للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مجمل الأحوال السياسية
ألمعنا في العدد الماضي إلى أمهات السياسة الحاضرة، وتكلمنا على بعضها،
ووعدنا بالكلام على باقيها فيما يأتي من الأعداد، وإنجازًا للموعد نأتي على
بيانها بالإجمال على الوجه الذي يوجب العظة والاعتبار مبتدئين بتمهيد في بيان
الاستعمار الذي هو منشأ هذه الأحوال فنقول:
من طبيعة العمران البشري استيلاء القوي على الضعيف، ومن هنا كان طلب
الفتوح والتغلب طبيعيًّا في البشر. ولم يكن في العصور الأولى طريق للفتوح
والتغلب إلا الحرب العوان، التي لم يُلْقِ الإنسان أوزارها عن عاتقه في دور من
الأدوار، ولقد انطبعت الأنفس عليها بالعمل المتكرر وحتى كادت تكون مقصودة
لذاتها، أعني الفتك المجرد عن ملاحظة المنفعة التي عليها مدار جميع أعمال
الإنسان. وأول تغيير مهم حصل في تاريخ الحرب فخفف ويلاتها وجعلها في ضمن
دائرة معقولة ما جاء به الدين الإسلامي، وإن لم يجر عليه المسلمون في بعض
حروبهم وغزواتهم [١] ، وسنفرد للكلام على تاريخ الحروب فصلاً مخصوصًا،
ولكنني الآن بإثبات الآية القرآنية الشريفة التي تسمى (آية الجهاد) وما يتلوها من
الآيات المبينة حكمة الحرب، وسبب الإذن فيه، وما يشترط في المحاربين
إثباتًا لقولنا وهي:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ
لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: ٣٩-٤١) .
وهذه الآيات صريحة في أن الفائدة من الحرب ينبغي أن يلاحظ منها منفعة
المحاربين (بفتح الراء) بالإرشاد إلى إزالة المنكرات وعمل المعروف بواسطة
التعليم، لا بواسطة الجبر والإلزام، وهذا هو الذي تدعيه الأمم الأوربية اليوم،
حيث يزعمون أن غرضهم من الفتوحات نشر المدنية وتهذيب الأمم المتوحشة.
وإذا أنكرنا صدقهم في هذه الدعوى، وجزمنا بأن الغرض الصحيح تحويل
مجاري الثروة من البلاد التي يفتحونها إلى بلادهم، وفتح أبواب الرزق لأممهم، فلا ننكر عليهم الاجتهاد في تخفيف مصائب الحروب والتباعد عنها ما وجدوا إلى ذلك
سبيلاً. والأصل الذي تعتمد عليه تلك الأمم في ذلك، وهو أساس مدنيتهم ودعامة
قوتهم: الاقتصاد وتوفير الثروة، ولذلك جعلوا وسيلة الفتوح الكبرى الشركات
التجارية التي تستولي على الأفكار والعقول بواسطة التربية والتعليم، ونشر لغات
أممهم وآدابها، وغيروا اسم الفتوح والتغلب فسموه استعمارًا، واكتفوا بالقبض على
زمام السلطة بالفعل، وأبقوا للأمراء الشرقيين ألقابهم الضخمة يتمتعون بها؛ ففي
الهند نحو من تسعين ملكًا ما بين: نواب (الأمير المسلم) ، وراجا (الأمير الوثني) ،
وليس لهم من الأمر شيء إلا ما ينفذون به إرادة الحكمدار الإنكليزي ويأتمرون
بأوامره (إلا قليلاً منهم) .
وتبارت تلك الأمم في الاستعمار، وانحدرت على الشرق انحدار الغيث
المدرار حتى لم يبق صقع من أصقاعه، ولا قطر من أقطاره إلا وتدفق عليه هذا
السيل المنهمر، فمنها ما أدركته بوادره، ولا ندري ماذا تكون أواخره، وبالجملة لم
تبق مدينة ولا قرية إلا وأصابها شيء من رشاشه، فإن لم يصبها وابل فطل، هذا
هو الاستعمار الذي هو منشأ جميع المشاكل السياسية الحاضرة، ومثار الخلاف بين
الأمم، ومولد الفتن بين الدول، وقد ذكرنا لك بعض هذه المشاكل، وإليك بيان
بعض آخر.
***
الهند
مستعمرة عظيمة شرع الإنكليز في تأسيسها عندما أحسوا بخيال الحرية يطوف في أذهان الأميركيين الذين استعمروهم من قبل، وعلموا أن التربية الصحيحة وتعلم
الفنون العقلية والعملية لا بد أن ينفخَ فيهم روح الثورة، فيهبوا إلى طلب الحرية
والاستقلال.
