للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تأييد علماء الآفاق للفتوى
بحل طعام الكتابي على الإطلاق

نادت الجريدة المحدثة علماء الإسلام في الغرب والشرق للكتابة في موضوع
فتوى مفتي الديار المصرية للترانسفالي بحل طعام أهل الكتاب أو ذبائحهم خاصة،
وذكرنا في الجزء الماضي أن أحد علماء الديار التونسية أرسل إلينا رسالة في ذلك ثم
رأينا رسالة أخرى لبعض علماء فاس الأعلام في ذلك أرسلها مع كتاب منه إلى
الأستاذ الإمام، كما رأينا مقالات في بعض الجرائد الهندية، فرأينا أن ننشر الكتاب
ثم الرسالتين لما في ذلك من تأييد الحق وصلة علماء الأقطار الإسلامية بعضهم
ببعض في النوازل الفقهية ومن خذلان الباطل وأهله، وهذا نص كتاب العالم الفاسي:
الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
سيدنا الإمام، الدراكة الهمام، المتبحر مفتي الأنام، القائم بشريعة الإسلام،
الحائز قصب السبق، في الفضل والتقدم والمجد، الأستاذ مفتي الديار المصرية
أبو عبد الله سيدي محمد عبده. سلام على سيادتكم ورحمة الله.
أما بعد: فالمقصود الإعلام بأنا على محبتكم وودادكم وإن لم نَرَكم بالأبصار،
لكن نرجو الله تعالى بفضله أن يجمعنا بكم في هذه الدار، وقد أخبرني عن سيرتكم
ومحاسنكم صاحبنا وحبيبنا الفقيه الوزير العلامة الأسعد، البركة الفاضل الأمجد،
أبو عبد الله سيدي محمد الغباص الفاسي وزير الحرب الآن الذي كان سفيرًا
بالجزائر قبل هذا الوقت وإن كان لم يتلاقَ معكم أيضًا هناك وقد تأسف على ذلك.
وجاءه خبركم؛ وهو بوجدة فرجع سريعًا إلى الجزائر بقصد ذلك فلم يلحقكم هناك،
وإن كان تلاقى معكم نجله المبارك الميمون سيدي محمد؛ لكنه لم يكتفِ بذلك، ولا
زلنا جميعًا نرجو الله تعالى أن يجمعنا بسيادتكم على أحسن حال، بجاه النبي والآل.
ثُم إنه كان سألني بعد قدومه من الجزائر عن ذبيحة أهل الكتاب فأجبته بما قاله الإمام
ابن العربي وغيره من حليتها، وقد كانت وقعت فيها بفاس مذاكرة قبل هذا الوقت
فكتبت فيها جوابًا بذلك، فإذا به جاءتنا جريدة من محروسة مصر، فيها فتواكم عن
ثلاث مسائل، فأعجبتني وسُررت بها غاية السرور وضمنتها كتابًا لي في النوازل
لحسنها، ثم لما رأيت في تلك الجريدة نفسها كلامًا لبعض المارقين من الدين -
اغتظت لذلك، وعزمت أن أوجه لكم بعض ما كنت قيدته فيها من كلام الأئمة
المهتدين، فشاورت في ذلك الوزير المذكور، فحث عليَّ في تقديم إرساله على
جميع الأمور، وأعجبه ذلك مُظهرًا به غاية الفرح والسرور، ومسلِّمًا عليكم أيضًا
وطالبًا صالح أدعيتكم في خلواتكم وجلواتكم، والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ١٤ ذي القعدة الحرام عام ٢١ ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... المهدي الوزاني بفاس ...
