للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المفتي والقاضي في الشرع

المفتي في الشرع هو الفقيه المجتهد الذي يرجع إليه الناس في معرفة ما يخفى
عليهم من أحكام الدين. قال في (كشاف اصطلاحات الفنون) ما نصه (ص
١١٥٧ ج٢) : (الفقه هو اسم علم من العلوم المدونة، وهو العلم بالأحكام الشرعية
العملية من أدلتها التفصيلية، والفقيه هو مَن اتّصف بهذا العلم وهو المجتهد. قال
المحقق التفتازاني في حاشية العضدي: ظاهر كلام القوم أنه لا يتصور فقيه غير
مجتهد ولا مجتهد غير فقيه على الإطلاق. نعم لو اشترط في الفقه التهيؤ لجميع
الأحكام، وجوّز في مسألة دون مسألة تحقق مجتهد ليس بفقيه.
وجاء (في ص ١١٥٦) منه ما نصه: (الاستفتاء هو عند الأصوليين
والفقهاء مقابل الاجتهاد والمستفتي خلاف المفتي. والمفتي هو الفقيه فإن لم نقل
بتجزي الاجتهاد؛ وهو كونه مجتهدًا في بعض المسائل دون بعض فكل من ليس
مجتهدًا في الكل فهو مستفتٍ في الكل. وإن قلنا بتجزي الاجتهاد فالأمر واضح أيضًا؛
فإنه مُستفت فيما ليس مجتهدًا فيه مُفْت فيما هو مجتهد. وبالجملة فالمفتي
والمستفتي إنما يكونان متقابلين ممتنعي الاجتماع عند اتحاد متعلقهما، وأما إذا اعتبر
كونه مفتيًا في حكم مستفتيًا في حكم آخر فلا) . ا. هـ
وبيان هذا أن المفتي عندهم هو المجتهد المستعد للإفتاء بالدليل، فإن كان
مستعدًا للإفتاء في عامة الأحكام فهو المجتهد المطلق، وإن كان لا يقدر على الإفتاء
إلا في بعض الأحكام فهو مجتهد فيما هو مفتٍ به. وهذا التفصيل مبني على قول
المحققين من الأصوليين بأن الاجتهاد يتجزأ؛ أي: يجوز أن يجتهد الإنسان في بعض
المسائل فيقف على أدلتها ويعرف الحكم منها وإن عجز عن مثل ذلك في مسائل
أخرى.
وما تقدم من معنى الفقه هو اصطلاح علماء الأحكام العملية وأصولها (أي: علم
أصول الفقه) وللفقه معنى آخر هو ما يفهم من الكتاب والسنة وآثار السلف وهو فهم
أسرار الدين في إصلاح النفوس ومعرفة آفاتها وما يصلح أخلاقها. ولا مشاحة في
الاصطلاح فإن الإمام الغزالي الذي بيَّن هذا المعنى كان يستعمل المعنى الاصطلاحي
في كتبه الفقهية والأصولية، ويطلق الفقه عند المتأخرين على معرفة أقوال المؤلفين
في الأحكام.
وقد اشترطوا في القاضي أن يكون مجتهدًا؛ لأنه كالمفتي في الحاجة إلى
معرفة الحق فيما يحكم به بل هو من جهة أحوج إلى تحري الحق؛ لأنه ملزم
والمفتي مبين فقط ولكن الحنفية أجازوا أن يكون القاضي غير مجتهد عند الضرورة
اعتمادًا على أنه يستفتي فعلم أن جواز نصب القاضي من غير أهل الاجتهاد مشروط
بوجود مفت من أهله يبين له الحكم.