ولقد صدق الظن ووقع ما كانوا يحذرون واستغنوا بممالك الهند الفسيحة عن
ولايات أميركا التي اتحدت على محاربتهم، فتسنى لها الظفر عليهم واستقلت،
فسميت (الولايات) ، وهم يحذرون اليوم من الهنود ما لاقوه من الأميركيين من قبل،
وإن كانت وسائل التربية عند هؤلاء ضعيفة، والعلوم لم تنشر إلى الدرجة التي
ينشأ عنها مثل تلك الأعمال التي صدرت من الأميركيين، لكن الأمة الإنكليزية
الحكيمة تبني حياطها على أسس الاحتياط، ولذلك عملت على إنشاء مستعمرة
عظيمة في إفريقية تستغني بها عن الهند إذا أتيح لها التفصي من عُقُلها، والتملص
من سلطتها بواسطة انتشار التعليم، أو بمساعدة دولة روسيا الطامعة فيها، ومع هذا
لم تأل جهدًا في سبيل المحافظة عليها، فقد جعلت لها السلطة على ترعة السوسي
التي هي طريق الهند بحرًا واكتفت بالسد المنيع الذي بينها وبين روسيا من جهة
الشمال، وهو الأمة الأفغانية التي لا تجهل روسيا قوتها ومنعتها، وحفظت بريطانيا
العظمى لهذه الإمارة الصغرى حقوق الجوار وساعدتها على تقوية بلادها بالمال
والرجال، وعقدت معها المحالفة، كما هو الشأن بين الأكفاء والأمثال.
ثم لما شعرت بدبيب الروس نحو تلك الحدود، حاولت امتلاك المضايق
وشعاب الجبال، والاستيلاء على جميع المراكز الحربية، وساعد الأمة على ذلك
قبض حزب المحافظين على زمام الحكومة، ومن سياسة هؤلاء توسيع دائرة السلطة
في كل آن، خلافًا لحزب الأحرار. وفي العام الماضي تحرشت العساكر الهندية
الإنكليزية بالقبائل المستقلة في الحدود الهندية الأفغانية ابتغاء إدخالها تحت الحماية
البريطانية، فنفرت تلك القبائل خفافًا وثقالاً، ودافعوا عن استقلالهم، واستنفروا مَنْ
في جوارهم من القبائل، واستفحل أمر الفتنة، وكانت الحرب سجالاً، بل دارت
الدائرة في الأكثر على الإنكليز، فجهزوا جيشًا عرمرمًا يربي على السبعين ألفًا،
فجاء الشتاء ولم يقووا معه على إطفاء نار الثورة، فأرجئوا الحرب إلى فصل الربيع.
ونادَى اللورد سالسبري رئيس الوزارة بعدم الحاجة إلى توسيع نطاق الملك،
وقالت التيمس بعد بحث طويل في حرب الحدود: إن إنكلترا لا تعوزها الأراضي
الآن، فيجب أن تغض الطرف عن المضايق التي تسعى لامتلاكها إلا مضيق خبير.
ثم قالت بعد: إن قبائل الإفريدس أولو قوة وأولو بأس شديد، وعندهم الأمانة، فإذا
وكل إليهم حراسة ذلك المضيق قاموا به أحسن قيام.
ولا يخفى أن هذه القبائل أشد الثائرين شكيمة، فقول التيمس ينبئ عن تعسر
إخضاع العصاة أو تعذره. وقد أعلن قائد الجيش الهندي أخيرًا أنه مستعد لإخضاعهم
بالقوة إذا لم يستسلموا بأنفسهم، ويتوقع إعادة الكرة قريبًا والله أعلم بمصير الأمور.
وقد منيت الهند في العام الماضي بالطاعون، وعاودها في هذه السنة، ففتك
فيها فتكًا ذريعًا. وهو الآن آخذ بالتناقص لذهاب البرد. وقد اتخذت الحكومة وسائل
صحية مخالفة لعادات أهل البلاد وتقاليدهم، فثار بعضهم على الحكومة، واعتصب
عمال المرافئ كلهم في الاحتجاج عليها، فراجعت الحكومة نفسها وأباحت أمورًا
كانت حظرتها، كما ترى في الأخبار التلغرافية [٢] .
***
كوبا
أما جزيرة كوبا فهي أكبر جزائر الأنتيل، وسكانها زهاء مليون ونصف،
وعاصمتها هافانا. وهي من مستعمرات الأسبان، وقد ثار سكان الجزيرة على
الأسبان يطلبون الحرية، فأرسلت إسبانيا الجنرال ويلر لإخضاعهم بعد إخضاعه
جزائر فيلبين في بحر الصين التي انتقضت عليها أيضا. فسلك الجنرال ويلر مع
الكوبيين مسلك القسوة والشدة، فازدادت نار الثورة احتدامًا. فأنفذت إسبانيا المرشال
بلانكو مكان الجنرال ويلر، فعامل الكوبيين أحسن معاملة، واضعًا السيف في
موضع السيف، والرفق في موضع الرفق، وقد أجاب طلب الكوبيين فأنالهم برضى
الحكومة الأسبانية حكومة مستقلة تتولى إدارة الجزيرة، ففرح الكوبيون وظن الناس
أن الثورة قد خمدت نارها، غير أن هذا الاستقلال الإداري لم يرق للجنة الثورة
التي في نيويورك، فإن غرض هذه اللجنة إنالة كوبا تمام الاستقلال، ويزعم
البعض أن للولايات المتحدة يدًا في تحريك تلك اللجنة حملاً لها على رفض ما
عرضته إسبانيا عليهم من الاستقلال الإداري طمعًا في تمام الاستقلال.