وأما رسالة هذا العالم فهذا نصها وكتب أنه لم يرسل جميع ما كتبه لعدم الحاجة
إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
وبعد: فهذا جواب عما كثر فيه الخوض بين الناس في ذبيحة الكتابي، هل
تؤكل أم لا؟ ، ففي نوازل العلامة أبي عبد الله سيدي محمد الورزابي أنه (سئل)
عن ذبيحة الكتابي هل تحل المزكّى كيفما كانت سواء وافقت ذكاتنا أم لا، أو فيها
تفصيل؟
(فأجاب) : قال الإمام ابن العربي: إذا سلّ النصراني عنق دجاجة حل
للمسلم أن يأكلها؛ لأن الله أحل لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم، وكل ما
يرونه في دينهم فإنه حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه ... إلخ (وقد تقدم في الصفحة
٧٧٩ من المنار ثم قال الفاسي)
قلت: ومعنى قوله: وقد قال علماؤنا ... إلخ أنه حيث أباح العلماء وطء نسائهم
وبناتهم المقبوضة منهم في الصلح معهم مع أن ذلك أشد من طعامهم الذي يستحلونه
في دينهم، فيجوز لنا أكل ذبيحتهم بالأحرى؛ لأنه يُحتاط في الفروج ما لا يحتاط
في غيرها والله أعلم. (وقد أفتى الإمام الحفّار بمثل ما قاله ابن العربي وانتصر له
كما في المعيار ووجهه، فقال: أفتى ابن العربي بجواز أكل دجاجة فك نصراني
رقبتها، ولا إشكال فيه عند التأمل؛ لأنه تعالى أباح لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه
في دينهم على الوجه المباح لهم من ذكاته المشروعة لهم ولا يشترط موافقة ذكاتهم
لذكاتنا ... ) ... إلخ قاله الحفار وقد تقدم في (٧٧٩ و٧٨٠) من المنار ثم قال
الفاسي:
(وقد سكت ابن عرفة عن فتوى ابن العربي وأقرها وقال: حاصله أن ما
يرونه مذكى عندهم حلال لنا وإن لم تكن ذكاته عندنا ذكاة. وكذا مؤلف المعيار
والزياتي في فتوى الحفّار وسلماه أيضًا، قلت: وأنا تابع لهم أيضًا.
الدليل على صحة ما قاله الإمام ابن العربي ما ذكره العلماء فيما ذبحه أهل
الكتاب للصنم فإنه حرام مع المنخنقة وما عطف عليها وقيدوه بما لم يأكلوه، وإلا
كان حلالاً لنا. قال الشيخ بناني على قول المختصر: (وذبح لصنم) - ما نصه:
الظاهر أن المراد بالصنم كل ما عبدوه من دون الله سبحانه وتعالى بحيث يشمل
الصنم والصليب وغيرهما؛ وإن شرط في أكل ذبيحة الكتابي كما في التتائي
والزرقاني وهو الذي ذكره أبو الحسن رحمه الله في شرح المدونة وصرح به ابن
رشد في سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح ونصه: كره مالك رحمه الله ما ذبحه
أهل الكتاب لكنائسهم وأعيادهم؛ لأنه رآه مضاهيًا لقوله عز وجل: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: ١٤٥) ، ولم يحرمه؛ إذ لم يَرَ الآية متناولة له وإنما رآها
مضاهية له؛ لأن الآية عنده إنما معناها فيما ذبحوا لآلهتهم مما لا يأكلون، قال:
وقد مضى هذا المعنى في سماع عبد الملك اهـ.
وقال في سماع عبد الملك عن أشهب: وسألته عما ذبح للكنائس قال: لا بأس
بأكله. ابن رشد: كره مالك في المدونة أكل ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم ووجه
قول أشهب أن ما ذبحوه لكنائسهم لما كانوا يأكلونه وجب أن تكون حلالاً لنا؛ لأن الله
تبارك وتعالى يقول: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: ٥) ، وإنما
تأول قول الله عز وجل: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: ١٤٥) ، فيما
ذبحوه لآلهتهم ممّا يتقرّبون به إليها، ولا يأكلونه فهذا حرام علينا بدليل الآيتين
جميعًا اهـ.
فتبين أن ذبح أهل الكتاب إذا قصدوا به التقرب لآلهتهم فلا يؤكل؛ لأنهم لا
يأكلونه فهو ليس طعامهم ولم يقصدوا بالذكاة إباحته [*] وهذا هو المراد هنا، وأما ما
يأتي من الكراهة في ذبح لصليب فالمراد به ما ذبحوه لأنفسهم؛ لكن سموا عليه اسم
آلهتهم، فهذا يؤكل بكرهٍ؛ لأنه من طعامهم. هذا الغرض من كلام بناني وسلمه
الرهوني بسكوته عنه، فهذا شاهد لابن العربي قطعًا؛ لأنه علق جواز الأكل على
كونه من طعامهم والمنع منه على ضد ذلك. وأيضًا ليس كل ما يحرم في ذكاتنا
يحرم أكله في ذكاتهم، كمتروك التذكية عمدًا؛ فإنها لا تؤكل بذبيحتنا [١] وتؤكل
بذبيحتهم حسبما تقدم؛ فإذًا المدار على كوْنها من طعامهم لا غير. والله أعلم.