وهذا نص متن الهداية وهو أشهر المتون المعتمدة في مذهب الحنفية قال: (ولا تصح ولاية القاضي حتى يجتمع في المولى شرائط الشهادة ويكون من أهل
الاجتهاد) ، قال الكمال في (فتح القدير) شرح الهداية: الصحيح أن أهلية الاجتهاد
شرط الأولوية فأما تقليد الجاهل فصحيح عندنا خلافًا للشافعي رحمه الله، وهو يقول:
إن الأمر بالقضاء يستدعي القدرة عليه ولا قدرة دون العلم. ولنا أنه يمكنه أن يقضي
بفتوى غيره ومقصود القضاء يحصل به، وهو إيصال الحق إلى مستحقه. وقال
المرغيناني في تكملته للفتح: (قوله: خلافًا للشافعي ومالك وأحمد وقولهم رواية
عن علمائنا: نص محمد في الأصل أن المقلد لا يجوز أن يكون قاضيًا؛ ولكن
المختار خلافه) ثم قال: (والمراد بالعلم ليس ما يقطع بصوابه؛ بل ما يظنه
المجتهد فإنه لا قطع في مسائل الفقه، وإذا قضى بقول مجتهد فيه فقد قضى بذلك
العلم وهو المطلوب) .
ثم قال: (واعلم أن ما ذكر في القاضي ذكر في المفتي، فلا يفتي إلا المجتهد
وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد، وأما غير المجتهد ممن
يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفتٍ) .
ثم ذكر أن نقل النصوص ليس بفتوى، وإنما هو إخبار على سبيل الحكاية،
وأن هذه الحكاية لا تحل إلا إذا كان للحاكي سند إلى المجتهد الذي ينقل عنه يعتقد
صحته أو كان يأخذه عن كتاب معروف، تداولته الأيدي نحو كتب محمد بن الحسن.
فعلم من هذه النقول أن مذاهب الأئمة الأربعة متفقة على ما قاله الأصوليون من
كون المفتي هو المجتهد، وأن خلاف الحنفية في القضاء دون الإفتاء، وفيه عندهم
قولان، اعتمد صاحب الهداية على وجوب كون القاضي مجتهدًا وفاقًا لنص الإمام
محمد، واختار آخرون جواز كونه غير مجتهد اعتمادًا على وجود مفتٍ يفتيه، فكأنه
في نظر هؤلاء منفّذ فقط.
ثم قال الكمال: (وفي حديث الاجتهاد كلام عرف في أصول الفقه وحاصله أن
يكون صاحب حديث له معرفة بالفقه ليعرف معاني الآثار أو صاحب فقه له معرفة
بالحديث، لئلا يشتغل بالقياس في المنصوص عليه. وقيل: أن يكون مع ذلك
صاحب قريحة يعرف بها عادات الناس؛ لأن من الأحكام ما يبنى عليها) . اهـ
بحروفه.
وقال المرغيناني عند قوله: وقيل: إن يكون مع ذلك صاحب قريحة ... إلخ
ما نصه: (فهذا القيل لا بد منه في المجتهد، فمن أتقن معنى هذه الجمل فهو أهل
للاجتهاد؛ فيجب عليه أن يعمل باجتهاده وهو أن يبذل جهده في طلب الظن بحكم
شرعي عن هذه الأدلة ولا يقلد أحدًا) ا. هـ؛ أي: ويجب عليه أن يفتي كذلك بما
ظهر له، ولا يجوز له أن يفتي بقول أحد؛ بل علمت من نصهم أن نقل قول الغير لا
يسمى فتوى.
هذا ما فسر به المفتي والمجتهد في كتب الشريعة وابتدأنا بالنقل عن كتب
الحنفية خاصة؛ لأن الحكومة المصرية على مذهبهم، ومنها علم أن المذاهب الثلاثة
موافقة لمذهب الحنفية في اعتبار كون المفتي هو المجتهد، ولكن الجَهِلَ الظاهرَ قام
يحتج على العلم، فيحرم الاجتهاد على المفتي، ولو في بعض المسائل ويضع
للمجتهد تعريفًا جديدًا وشروطًا جديدة؛ لأن حرية المطبوعات في مصر أباحت لكل
أحد أن يخوض في كل شيء، فقد رأينا تقريرًا لبعض الجاهلين بالشرع يحتج فيه
بزعمه على بعض ما أفتى به أشهر علماء الإسلام في هذا العصر وينفي عنه
الاجتهاد في الدين بناءً على تعريف اخترعه للمجتهد لم يقل به قبله عالم ولا جاهل
وهو كما في (٣٧) من ذلك التقرير: (المجتهد هو الرجل الوجيه عند الله وعند
الأمة البالغ مبلغ العلم ومعرفة مدارك التشريع وأسرار الشريعة بشرط أن يعترف له
الناس بذلك) ، ثم قال بعد سطور في الاستدلال على كون الاجتهاد يكاد يكون
ممنوعًا عقلاً: إن الثقة العامة ركن من أركان الاجتهاد (فإذا ادعى مُدَّعٍ أنه من
المجتهدين واختلف الناس في أمره سقطت دعواه) .
