للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأسئلة والأجوبة

التلفيق في التقليد
(س١) مصطفى أفندي رشدي بنيابة الزقازيق:
توضأت وقبل الصلاة نزل من فمي دم خالط الريق وغلبه فانتقض الوضوء؛
لأني على مذهب الإمام الأعظم، فأردت أن أصلي على مذهب الإمام الشافعي؛ لأن
ذلك لا ينقض الوضوء عنده فهل تجوز الصلاة؟ وهل إذا اعتراني مثل ذلك وأنا داخل
للمسجد للصلاة أو فيه والوقت ضيق لا يسع الوضوء أو كنت أنا لا أستطيع
الوضوء إلا في منزلي لأسباب صحية فهل أصلي على مذهب الشافعي وإن مسست
امرأة؟
ومثال ذلك في عبارة أخرى: أن القيء ينقض الوضوء عند الإمام الأعظم دون
الإمام الشافعي فإذا قاء الإنسان وهو متهيئ للصلاة فهل يصلي على مذهب الشافعي
(ولو مس امرأة) أم في حال لمس المرأة لا تجوز الصلاة؟
ومثال ذلك أيضًا: أن صلاة الظهر تصير قضاءً عندنا إذا دخل وقت العصر
ولكن عند الإمام مالك تعد صلاتها أداءً إلى ما قبل الغروب، فإذا كنت مغتسلاً
وتوضأت على مذهب؛ فهل تجوز لي الصلاة بعد العصر وأعتبرها أداءً على
مذهب الإمام مالك؟
(ج) يعني السائل بالإمام الأعظم، أبا حنيفة؛ فإن مذهب الحنفية مؤلف في
الحقيقة من عدة مذاهب: أشهرها مذهب أبي حنيفة ومذهب أبي يوسف ومذهب
محمد بن الحسن؛ ولكن هذين الإماميين قد تلقيا عن الإمام أبي حنيفة وسارا في
الاجتهاد على طريقه في الاستنباط، ولم تعرف أقواله وآراؤه إلا عنهما، وفي كتبهما
لذلك جعل ما يؤثر عنهما من النقل عنه، وما خالفاه فيه مذهبًا واحدًا لثلاثة أئمة يقال
كبيرهم ومرشدهم الإمام الأعظم.
وقد جرى المؤلفون في هذا المذهب والمفتون فيه من المجتهدين فيه على
ترجيح أقوال بعض الثلاثة على بعض؛ فكان كل عامل بما في كتبهم مقلدًا لعدة
أشخاص في حقيقة واحدة، وهذا هو التلفيق الذي منعه الجمهور، وأجازه بعض
المحققين، وعلى القول بالجواز تكون صلاة السائل صحيحة في المسائل التي
ذكرها، وقد تقدم البحث في جواز التلفيق والاستدلال عليه في مقالات المصلح
والمقلد فليراجعه السائل في مجلد المنار الرابع (ص ٣٦١) وما بعدها وفي مباحث
جمعية أم القرى من المجلد الخامس (ص ٦٧٦) ، وملخصه أن المسألة خلافية،
وأن أكثر علماء التقليد منعوا التلفيق مع أنه لازم للتقليد، وأن دليل الذين أجازوه
أقوى. وهذا الخلاف مرفوض في المقلد الذي له معرفة بمذهب إمامه، ونظر
في أدلته، وأما مَن ليس كذلك فهو عامي لا مذهب له، وإنما مذهبه مذهب
مفتيه فإذا أفتاه شافعي بشيء وحنفي بشيء فلا يجب عليه أن يتوقف عن الأخذ
بقول مفتيه في المسألة إلى أن يعرف مذهبه في جميع المسائل التي تتعلق
بموضوع الفتوى كالصلاة مثلاً.
هذا، وإنه لا دليل في الكتاب ولا في السنة على نقض الوضوء بالقيء أو
بخروج الدم فالخلاف فيهما بالرأي والاجتهاد. وأما وقت الأداء والقضاء فالحُكم فيه
أن كل إمام ينهاك عن تأخير الصلاة إلى الوقت المختلف فيه عمدًا، وإذا أخرت
بعذر فأحسن التوبة، وأقم الصلاة على وجهها في أول فرصة، وليس عليك تَعَدٍّ، أداء
أم قضاء والله أعلم.
* * *
تعريف الزنا
وتحريم الاستمتاع بما دونه
(س٢) إسماعيل أفندي. ل. بمصر:
توجهت لزيارة صديق لي فوجدت عنده مجلسًا حافلاً بالإخوان، والكل
مشتغلون بالبحث في أحكام الدين، وهذا الشعور لم يوجد إلا بهمة حضرتكم أثابكم
الله، وجزاكم أحسن الجزاء، وكان من موضوع بحثهم تعريف (الزنا) :
فقال فريق: هو كذا ... - وذكر معنى الفاحشة الكبرى - وما كان غير ذلك
لا يعتبر زنا ولا تترتب عليه أحكام، وحينئذ يمكن للرجل أن يأتي المرأة في جزء
من جسمها ولا عقاب عليه.