فظهر أن ما قاله الإمام ابن العربي لم ينفرد به؛ بل تبعه عليه جماعة من
المحققين؛ لكنه اعترضه عليه جماعة من المتأخرين، قال ابن ناجي في شرح
الرسالة: وإذا كان النصراني يسل عنق الدجاجة فالمشهور أن لا تؤكل وأجاز ابن
العربي أكلها ولو رأيناه يسل عنقها؛ لأنها من طعامهم.
ابن عبد السلام وهو بعيد: وبالغ البساطي فقال: ليت قوله هذا لم يخرج
للوجود ولا سطر في كتب الإسلام اهـ، ابن سراج: وهو هفوة؛ لأنا إذا لم نستبح
الوحشي بعقرهم فأحرى الإنسي. وعلى استباحته فعلله اللخمي بأنه ذكاة عندنا
وعقرهم الإنسي ليس بذكاة عندنا فلا يباح بذلك اهـ.
قلت: وهؤلاء المعترضون عليه لم يأتوا بحجة ولا دليل، ولا بنص صريح أو
رواية تشفي الغليل، وإنما أتوا بمجرد كلام خشن ليس فيه أدب مع القاضي،
لاعتقادهم أنه خالف ما تقرر قبله في الزمان الماضي، ولا سيما الشيخ الرهوني رحمه
الله. أيضًا المعترض عليه هو ابن عبد السلام وابن سراج والباسطي، والمؤيد
لكلامه هو الحفار وصاحب المعيار والزياتي، فيتقابلان، ويتساقطان، ويبقى كلام
ابن العربي سالمًا.
وقول الشيخ الرهوني: ويكفي في كون ما لابن العربي شاذًّا اتفاق الأئمة على
عزوه له وحده ... إلخ - فيه نظر ظاهر؛ لأن هذه المسألة إنما تكلم عليها ابن العربي
فقط دون غيره من الأئمة، فلم يتعرضوا لها بنفي، ولا بإثبات، فلذلك نسبوها له
وحده. وإنما يصح ما ذكره لو تعرضوا لها في كتبهم وأفتوا فيها بخلاف ما قاله هو،
فهنا يصح له ما قاله، أما حيث سكتوا عنها - وهو الذي تكلم عليها بالخصوص -
فلا. وأما اعتراضهم عليه فقدمنا أنهم لم يأتوا عليه بدليل فهو والعدم سواء، وقول
ابن سراج: لأنا إذا لم نستبح الوحشي بعقرهم فأحرى الإنسي ... إلخ - لا حجة فيه؛
لأن الوحشي كما قاله الزرقاني، إنما لم يستبح بعقرهم؛ لأن فيه نوعًا من التعبد؛
أي: وليسوا هم من أهله فتأمله. وأيضًا ما قاله غير متفق عليه عندنا؛ بل معترض
ولا يحتج بمختلف فيه كما هو معلوم. قال الزرقاني - على قول المختصر -:
(وجرح مسلم) ... إلخ ما نصه: فلا يؤكل بصيد الكافر؛ لقوله تعالى: {تَنَالُهُ
أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} (المائدة: ٩٤) ؛ أي: والخطاب للمؤمنين وإنما افترق صيده من
ذبحه؛ لأن في الصيد نوع تعبد ووقوفًا مع الإضافة إلى المؤمنين في الآية ولا
يعارضه عموم {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: ٥) كما استدل به
أشهب وابن وهب وجماعة على عدم اشتراط الإسلام؛ لتخصيصها بالآية الأخرى
جمعًا بين الدليلين ... إلخ.
