه ولن يقرأه عملاً بقوله تعالى في صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ
هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (المؤمنون: ٣) ، وأنه إذا سمعه يأخذ بقوله تعالى فيهم:
{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} (القصص:
٥٥) ، {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ} (الشورى:
١٥) .
ولو كان الحدث وصاحب الجريدة المحدثة يطلبان الحق في المسألة لما بادر
أحدهما إلى بذل ٣٠ جنيهًا من أصل (١٢٠) ... في ورقة الفتوى ليشنع عليها؛ إذ
توهم أن وراءها مؤاخذة رسمية بل لكان بادر عند العلم بها إلى الإمام المفتي،
وسأله إيضاح الاستدلال بالآية الكريمة التي استدل بها ودفع الشبهة عن الاستدلال
إن كانت هناك شبهة. ولولا سوء القصد لما حرفا السؤال بعد ما نشره المرجف.
فإنه نشره أولاً بنصه ثم نشره ثانيًا في تقريره على نحو ما أورده الحدث فإنه زاد
عليه قوله: (حتى تشرف على الموت) ولم يقل السائل ذلك ولو قاله لما كان مانعًا
من حل الذبح عند الجمهور ولولا سوء القصد لما غيَّر المرجف في تقريره سؤال
المستفتي عن لبس القلنسوة بعد نشره في جريدته صحيحًا فزعم أخيرًا أنه قال: إنهم
يلبسونها تشبهًا بالقوم من غير سبب! وهذا كذب صريح. والفتوى صريحة في
اشتراط عدم قصد التشبه.
ولو كان المرجف يطلب معرفة الحق في المسألة لما ترك النصوص التي
أوردناها في المسألة ولما ترك استفتاء شيخ الأزهر وعلمائه في مصر أولاً كما كتب
في بعض الجرائد وزعم أنه سيستفتي شيخ الإسلام في الآستانة وحاخام اليهود
وبطريق النصارى ثم اقتصر على استفتاء حاخام اليهود القرايين في ذبيحة
النصارى ثم اكتفى بمقالة في جريدة يهودية تفصل ما أحل لليهود من حيوان البر
والبحر وما حرم عليهم وتذكر شروط الذبح عندهم ومنه أن يكون الذابح بدرجة من
العدالة قلما توجد في الناس اليوم وأن يكون مستقبلاً بيت المقدس. ويزعم المرجف
أن الله لا يحل لنا ذبيحة النصراني إلا إذا كان مستوفيًا لتك الشروط فهو يلزم
النصراني بأن يتبع شريعة التوراة وإن كان القرآن مصرحًا عن لسان عيسى عليه
السلام بقوله: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} (آل عمران: ٥٠) ، فكأنه
يلزمهم بعصيان عيسى فيما نسخه من أحكام التوراة؛ ليكونوا نصارى تؤكل ذبائحهم.
على أن الله تعالى أخبر عن اليهود والنصارى بأنهم لم يقيموا التوراة والإنجيل وأنهم
يحرفون الكلم عن مواضعه ليوافق أهواءهم، ثم إنه في السورة التي يذكر فيها هذه
الأحكام عنهم يحل لنا طعامهم فهو تعالى أعلم بعقائدهم وبأعمالهم وبأقوالهم وقد أحل
لنا ذبائحهم ولم يكلفنا بأن نقرأ قبل أكلها كتبهم ونطبق أحكامها على الذابح بل ورد
في الحديث: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم) ؛ أي: فيما يخبروننا به عن شريعتهم
ولكن صاحب الجريدة المحدثة يصدقهم ويحتج بكتبهم ويقيد بكلام جريدة من
جرائدهم إطلاق القرآن حل طعامهم؛ وذلك لأن مفتي الديار المصرية قال بوجوب
الأخذ بهذا الإطلاق ثم يرجع فيقول: لا يُعمل بأقوالهم! ولكن المفتي يقدم نصوص
القرآن على كل شيء كسائر أئمة المسلمين فهل نترك القرآن؛ لأن المفتي
مستمسك بالقرآن، والمرجف لا يرضيه منه ذلك.