نقول: إن هذا الكلام لغو باطل؛ لأنه اختراع أصول جديدة للشرع لم يقل بها
أحد من أهله، على أنه غير معقول وغير مفهوم. دع عنك تخصيص الاجتهاد
بالرجال المقتضي أن أمهات المؤمنين - نسوة صاحب الشريعة عليه وعليهن
السلام - كن مقلدات غير مجتهدات في دينهن، وانظر في اشتراطه كون المجتهد
وجيهًا عند الله مع اشتراطه بعد ذلك أن تعترف له الأمة بذلك! ومن يقدر من الأمة
أن يحكم على الله بما لا يعرف إلا بوحي من الله؟ فهذا من غير المعقول، ثم انظر
في قوله: (البالغ مبلغ العلم) تجده من غير المفهوم، ثم انظر في اشتراط اعتراف
الأمة - مقلديها وجهلائها - لرجل بأنه وجيه عند الله وأنه بلغ مبلغ العلم وفهم
أسرار الشريعة تجده غير معقول وغير مفهوم؛ لأن الأمة لا يمكن أن
تصل إلى معرفة هذه الأمور فتحكم بها وإذا فرضنا وصولها إليها تكون أمة مجتهدة؛
أي: يكون جميع أفرادها مجتهدين وكل واحد منهم عارف بقدر الآخر وشاهد له..
ولم يشهد فرد واحد لمجتهد من السابقين بمثل ذلك.
* * *

بيان ما جاء في كتاب الأحكام السلطانية
من القول باجتهاد القاضي
(فصل) ويجوز لمن اعتقد مذهب الشافعي رحمه الله أن يقلد القضاء من
اعتقد مذهب أبي حنيفة؛ لأن للقاضي أن يجتهد برأيه في قضائه، ولا يلزمه أن يقلد
في النوازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه، فإذا كان شافعيًّا لم يلزمه المصير في
أحكامه إلى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده إليها، فإن أداه اجتهاده إلى الأخذ
بقول أبي حنيفة عمل عليه وأخذ به، وقد منع بعض الفقهاء من اعتزى إلى مذهب
أن يحكم بغيره، فمنع الشافعي أن يحكم بقول أبي حنيفة ومنع الحنفي أن يحكم
بمذهب الشافعي إذا أداه اجتهاده إليه لما يتوجه إليه من التهمة والممايلة في القضايا
والأحكام، وإذا حكم بمذهب لا يتعداه كان أنفى للتهمة وأرضى للخصوم.