وقال في التوضيح: الاستدلال بهذه الآية على منع صيد الكتابي هو الذي في
المدونة وفيه نظر؛ لأنه اختلف في المراد بهذه الآية، فقيل: المراد بها إباحة الصيد.
وقيل: منعه واختاره اللخمي وغيره، وأن المراد الامتناع في حال الإحرام، والابتلاء
في {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ} (المائدة: ٩٤) الاختبار، هل يصبر عنه؛ لقوله تعالى:
{لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} (المائدة: ٩٤) ، ولقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ
ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (البقرة: ١٧٨) ا. هـ نقله بناني وأقره وكذا سلمه
الرهوني بسكوته عنه، فاستدلال ابن سراج بما قاله باطل لا يصح، وقال الرهوني
على قول الزرقاني: كما استدل به أشهب وابن وهب ... إلخ، ما نصه: ما قاله
هؤلاء هو الذي اختاره الباجي وابن يونس وابن العربي واللخمي. وقيل: إنه
مكروه. قال ابن بشير: ويمكن أن تحمل المدونة على الكراهة ... إلخ، فأنت ترى
بعضهم نظر في كلام المدونة وبعضهم تأوله، كما أن جماعة من أهل المذهب
خالفوه، فكيف يستقيم الاستدلال به لابن سراج؟ والله أعلم. قاله وقيده عبد ربه تعالى
محمد الوزاني) . اهـ الحسني العمراني.
(المنار)
جاء في كتاب الصيد من المدونة بعد ما تقدم في صيد اليهودي والنصراني ما
نصه: قال سحنون: قال ابن وهب: لا بأس بأكل صيدهما. وقال علي بن زياد:
فأنا لا أرى به بأسًا؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ
لَّكُمْ} (المائدة: ٥) .ا. هـ
وهذا هو المتعين والآية ليست في الموضوع؛ وإنما هي في المحرم بالحج.
وجاء في كتاب الذبائح من المدونة ما نصه:
قلت: أفتحل ذبائح نساء أهل الكتاب وصبيانهم؟ قال: ما سمعت من مالك
فيه شيئًا؛ ولكن إذا حل ذبائح رجالهم فلا بأس بذبائح نسائهم وصبيانهم إذا أطاقوا
الذبح. قلت: أرأيت ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم أيؤكل؟ قال: قال مالك: أكرهه
ولا أحرمه. وتأول مالك فيه: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: ١٤٥) ، وكان
يكرهه من غير أن يحرمه. قلت: أرأيت ما ذبحت اليهود من الغنم فأصابوه
فاسدًا عندهم لا يستحلونه لأجل الرئة، وما أشبهها - التي يحرمونها في دينهم أيحل
أكله للمسلمين؟ قال: كان مالك مرة يجيزه فيما بلغني اهـ.
فأنت ترى هذا النص أوسع مما ذهب إليه ابن العربي الذي اشترط أن يأكل
منه أحبارهم ورهبانهم، وإذا كان الإمام مالك تأوّل النص في المحرم تحريمًا دينيًّا،
وهو ما أهل لغير الله به لأجل عموم حل طعام الكتابي، فتحليل القاضي أبي بكر ما
فتل الكتابي عنقه لا يحتاج إلى تأول؛ فإن القرآن لا يتناوله بالنص؛ إذ ليس من
الميتة حتف أنفها ولا من المنخنقة وما بعدها، نعم؛ إنه من قبيل المخنوق ولا نص
فيه، فإن المنخنقة في اللغة ما انخنقت بدون فعل فاعل وهو الذي رجحه محققو
المفسرين، قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: (والمنخنقة) ما نصه (الجزء
السادس صفحة ٣٩) :
وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: هي التي تختنق، إما في وثاقها وإما
بإدخال رأسها في الموضع الذي لا تقدر على التخلص منه فتختنق حتى تموت؛
وإنما قلت: ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك من غيره؛ لأن المنخنقة هي
الموصوفة بالانخناق دون خنق غيرها لها، ولو كان معنيًّا بذلك أنها مفعول بها لقيل:
والمخنوقة، حتى يكون معنى الكلام ما قالوا اهـ.