إهانة المرجف للعلماء وتعريضه بالأمير
لما قال المرجف: إنه يريد استفتاء شيخ الإسلام في الآستانة كتب بعض
المنتقدين في الجرائد يتعجب من إهماله استفتاء شيخ الإسلام وعلمائه في مصر وهم
أعلم بالشريعة من علماء الترك وجعله شيخ الإسلام مقدسًا كالبابا فأجاب عن ذلك بما
نصه (ع ٤٦) :
أجل لا ننكر أننا نوينا رفع الفتوى إلى مقام مشيخة الإسلام في دار الخلافة
ووصفناها بما تستوجبه حياطتها الدينية من القداسة؛ ولكننا لم نحط من كرامة
مشيخة الأزهر الجليلة إلا أننا نعلم أن المفتي وشيخ الأزهر توأمان متلازمان فلا
يقول أحدهما بما يباين قول الآخر! ! ولا نجهل النفوذ الذي للمفتي على الأزهر
ومَن فيه من المستضعفين الذين يخشون الشيخ ويتقون بطشه بهم وقد رسخ هذا
الوهم في نفوسهم وتولدت منه مخاوف هوت بأفكارهم وسقطت بمدارك بعضهم حتى
صغرت قيمتهم في نظر أنفسهم وعلى ذلك شواهد محسوسة لا تحتاج إلى إيضاح.
ا. هـ بحروفه.
فلينظر المسلمون إلى هذا المرجف كيف يطعن بفضيلة شيخ الأزهر وسائر
علمائه ويزعم أن المفتي قد استخفهم فأطاعوه حتى في خلاف ما يعتقدونه دينًا كأنه
فرعون مصر المستبد فيها. ثم هو بعد ذلك لا يستحيي أن يقول في ورقته: إن علماء
الأزهر قد جاؤوا إليه وتبرؤوا من الفتوى ومؤيديها وفي تقريره أن علماء الأزهر
كتبوا إليه بأن عدم استناد مفتي الديار المصرية في فتواه للترنسفالي إلى نصوص
مذهب أبي حنيفة يقتضي أنه مجتهد وبذلك صار معزولاً من وظيفة الإفتاء! !
(اهـ من ص ١٤) .
فلينظر أصحاب البصر والبصيرة إلى تعارض أقواله في العلماء - تارة بجعل
رئيسهم ومرؤوسهم تابعًا للمفتي وإن أخطأ، وتارة بجعلهم متهجمين على القول
بعزله من وظيفته، فهل يصدق عاقل نقل هذا المرجف على تعارضه وبعد ما يرى
من تحريفه السؤال والجواب وتهافته في خلط ما يزعم أنه نقل عن الكتب أو العلماء
ومزجه بأقواله.
وقد ذكر في بعض ما كتب في المقام غيرة الأمير على الدين وأن عزل المفتي
وأمثاله بيده. وأن العلماء رفعوا الأمر إلى سُموه وللقارئ أن يستنبط من هذا أن
الناقل كاذب في دعواه أو أن الأمير أعزه الله قد علم أن الذين كتبوا إليه ليسوا من
العلماء الذين يعتمد على قولهم في الدين ولولا ذلك لما أبقى المفتي في منصبه،
ونقول: إذا صح أن بعض العلماء كتب للأمير بأن الفتوى غير صحيحة وأن أكل
الذبائح المسؤول عنها حرام في مذهب الحنفية الذي يتقلده وأنه صدقهم ولم يصدق
النصوص التي أوردناها في إثبات حلها بالإجماع أو برأي الجمهور ومنهم أبو حنيفة
فلا شك أن سموه يترك أكل اللحوم في أوروبا ولو على موائد الملوك والأمراء؛ فإن
جميع ذبائح أوربا على الطريقة التي صدرت الفتوى بإثبات حلها بل هي أبعد منها
عن النصرانية؛ لأن نصارى الترانسفال متمسكون بدينهم متعصبون له كما جاء في
الفُتيا، وأما أهل أوربا فقد تساهل أكثرهم بها؛ بل مرق الكثيرون منها وإنهم
ليخنقون الطيور خنقًا ولا يذكرون اسم الله على شيء من ذبائحهم على ما يقال،
والأمير أعزه الله أعلم بحقيقة الحال.