وزعمهم هذا مبني على رغبة أميركا في تحرير كل المستعمرات الأوروبية في
الأقطار الأميركية عملا بقانون مونرو. والمقصود من قانون مونرو قسمة الكرة
الأرضية إلى قسمين: تسوسه الممالك الأوربية فلا تمد إليه أميركا يدا، وقسم تسوسه
الولايات المتحدة فلا تمد له أوربا يدا. وبمقتضى هذا القانون يجب أن تتخلى
الدول الأوربية للولايات المتحدة عن جميع مستعمراتها في الأقطار الأميركية.
فأضرمت اللجنة المذكورة نار الثورة ثانية، فساد الهرج في عاصمة الجزيرة،
فأنفذت أميركا إلى مياه تلك العاصمة الدارعة (ماين) ، وهي أضخم دوارعها،
فساء ذلك الحكومة الأسبانية، حيث حسبته عدوانًا أو تشديدًا لعزم الثائرين،
فأخبرتها حكومة الولايات أن القصد من إرسال الدراعة ماين إلى هافانا حماية
رعية الولايات المتحدة وتودد للأمة الأسبانية. فأجابتها إسبانيا: وأنا أيضًا سأنفذ
إحدى دوارعي إلى مياه نيويورك توددًا للأمة الأميركية.
ثم أخلد الثائرون إلى الاستكانة، فهدأت الخواطر، وشهدت الصحف الأوروبية أن الدولة الأسبانية قد صنعت كل ما يمكنها صنعه، ومنحت الثائرين مع انتصارها
عليهم فوق ما كانوا يطلبون. غير أنه لم يطل وقت السكينة حتى نشرت لجنة
الثورة في نيويورك كتابًا خصوصيًّا كتبه سفير إسبانيا في واشنطون وسرقه أحد
الكوبيين، وقد جاء في الكتاب ما خلاصته: إن رئيس الولايات المتحدة يعد في
السياسة من الطبقة السفلى، وهمته في استرضاء رعاع الأميركان. فأكبرت
الولايات المتحدة هذا الكتاب، وطلبت عزل السفير إلا أن السفير كان قد قدم
استعفاءه عندما علم بنشر الكتاب.
ولم تكد تسكن الخواطر إثر هذا الحادث حتى تلاه حادث أقام الأمة الأميركية
وأقعدها، وهو انفجار الدارعة ماين انفجارًا ذهب بها في لحظة إلى قاع البحر،
فقتل من بحارتها زهاء المائتين، ولم يسلم منهم غير القليل.
وحسب الأميركان أن الانفجار كان مسببًا عن نسف خارجي أقدم عليه الأسبان
تشفيًا وانتقامًا، فقامت الجرائد تثير خواطر الأمة، وثارت الأمة تطلب الحرب،
فأنفذت الحكومة الأميركية إلى موضع الانفجار لجنة لتحقيق تلك الحادثة المحزنة.
فوصلت اللجنة إلى موضع الحادثة، وشرعت في التحقيق وهي تكتم ما تتحققه كل
الكتمان إلى أن تقدم باكتشافاتها تقريرًا مفصلاً.
على أن الدولة الأميركية تجد في الاستعداد للحرب، فاضطرت إسبانيا إلى
مجاراتها في ذلك الاستعداد. وقد قررت الحكومة الأميركية خمسين ألف ألف دولار للدفاع، وابتاعت طرادين، وحصنت القلاع والحصون التي على الشطوط،
وحشرت عليها نحو مائة ألف من الجنود. وقد نقل البرق في هذا الاسبوع أن
إسبانيا أبلغت أميركا أن الحرب لمثل تلك الأسباب جناية على الإنسانية.
وقد أرسلت إسبانيا من قبلها لجنة لتحقيق حادثة الدارعة ماين، فقررت
اللجنة الأسبانية المذكورة أن الانفجار كان من الداخل لا من الخارج، وستتمسك
إسبانيا بذلك على ما روته الرسائل البرقية. على أن جميع العالم المتمدن في
انتظار تقرير اللجنة الأميركية. فإن جاء فيه أن الدارعة ماين نسفت من الخارج
بخيانة شبت نار الحرب بين الأمتين، وإن جاء فيه أن الانفجار كان عرضًا بقيت
كأس السلم صافية، والله أعلم.