رسالة العالم التونسي
إلى العلامة النقَّاد السيد منشئ المنار الأغر:
لقد كنت أحب أن أوجه إلى مناركم شيئًا من قوادح أفكاري، وأنيط بقمته العليا
قبسًا من ناري، وما كنت أحسب أن سيكون أول شيء أنبئكم فيه برأيي مسألتين كثر
فيهما اللغط والاختلاف بالقطر المصري وقطرنا؛ ولكن من البخت أن استهتار الناس
وتهافتهم على مهواة الغلط في هاتين المسألتين شفع ميلي إلى مخاطبتكم بعزم أصدر
ازدواجهما هاته النتيجة التي توافيكم. ولطالما هجس بخاطري أن أصدع في مناركم
بتحقيقات أحب أن أزيل بها أوهامًا عن بعض الآراء ببلدنا غير واثق بجريدة تصلح
لنشر المسائل العلمية الحقيقية إلا جريدتكم المبني بحثها على أساسي الجدل والشرع
لا على شفا جرف الجمود والمغالطة ثم يصدني عن ذلك وفرة الأشغال، وسرعة
المناظرين إلى تسليم سلاح الجدال، وما صادفت مسألة كثر فيها اللغط عن جهل
مركب، واعتماد على عصا إرضاء العامة وتعصب، ما صادفت في هاتين المسألتين
وهما: مسألة أكل موقوذة الكتابي ونحوها من طعامه، ومسألة لبس قلنسوة أو نحوها
من لباس غير المسلمين، اللتان أفتى فيهما ذلك الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية
بالجواز لبعض مسلمي الترانزفال وبأن ذلك بما لا مطعن فيه، ولا متوقف بعد
النظر إليه؛ ولكن بعض من يستهويه حب الهذيان، والحكم فيما لا ترضى فيه
حكومته من مسائل الأديان، أبى أن يلقي عصا التسليم، ووجدها فرصة للطعن في
رجل من العلماء عظيم، بتمويهات ربما استرهبت العامة الذين دينهم الفهم،
واستهوت العلماء المشبهين بهم، الذين متى نزلت بهم الحادثة سردوا ما يحفظونه
من الكلمات، بدون ملاحظة لجانب الحقيقة ولا التفات.
ولقد كان الكثير من المنكرين ساهين أو متغاضين عن مصدر المسألة هل هو
الرغبة والاستحباب، أم تحقيق الحق وإزالة الحجاب؛ ولكن مع هذا لم يزل من بين
قومنا طائفة من أساتذة العلوم الذين تنخل نباهتم القشر من اللب، يفهمون الحقيقة خلافًا
لما لمحناه في بعض الجرائد المصرية - إن صدقت- من الحكاية عن الأزهريين خطأً
صريحًا، وكم من عائب قولاً صحيحًا، وربما كان بعض الجرائد التي لا يقوم
لأصحابها وزن في الاجتماع، ولا يلهو بها إلا الباطلون من الرعاع، قد أخذ في
هاتين المسألتين نصيبًا مع الناس، وأعجب مشيخة الإسلام في الآستانة العلية وجهلوا
أن حكم الله لا يثبته إلا الدليل، سواء كان من الأكثر أم من القليل، وسواء أحبه
الناس أم كرهوه، وبادر المحبون إلى العمل به أم أخروه!
وذلك كله أنبأنا، (وهو صادق فيما ينبي) أن كثيرًا من الجرائد المصرية لا
يترقب من بحثه بيان الحقيقة أو بالأقل دفع معرة الغلط، وإنما يقصد أن تصدر
جريدته في الميقات المعين لها ملأى كلامًا، ولو علم: إنه مبحث يقال لمثله فيه عند
المعارضة سلامًا. ونحن (وإن كنا في غنى عن تعب تغيير هاته الأخلاق بما
التزمتموه في مناركم من تشخيص الحقيقة) أحببنا أن نصدع بكلمات لنا ليعلم أهل
الحق أن لهم نصراء لا يزالون ظاهرين وإن أصبحوا ضعفاء الشيعة. ورمية رهط
يريدون مسخ الحق وتشنيعه، وما كان الله تعالى ليودَّعَ دينه أو يضيعه.
الموقوذة ونحوها من ذكاة أهل الكتاب
لمّا انقسم الناس في الدين إلى مقلّدين وناظرين وجب أن نخوض عباب هاته
المسألة تارة إلى وجهة التقليد وأخرى إلى هَدي النظر.