ولعلنا نبين في الجزء الآتي شروط المفتي وما يجب أن يعتمد عليه في الفتوى
مؤدية بنصوص العلماء. وربما ألممنا أيضًا بشروط صحة الولايات التي يملك
صاحبها نصب القضاة والمفتين وأهمها الاستقلال بذلك والقدرة عليه وعلى تنفيذ
الأحكام الشرعية ... وليس الغرض من هذا الذي كتبناه كله وما سنكتبه الرد على
المرجف فإنه في تهافته بحيث لا يعبأ به ولكن الفرص سنحت لبيان أحكام الدين في
هذه المسائل وإزالة الشبهات عنها فلم نغفلها.
كتاب من الترنسفال
في البحث عن حقيقة الفتيا والسؤال
بعد كتابة ما تقدم جاءنا كتاب من إمام المسلمين في الترنسفال وهو من
مشتركي المنار يذكر فيه صورة الاستفتاء والجواب على نحو ما نشر إلا أن في
الكتابة غلطًا أكثره من الإملاء، ويقول المرسل: إنه عرض الفتوى على العلماء وأن
الشافعية قالوا: قد حصل فيها غلط بقوله: (إزهاق روح الحيوان بأي طريقة
كانت) ، وقال: إنه توقف عن إرسالها حتى يصححها من جميع العلماء هناك (على
أي حالة كانت إن شاء الله تعالى) . وقال في رأس الكتاب (ولا نعلم هل هي جوابات
الأستاذ الإمام حفظه الله أو غيره) .اهـ بحروفه.
(ج. المنار) : قد علم السائل من الجزء الماضي أن هذه الأسئلة عرضت
على الأستاذ الإمام وأنها غير مفهومة كما قال ولذلك جاءت الأجوبة عن مفهومها لا
عن نصها كما أشرنا إلى ذلك في الجزء الماضي، وقد عهد في السنة أن النبي
صلى الله تعالى عليه وسلم كان يجيب السائلين بمثل ذلك. وأما توقف الشافعية فيما
ذكرتم فهو لا يستلزم أن يتوقفوا في حل الذبائح عندكم؛ لأن ذبيحة الكتابي التي لا
تعلم كيفية تذكيتها حلال بإجماع أهل السنة.
وما علمت كيفيته ففيه تفصيل والجمهور من الصحابة والسلف على أن ذبائح
أهل الكتاب حلال على الإطلاق ولغير الجمهور خلاف في بعض الصور، فالشافعية
يحرمون ما ذبح وليس فيه حياة مستقرة إذا تقدم ذبحه سبب يحال عليه الهلاك فإذا
علموا في ذبيحة معينة أنها كذلك فلهم أن يجتنبوا الأكل منها وإن أباحها جمهور السلف
الصالح الذين لم يشترطوا الحياة المستقرة وإنما اشترطوا أن يكون فيها وقت الذبح
رمق واكتفوا من الدليل على ذلك بحركة أي عضو من الأعضاء وذلك ما يعبر عنه
الشافعية بحركة المذبوح وقد رأيتم النقل عن المفسرين في ذلك.
وأما لبس البرنيطة فلا دليل في الكتاب ولا في السنة على منعه. وحديث (من
تشبه بقوم فهو منهم) عند أبي داود والطبراني وابن رسلان إذا سلمنا أنه حسن كما
قيل فلنا أن نقول: إن معناه أن مَن يتشبه بقوم يعامل معاملتهم في العادة، فينبغي
للإنسان أن يتشبه بالكرام دون اللئام لكي يكرم ولا يهان، وقد قال الفقهاء: إن
التشبه لا يتحقق إلا بالقصد وأنه مكروه في الأمور العادية كالملابس تنزيهًا وأما في
الأمور الدينية فإن قصد به الكفر يكفر وإلا كان حرامًا. وهذا البحث مفصل في كتاب
(الإعلام بقواطع الإسلام) لابن حجر المكي الشافعي فراجعوه.