والفريق الآخر قال: إن الإنزال بإحدى هذه الطرق يعتبر زنا.
وأخيرًا اتفقوا على سؤال المنار والسير على ما يقرره طبقًا للشريعة الإسلامية
الغراء.
(ج) : إن أرادوا بالزنا ما يَحُدُّ الحاكمُ صاحبَه الحدَّ المعروف في الفقه فهو
ما عرفه به الفريق الأول، وإن أرادوا ما حرمه أحكم الحاكمين على عباده وجعله
من أسباب مقته وسخطه فهو أعم مما قال الفريق الثاني؛ فقد روى البخاري ومسلم
وغيرهما من أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كتب على ابن
آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة؛ فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما
الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرِّجْل زناها الخُطا، والقلب
يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه) وفي رواية لمسلم: (والفم يزني وزناه
القُبل) ، وظاهر أن المراد بالنظر هو النظر إلى المرأة الأجنبية بشهوة والمراد
بالبطش لمسها وفي معنى اليد غيرها فكل ملامسة محرمة. فاستمتاع الرجل بغير
امرأته أو جاريته المملوكة له ملكًا صحيحًا شرعيًا محرم كيفما كان، سواء أنزل أم لم
ينزل.
ومقتضى الحديث الصحيح الذي تقدم أن هذا الاستمتاع يسمى زنا، وأن للزنا
مراتب أدناها النظر بشهوة عمدًا وأقصاها الفاحشة الكبرى المعروفة، وإنما وضع
الحد على من انتهى إلى الدرجة القصوى؛ لأن المضرات البدنية والمدنية والأدبية
التي يعاقب الحكام مرتكبيها لا تظهر إلا في هذه الدرجة، فالنظر مما يكثر وقوعه
ولا يعرف كونه بشهوة إلا من الناظر فترتيب الحد عليه حرج عظيم؛ لأنه من اللمم
الذي ترجى مغفرته باجتناب ما وراءه؛ {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ
اللَّمَمَ} (النجم: ٣٢) . وأما اللمس والتقبيل فمضراته في الإصرار؛ ومنها تجرئة
مرتكبه على المحارم إذا لم يبادر إلى التوبة منه، وهي مضرة روحية لا أثر لها في
الأمة - أو في الهيئة الاجتماعية كما يقولون - إلا إذا تعدى الرجل على المرأة أو فعل
ذلك بحضور الناس، ولذلك درجات تختلف باختلاف الأشخاص والمكان والزمان
ليس من العدل أن توضع لها عقوبة معينة لا تختلف كما هو معنى الحد؛ وإنما
عقوبتها التعزير الذي يفوض إلى رأي الحاكم. فعلم من ذلك أن عدم وضع الحد على
مثل هذه الأمور ليس دليلاً على إباحتها ولا على كونها هينة عند الله تعالى.
ويتوهم بعض الناس أن ما أشرنا إليه من أنواع الاستمتاع بالنساء دون الوقاع
لم يحرم إلا لأنه مقدمة للوقاع الذي تترتب عليه المفاسد الكثيرة، وإن من وثق بنفسه
وقدر على منعها من الوقاع حل له أن يستمتع بالمرأة الأجنبية كما يشاء؛ إذ لا مفسدة
في هذا (بزعمهم) ، ومن كان من هؤلاء مجاورًا في الأزهر بعض سنين، أو
متلقيًا شيئًا من كتب الدين يستدل على ذلك بنص {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ
نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (النساء: ٣١) ، وبقول بعض الفقهاء: لا كبيرة بما دون
الفاحشة الكبرى وهي الوقاع.
وقد كان سألني مشافهة أحد تلامذة المدارس العالية في مصر عن ذلك، وقال:
إن التلامذة وغيرهم من الشبان في مصر يعاشرون البنات العذارى، ويستمتعون
منهن بما عدا الفاحشة المبينة فهل يحل ذلك أم يحرم؟ ! فأجبته بأنني أتعجب أشد
التعجب من كون هذا مما يخفى تحريمه على مسلم ويرى أنه مما يستفتى فيه.
نعم، إنه لم يحرم شيء في الشريعة الإسلامية إلا لأنه ضار بفاعله أو بالناس
مباشرة أو مفضٍ إلى الضرر، وإن استباحة استمتاع الرجال بالنساء فيما دون الوقاع
ضار بالمستمتعين والمستمتعات وبغيرهم. وبيان هذا بالتفصيل لا يذكر في جواب
سؤال؛ ولكننا نذكر ما يخطر لنا من ذلك الآن بالإيجاز فنقول: إن لذلك مضرات
كثيرة:
(أحدها) : أن هذا الاستمتاع يغري صاحبه بالشهوة، ويولعه باللذة، حتى لا
يكون له همّ سواها، فإن من طبيعة نفس الإنسان أنها إذا أخذت بمبادئ الأمر
المستلذ بالطبع تتدرج فيه حتى تصل إلى غايته، وتكون قبل الوصول إلى الغاية في
بلبال وهم، واشتغال فكر وقلب، وهذا ضرر في نفسه وهو أصل لمضرات أخرى
تنشأ عنه كما يعلم مما يأتي.