فأما الخطة الأولى: فإن الناس بعد أن اتفقوا أن الله تعالى أحل لنا طعام أهل
الكتاب، واتفقوا على أن ذبائحهم داخلة تحت عموم طعامهم، واتفقوا على أن لا
يشترط في ذبيحتهم أن تكون على الوصف المسطور في كتبهم - اختلفوا فيما كان من
ذكاتهم على بعض النعوت التي نص الله تعالى في صدر الآية على تحريمها
كالمنخنقة والموقوذة وما أهل به لغير الله والخلاف فيها في مذهب مالك معلوم لمن
كان ذا بصر في الفقه.
ذهب ابن عبد الحكم وابن وهب من أصحاب مالك فيما ذبح لغير الله للكنيسة أو
للمسيح إلى جواز أكله. وذهب ابن القاسم إلى منعه، وهذا يرشد إلى أنهم يختلفون في
تخصيص الطعام المباح بغير ما تلي من قبل، وفي تخصيص تحريم ما تلي علينا
بحالة لا يكون فيها طعام أهل الكتاب. ونحن هنا لا يهمنا أن نبحث عن ترجيح أحد
الاحتمالين حتى نبحث في المسألة بحث المجتهدين. وعلى قولي ابن عبد الحكم
وابن وهب انبنى ما أفتى به القاضي أبو بكر بن العربي والذي يكشف عن خلاصة
الفقه في هاته المسألة قول الإمام عبد المنعم بن الفرس الخزرجي الأندلسي المتوفى
سنة ٥٩٩ في أحكام القرآن ونصه:
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: ٥) اتفق على أن ذبائحهم
داخلة تحت عموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ} (المائدة: ٥) ؛ فلا
خلاف في أنها حلال لنا وأما سائر أطعمتهم مما يمكن استعمال النجاسات فيه
كالخمر والخنزير فاختلف فيه؛ فذهب الأكثرون إلى أن ذلك من أطعمتهم.. وذهب
ابن عباس إلى أن الطعام الذي أحل الله لنا ذبائحهم. فأما ما خيف منهم استعمال
النجاسة فيه فيجب اجتنابه... وإذا قلنا: إن الطعام يتناول ذبائحهم باتفاق فهل يحمل
لفظه على عمومه أم لا؟ فالأكثر إلى أن حمل لفظ الطعام على عمومه في كل ما
ذبحوه مما أحل لهم أو حرم الله عليهم أو حرموه على أنفسهم.
وإلى نحو هذا ذهب ابن وهب وابن عبد الحكم. وذهب قوم إلى أن المراد من
ذبائحهم ما أحل الله خاصة، وأما ما حرم الله عليهم بأي وجه كان فلا يجوز لنا، وهذا
هو المشهور من مذهب ابن القاسم. وذهب قوم إلى أن المراد بلفظ الطعام ذبائحهم
جميعًا إلا ما حرم الله عليهم خاصة لا ما حرموه على أنفسهم. وإلى نحو هذا ذهب
أشهب، والذين قالوا: الله يجوِّز لنا أكل ما لا يجوز لهم أكله اختلفوا هل ذلك على
جهة المنع أو الكراهة، وهذا الخلاف كله موجود في المذهب. واختلف أيضًا فيما
ذبحوه لأعيادهم وكنائسهم أو سموا عليه اسم المسيح هل هو داخل تحت الإباحة أم لا؟
فذهب أشهب إلى أن الآية متضمنة تحليله وأن أكله جائز وكرهه مالك رحمه الله
وتأول قوله تعالى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} (الأنعام: ١٤٥) على ذلك ...
{الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ} (المائدة: ٥) ، اختلف العلماء في الذين أوتوا
الكتاب من اليهود والنصارى مَن هم ... وقد اختلف في المجوس والصابئة
والسامرة (كذا) هل هم ممن أوتي كتابًا أم لا؟ وعلى هذا يختلف في ذبائحهم
ومناكحتهم.ا. هـ ملخصه.