ولذلك قال الأستاذ الإمام في جواب سائلكم: (أما لبس البرنيطة إذا لم يقصد
فاعله الخروج من الإسلام والدخول في دين غيره فلا يعد مكفرًا. وإذا كان اللبس
لحاجة من حجب شمس أو دفع مضرة أو دفع مكروه أو تيسير مصلحة لم يكره كذلك
لزوال معنى التشبه بالمرة) اهـ.
على أن لبس البرنيطة ليس خاصًّا بأهل دين من الأديان فالمسلمون قد لبسوا
نوعًا منها قبل أن يعرفوا الإفرنج سموه البرطلة في بلاد النبط، ومن جاورهم من
العرب وكذلك أهل الأفغان ألبسوا بعض العسكر نوعًا منها قبل أن يعرفوا الإفرنج،
ومسلمو الفرس يلبسون ضربًا منها أيضًا ومثلهم أهل التركستان وخيوه وبُخَارَى
والتركمان والأفغان والشركس وأهل داغستان. وكذلك فرسان الترك. ويقال: إنه لا
يزال طائفة من مسلمي المغرب الأقصى يلبسون ضربًا منها يسمونها المظلة. وقد
علمتم أن سلطان المسلمين الأكبر وأكثر أمرائهم قد أخذوا زيهم عن النصارى بل
جعلت الدولة العلية زي العلماء الرسمي شبيهًا بزي القسيسين الديني لا العادي،
فشيخ الإسلام في الآستانة مخصوص بالحلة البيضاء كبطريق الروم وسائر لبوس
التشريف للعلماء عندها مرتب على ترتيب لبوس القسوس في الكنائس أيام الأعياد.
وربما نعود إلى توضيح هذه المسائل.
ونقول لكم الآن: إن الفتوى التي وصلت إليكم صحيحة ولا يلتفت إلى قول مَن
يخالفها فإنه جاهل بالدين والله أعلم.
(نصيحة)
من الناس من يغش ويخدع، بكل ما يرى ويسمع. فيكون ألعوبة للمخادعين،
وكرة في أيدي المختلبين، يعظمون له ما ليس بعظيم، ويخوفونه بما لا يخيف،
يدعي كاذبهم أن الأمر الفلاني قد اهتز له العالم الإسلامي واضطرب، وبكى من
هوله وانتحب، ونزلت من به من سمائه النوازل، وثارت في أرضه البراكين
والزلازل، فيصدق المخدوع هذا القال والقيل، وإن قام على نقيضه لا عليه الدليل،
ولا يرى انفراد المدعي بالخبر مدعاة ارتياب، ولا غرابته في نفسه موضع
استغراب، ويدعي جاهلهم أنه أيّد الدين والملة، وعاجزهم أنه نهض بالوطن والأمة،
فيصدق المخدوع الزعم، وينقاد بشعرة إلى الوهم، ولا يلتفت إلى جهل الزاعم أو
ضعفه، ولا يفكر في كنه العمل المزعوم ولا وصفه، بل يظل مخدوعًا بالخيال،
ومخلوبا بالمقال، من غير نظر في حقيقة الحال، ذلك شأن أكثر ما يعهد في العوام،
ومن العجب أن يشاركهم فيه أحيانًا من يعدون من الخواص، ولهذا كانت الخلابة من
موارد الكسب، وطرق الفخفخة والفخر، سار عليها بعض المستولغين فنال من جاه
الأمراء، وتناول من مال الأغنياء، ونهض آخر لتقليده فأساء التقليد. لأنه عاجز
عن الخلابة بقلمه ولسانه وقد استأجر لها من يستفيد بها ولكنه لا يفيد،
وسينقلب بالخزي المبين، والعاقبة للمتقين، فليحذر العاقل من الغرور بأمثال
هؤلاء المخادعين، لا سيما في أمر العلم والدين، فقد ورد (أن هذا العلم دين
فانظروا عمن تأخذون دينكم) .