وهذا وإن كانت السياسة تقتضيه فأحكام الشرع لا توجبه؛ لأن التقليد فيها
محظور والاجتهاد فيها مستحق، وإذا نفذ قضاؤه بحكم وتجدد مثله من بعد أعاد
الاجتهاد فيه، وقضى بما أدّاه اجتهاده إليه، وإن خالف ما تقدّم من حكمه فإن عمر -
رضي الله عنه - قضى في المشتركة بالتشريك في عامٍ، وترك التشريك في غيره،
فقيل له: ما هكذا حكمت في العام الماضي؟ فقال: تلك على ما قضينا وهذه على ما
نقضي. فلو شرط المُولِّي وهو حنفي أو شافعي على من ولاه القضاء أن لا يحكم إلا
بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة - فهذا على ضربين: أحدهما أن يشترط ذلك عمومًا في
جميع الأحكام؛ فهذا شرط باطل سواء كان موافقًا لمذهب المُولِّي أو مخالفًا له، وأما
صحة الولاية فإن لم يجعله شرطًا فيه وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهي، وقال:
قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب الشافعي - رحمه الله - على وجه الأمر أو لا تحكم
بمذهب أبي حنيفة على وجه النهي كانت الولاية صحيحة والشرط فاسدًا سواء
تضمّن أمرًا أو نهيًا، ويجوز أن يحكم بما أدّاه اجتهاده إليه سواء وافق شرطه أو
خالفه، ويكون اشتراط المولي لذلك قدحًا فيه إن علم أنه اشترط ما لا يجوز، ولا
يكون قدحًا إن جهل؛ لكن لا يصح مع الجهل به أن يكون موليًا ولا واليًا. فإن
أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية؛ فقال: قد قلدتك القضاء على أن تحكم فيه
بمذهب الشافعي أو بقول أبي حنيفة كانت الولاية باطلة؛ لأنه عقدها على شرط
فاسد، وقال أهل العراق: تصح الولاية ويبطل الشرط.
والضرب الثاني: أن يكون الشرط خاصًّا في حكم بعينه فلا يخلو الشرط من أن
يكون أمرًا أو نهيًا، فإن كان أمرًا فقال له: أقد من العبد بالحر ومن المسلم بالكافر،
واقتص في القتل بغير الحديد كان أمره بهذا الشرط فاسدًا ثم إن جعله شرطًا في عقد
الولاية فسدت، وإن لم يجعله شرطًا فيها صحت وحكم في ذلك بما يؤديه اجتهاده
إليه. وإن كان نهيًا فهو على ضربين: أحدهما أن ينهاه عن الحكم في قتل المسلم
بالكافر والحر بالعبد، ولا يقضي فيه بوجوب قود ولا بإسقاطه فهذا جائز؛ لأنه
اقتصر بولايته على ماعداه، فصار ذلك خارجًا عن نظره.
والضرب الثاني أن لا ينهاه عن الحكم وينهاه عن القضاء في القصاص فقد
اختلف أصحابنا في هذا النهي هل يوجب صرفه عن النظر فيه؟ على وجهين:
أحدهما أن يكون صرفًا عن الحكم فيه وخارجًا عن ولايته، فلا يحكم فيه بإثبات قود
ولا بإسقاطه. والثاني أن لا يقتضي الصرف عنه ويجري عليه حكم الأمر به، ويثبت
صحة النظر إن لم يجعله شرطًا في التقليد ويحكم فيه بما يؤديه اجتهاده إليه اهـ.
فعلم من هذا أن القاضي لا يعزل إذا خالف مذهب موليه أو شرطه عليه تقليد
إمام معين؛ بل تجب عليه مخالفة مولّيه إذا ظهر له الدليل على أن مخالفته هي
الصواب. والمفتي في ذلك كالقاضي كما تقدّم نقلاً عن شرح الهداية؛ بل القول
بوجوب اجتهاد المفتي عند الحنفية أقوى من القول باجتهاد القاضي كما علمت،
وبهذه النصوص تعلم أن ما كتب في تلك الجريدة المحدثة من كون المفتي يصير
معزولاً إذا أفتى بخلاف مذهب موليه قول باطل، مبني على الجهل الظاهر.
وقد كان وقع مثل هذا الوهم أو قريبًا منه لبعض الأزهريين عندما علم أن
قاضي قضاة السودان حكم في بعض القضايا بمذهب الإمام مالك كالطلاق على
المعسر والغائب. فسألنا يومئذ ذلك الأزهري عن ذلك فأجبناه بنحو ما تقدم وزيادة
تتعلق بالمولي نسكت على مثلها الآن. وربما نزيد الكلام في الإفتاء والمفتي بيانًا في
جزء آخر.