والناس وإن اختلفوا في الرجل المدعو إلى وليمة النصراني هل يأكل ما يراه
وَقَذه، فهم يتفقون في محل الضرورة في بلد أهله لا يذبحون إلا كذلك فماذا يصنع
المسلم من بينهم! وربما كانت هاته الكلمة تحرك مسألة تقدير الضرورة مما هي في
قوله تعالى:] إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [، ولنا فيها فهم [**] .
فإن أردنا أن نخوض في هاته المسألة خوض العارفين الناظرين - وقليل
ما هم - فإنا نقول: وردت الآية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ} (المائدة: ٣)
الآية. فحرمت أشياء سمتها وأباحت شيئًا بالعموم وهو طعام الذين أوتوا الكتاب،
فمن المحتمل أن يكون عموم قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ} (المائدة: ٥)
مخصوصًا بما مر من المحرمات، وقد يحتمل أن الله تعالى أراد عموم الطعام
فأورده بعد ذكر المنصوصات على وجه يشبه ورود النسخ بعد النص، وإن
كانت الآية هنا واحدة. والحنفية قاطبة يرون العام الوارد بعد الخاص ناسخًا
وخالفهم جمهور المالكية والشافعية فرأوه مخصوصًا بالمتقدم.
والحقيقة في هذا الأصل أن العام إذا ورد بعد الخاص على وجه لا يمكن فيه
الجمع بين عمومه وخصوص الخاص ينسخ الخاص لمقدار مدلول عمومه لا يبطله
فكان شبيهًا بالبيان. ولهذا سمّاه الحنفية ناسخًا نظرًا لنسخه ما اقتضاه الخصوص أول
مرة ولم يسمه غيرهم نظرًا إلى أن النسخ إبطال الحكم كله وكأنه خلف في اللفظ
والغاية متحدة.
ولقد رأيت رأيًا ربما رجح أحد الاحتمالين أيضًا وهو أن الله تعالى أحل لنا
طعام أهل الكتاب بعد أن قال: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (المائدة: ٥) ،
والطيب ما وافق شروط الله تعالى مما شرع لنا ثم قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ
حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: ٥) فنبّه بعطفه على الطيبات عطف الجملة على الجملة أنه
حلال متى لم يكن على شروطنا، وكان في مظنة يكون فيها غير طيب أو تحقق فيه.
أما إن وافقنا فلا حاجة إلى التنصيص عليه , وإنما قال الله تعالى: {أُوتُوا الكِتَابَ} (المائدة: ٥) دون الذين يتمسكون بالكتاب أو يقرؤون الكتاب؛ ليرشدنا إلى أن مناط
الحكم هو أن يكون الطعام طعام من له انتساب إلى الكتاب، ولو انتسابًا تاريخيًّا لم
يبق منه إلا اسمه وتشيعه فلا يكلفنا البحث عن صحة فقههم فيما يأتون من ذكاتهم،
وكيف يكلفنا ذلك وهو تعالى يعلم وقد أعلمنا أنهم بدلوا كتبهم تبديلاً رفع الثقة بها،
ونسف العلم بصحة أي شيء منها لاحتمال التبديل فيه. فذهب ما يهذبه كثير من
الناس يسرد علينا نصوص التوراة. ومن عجيب حالتهم المضحكة المبكية أنهم
يبتدئون بالنكير على الناظرين في الدين ثم هم يجتهدون فيه ويشرحون مراد الله
تعالى بالتوراة والإنجيل، بعدما أيقنوا من التحريف والتبديل.
أما نقل فتوى الأستاذ الإمام من هذا الباب إلى باب ما يذبح بعد عقره أو جرحه
فإنني أخال أنه دخول إلى مفازة يعسر الخلاص منها؛ لأنه بعد موضع يفصل فيه
الفقهاء حالتها بعد الوقذ،هل كانت تعمل فيها الذكاة. واحتجاج الأستاذ الإمام أيده الله،
وسؤال السائل يدلان أنهما ما قصدا إلا صحة هذا لنا متى كان من أهل الكتاب، لا
أن المسلم يستأنف فعله [***] .