(ثانيها) : أنه يورث النفس الصغار والضعة؛ لأن الولوع بملاعبة النساء شر
من الولوع بملاعبة الأطفال أو الحمام، فإن هذه على كونها اشتغالاً بالمحقرات
والسفاسف التي تنافي كبر العقل وعزة النفس ليس فيها من الخنوثة ومهانة النفس ما
في الولوع بملاعبة النساء.
(ثالثها) : أنه يملك الهوى وحب اللذة زمام الإرادة، وقلما تجد عند صاحبه
عزيمة ثابتة إلا ما عساه يكون في طلب لذته، ومن يستحل الزنا فيرتكبه عند شدة
الداعية إليه في المواخير العامة لا يكون عرضة لهذه الغائلة وما قبلها كالمسترسل في
ملاعبة النساء والاستمتاع بهن في غير المسيس، وإن كان للزنا مضرات أخرى شر
منهما.
(رابعها) : أنه لا بد أن ينتهي أمر هذا الاستمتاع بالفاحشة الكبرى لما فيه من
الإلحاح بالإغراء، والتجرئة على العصيان، فإن كان الفاسق يستمتع بعذراء يحافظ
على شرفها، ويخشى عاقبة فضيحتها، وقوي لذلك على ضبط نفسه معها، فإنه لا
بد أن يجمح به سلطان الهوى المطاع إلى غيرها.
(خامسها) : أن وازع الدين والحياء من الله تعالى يضعف ويضمحل في نفس
هذا المستمتع، وفي ذلك من الضرر الروحاني ما لا محل لشرحه هنا، ومن قرأ ما
كتبناه في معنى تكفير الحج للذنوب في الجزء الماضي؛ فإنه يستغني به عن طول
الشرح.
(سادسها) : أن هذا العاصي لسلطان الدين، الخاضع لسلطان الشهوة، لا
يكتفي غالبًا بالاستمتاع بامرأة واحدة لا سيما إذا كانت الخلوة بها لا تتيسر له دائمًا
فهو إذا جاء الوقت تهم به داعية الشهوة بدافع من التأثر والتأثير العصبي فيلتمس
غير مَن عرفها أولاً حتى يضيع كثيرًا من وقته، ويُحرم بذلك من إتقان عمله في
معيشته.
(سابعها) : أن هذا العاصي يُفسد بإسلاس قياده للذة - كثيرًا من النساء وهذا
شر في نفسه، وربما يتولد منه شرور أخرى كالتنازع بين الفاسقين أو بين الفاسق
وأقارب المرأة.
(ثامنها) : أن في هذا التنقل في الفسق من إتلاف المال ما يقل عنه كل إتلاف.
(تاسعها) : أن من اعتاد على التنقل في راتع الفسق كثيرًا ما يرغب عن
الزواج ويكتفي بالمسافحة أو اتخاذ الأخدان، وفي ذلك من المفاسد ما فيه وشرحه
شرح لمضار الزنا، وإنما كلامنا في الاستمتاع بما دونه إلى أن يؤدي إليه.
(عاشرها) : أن من اعتاد ذلك يُحرم في الغالب من السعادة البيتية التي ملاكها
قناعة كل من الزوجين بالآخر، ومن تنقّل في راتع الفسق لا يكاد يرضى بمن
يتزوج بها لا سيّما إذا اعتاد الاستمتاع بمن هي أجمل منها شكلاً، أو ألطف في ذوقه
دلاً، وكذلك المرأة، وناهيك بما في فقد هذه القناعة من ضروب الشقاء، والجناية
على النسل، فإنه مخرب للبيوت التي تتألف منها الأمة.
وجملة القول أن الاستمتاع المسئول عنه ضار في ذاته ومؤدٍّ إلى الفاحشة حتمًا؛
ولكنه شر طريق إليها؛ لأن من وقع في الفاحشة ابتداءً يوشك أن يدرك قبحها
ويتوب منها قبل الاسترسال فيها؛ ولكن من يقدم لها تلك المقدمة المهيجة فإنه
ينغمس فيها حتى يغرق ويكون من الهالكين.
أما مضرات الزنا في البدن والنفس والمال والأمة أو الاجتماع فسنشرحها في
وقت آخر، فعلى المؤمن بالله واليوم الآخر أن لا ينخدع لهواه ويتجرأ على
الاستمتاع بغير حليلته الشرعية غشًّا لنفسه بأن هذا مقدمة للزنا ليس فيه كبير ضرر
فإن هذا من وسواس الشياطين.