لبس القلنسوة ونحوها من لباس الكفار
أما مسألة القلنسوة فحسبهم من حيث التقليد أن الفقهاء ما قالوا إن لبس أي شيء
من ثياب الكفار موجبًا للردة إلا لباس الدين، حيث ينضم إليه قرائن تفيد كثرتها
قطعًا بأن صاحبه انسلخ عن الدين، وفرق عظيم بين نحو الزنار لباس الكنيسة وبين
لبس القلنسوة ونحوها من لباس الشعب والأمة التي ما كان الدين فيها إلا اتفاقًا. وقد
أنهى بعضهم حكم لبسها إلى الوجوب وبين الردة والوجوب مراتب كثيرة منها الكراهة
أو الإباحة، والذي يحب أن ينظر نظر المغشي عليه من التقليد يمكنه مع ذلك أن
يجزم بحالة الحكم في صورة الاستفتاء؛ فإن كنّا من أهل النظر قلنا: إن الردة
والإيمان أمران لا يتعلقان إلا بالفؤاد، والإسلام شيء يتعلق بالإذعان إلى الأحكام
الشرعية، والإعلان بتصميم القلب على تصديقها فلا يبطلان إلا حيث انهدمت هاته
المقومات، وربما كان بعض اللباس مع بعض قرائن مؤذنًا بانسلاخ صاحبه من
الإسلام؛ ولكن يكون ذلك حيث يكون اللباس لباس الدين لا لباس الأمة وحيث ينضم
إليه ترك الإعلان بكلمة الإسلام والتردد على شعائر الكفر، وكل واحد من هذين
كاف في الردة وفاقًا وخلافًا بين العلماء، أما التزام عادة من عادات الكفار لحب في
العادة لا في دين أهلها أو لانطباقها على حاجة الرقي في الوجود المدني فليس من
الكفر في شيء.
ليس إسلام العربي في عمامته وإلا لكفر إذا خلعها عند وضوئه، ولا كفر الكافر
في قبعته وإلا لكان مسلمًا إذا كشف رأسه للسلام. وإنّا ننظر أنواع الشعوب الذين
اتفقوا في الدين يختلفون في اللباس اختلافًا بعيدًا، وما يقضي ذلك باختلافهم في
الدين كاختلاف أصقاع المسلمين بين حجازي وتركي وفارسي ومصري وتونسي كل
لباس منها يخالف لباس الآخر خلافًا بينًا، والكل غير لباس الصحابة. فإذا لبس
الرجل لباسًا باعتبار أصالته فيه، فذلك الواجب أدبًا عليه. قد كان الناس يدخلون
في دين الله أفواجًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فما
سمعنا - ولو كان لسمعنا شيئًا تتوفر دواعي العلماء على نقله ولا يقعد به شيوعه عن
وصول ذكره - أحدًا منهم أمر الفارسي أن يتحول إلى اللباس العربي.
ثم مشاهدة المساواة اليوم بين مسلمي القطر الواحد وكُفَّاره في زي واحد شاهدة
على ما نقول إلا بعد أن ميز المسلمون أهل ذمتهم بعلامات حين أرادوا أن ينكثوهم
أيمانهم من بعد عهدهم ولا يرقبون فيهم ذمتهم. وهل كانت ثياب رسول الله وأصحابه
إلا كثياب المشركين من العرب؟ أم هل علمناهم حين دخلوا في الحنيفية استبدلوا
لبوسهم؟ كلا، إن الدين أكبر من الاهتمام بما يهتم له الماشطات وسخفاء
المزينين.
أما استبدال الرجل بزي زيًّا آخر كيف كان بلا داعٍ يقصد للعقلاء فشيء يدل
على سخافة عقل وانحراف إدراك؛ ولذلك يتخذ سخريًّا بين الناس في كل زمان
ومكان. نرى الرجل يلبس لبوس الإفرنج لكونه من أهل الدولة فلا يلومه أو يسخر
منه أحد فلو لبس عمامة العلماء وطيلسانهم لكان ضحكة للضاحكين. وبالعكس نرى
العالم مثلاً. وهذا هو دستور هاته المتشابهات التي صيرت السهل جليلاً، وجعلت
هؤلاء القوم لا يكادون يهتدون سبيلاً، وإليكم تحيتي وسلامي على بعد الدار،
وقناعة من التعرف بالأخبار.
وحرر في ٢٣ ذي القعدة سنة ١٣٢١. اهـ.