للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رأي في سلب الأمن من الحجاز

تواترت الأخبار تواترًا حقيقيًّا أصوليًّا باختلال الأمن في بلاد الحجاز، وبأن
حكومة الحجاز التي ألقي زمامها بيد أمير مكة ووالي الحجاز قد كانت من عوامل هذا
الخلل. ظهر للناس كلهم من سبب ذلك الطمع في مال الحجاج الذي كانت الحكومة
تسلبه منهم وتنهبه باسم إعانة سكة الحديد الحجازية، واسم زيادة أجرة الجمال،
وبأسماء أخرى سمَّتها ما أنزل الله بها من سلطان، والسبب الخفي الذي يعتقده بعض
الخواص دون بعض هو أن كل ما قد جرى، فإنما جرى بتمهيد وإيعاز من الآستانة،
ولا نبحث في أدلتهم على ذلك الآن، وإنما نقول: إنه لا يبرئ الدولة العثمانية من
هذه الجناية الكبرى إلا عزل أمير مكة وواليها، ومحاكمتهما، ومجازاتهما، وعزل
وكيلهما أيضًا؛ فإن فعل السلطان ذلك فقد استبرأ لدينه ومنصبه، وإلا ثبت لجميع
مسلمي الأرض ما يتهامس به بعضهم الآن من أن كل ما جرى مُوعز به من
الآستانة، وأن الغرض منه منع الحج بالمرة , أو منع خواص المسلمين وعلمائهم من
زيارة تلك البلاد لئلا يتآمروا هناك، وينصبوا لهم خليفة بالانتخاب الشرعي، وذلك أن
الخواص وأهل العلم هم الذين يعلمون أن الفريضة تسقط عنهم عند عدم الأمن على
الأرواح أو الأموال , وهم الذين يحافظون على حياتهم كما يجب, وهم الذين
تخشى جانبهم سياسة التفريق التي يصعب عليها أن يجتمع اثنان أو ثلاثة من
أهل العلم والرأي، ولو في بلد غمره الاستبداد وتغلغلت فيه العيون والجواسيس.
فكيف يسهل عليها أن يجتمع العلماء والفضلاء من جميع الأقطار في موقف مقدس
يتمتعون مع ذنب الاجتماع بالأمن على أرواحهم وأموالهم؟ وأكبر أمانينا أن يُكَذِّب
سلطاننا - وفقه الله - هذه الظنون بما ذكرنا، ويعين للحجاز أميرًا وواليًا
آخرين يجعل عليهما تبعة كل المصير في حفظ الأموال والأرواح في تلك البلاد
المقدسة؛ لأجل لقب الخلافة هو الذي ينزع منه اللقب العظيم، وينفر من الدولة
قلوب جميع المسلمين.
ليس أمر العبث بالأمن في الحجاز كأمر العبث بالأمن في بلاد مكدونية
وأرمينية , ولا الإلحاد في الحرم كالإلحاد في بلاد الروم وإن كانت باية إستانبول
العلمية - أعلى في قانون الدولة من - باية الحرمين؛ فإن ملاك هذا الأمر الذي
يسمونه الخلافة هو في اعتقاد أكثر المسلمين القائلين به حفظ الحرمين وتسهيل إقامة
هذا الركن الديني , فإذا صار مهددًا بالهدم برضاء السلطان أو بعجزه فأي عمل من
أعمال الخلافة يبقى له؟
وظيفة الخليفة إقامة الدين وحفظه فإذا كان المرتد لا يقتل، وإذا كان الألوف
من المسلمين يكلفون بترك صلاة الجمعة للوقوف أمام الجامع الحميدي عند
صلاتها؛ وإذا كان ركن الزكاة قد هدم , والسلطان العثماني لا يبالي بهدمه كما
بالى الخليفة الأول؛ إذ حارب مانعي الزكاة بإقرار الصحابة , وإذا كان الصوم
سرًّا بين العبد وربه؛ فهل بقي من ركن من الخمسة تطلب فيه عناية سلطان
المسلمين غير الحج؟ وهل يطلب منه في ذلك شيء أقل من حفظ الأمن، ومنع تعدي
العمال وأعوانهم من الأعراب على أنفس الحجاج وأموالهم؟ ألم ير السلطان كيف
أقبل المسلمون على إعانة سكة الحديد الحجازية بالألوف وألوف الألوف مع إهمالهم
فضيلة التعاون على الأعمال العمومية في هذا الزمان؟ ألم يعلم أن السبب في هذا هو
اعتقادهم بأن هذه السكة تسهل لهم طريق الحجاز؟ فإذا رأوها آلة لسلب الأمن على
المال والأنفس في الحال، فكيف يصدقون أن الغرض منها حفظ الأمن في الاستقبال؟
ألا يعلم السلطان أن كل مسلم يسائل نفسه اليوم: هل السلطان قادر على تأمين
الحرمين الشريفين أم لا؟ وأنهم لا يجدون في أنفسهم إلا أحد جوابين: إما أنه قادر
ولكنه يريد سلب الأمن، وإما أنه غير قادر. فأي الجوابين يرضيه إذا لم يبادر إلى
معاقبة أمير مكة وواليها وعزلهما مع وكيلهما, ووضع آخرين مسؤولين عن الأمن في
موضعهما وإعلام جميع الأقطار بذلك.
أيظن أن المسلمين في مشارق الارض ومغاربها ينخدعون بقول جرائد الآستانة
وجرائد بيروت: إن أمير الحجاز وواليه قد حفظا الأمن أتم حفظ، وأن الحجاج كانوا
في غاية الرفاهة والراحة لا شغل لهما إلا تكرار الدعاء للخليفة الأعظم والسلطان
الأفخم كما جاء في المنشور الرسمي الذي أرسلاه إلى الآستانة حسب العادة المتبعة في
كل عام؟ كيف ينخدع من يرى هذه الجرائد - وقليل ما هم - بقولها وقد انبث
في الأقطار مائتا ألف حاج، وكلهم يخبرون بكذبها؟ إذا حدث كل حاج عشرة من
الناس بما رأى وسمع وقاسى وعانى يكون مجموع العارفين مليونين، وكم يخبر كل
واحد من هذين المليونين؟ إن هذا أمر ليس كسائر الأمور فينفع فيه تضليل الجرائد
التي ينخدع بها الجاهلون بسلطة السياسة عليها. على أن الجرائد الحرة في مصر
وغيرها أكثر من تلك الجرائد انتشارًا وأصدق أخبارًا، وقد أجمعت على تمثيل فَقْد
الأمن في الحجاز لا سيما بعدما ورد تقرير أمير الحج المصري على الحكومة
ونشرته في الجريدة الرسمية، وفيه من تمثيل المخاوف والاعتداء على الأموال
والأنفس ما يؤكد رسائل الحجاج الكثيرة.
يسند بعض المنافقين من أصحاب الجرائد وغيرهم كل إلحاد في الحرم إلى
شريف مكة، وجريدة (ترك) تملأ ماضغيها بذم العرب والأشراف مستدلة بسوء
سيرة الشريف، ولكن العاقل والجاهل يعلم أن الشريف أحد عمال السلطان، ويذهب
كثير من الناس إلى صحة ما قالته جريدة الجوائب المصرية، كما في الجزء الماضي
أن السلطان قد أقامه هناك وأقره على الظلم؛ ليكون حجة على العرب والشرفاء أمام
المسلمين، ولكن هذا غير معقول فإن الناس يعرفون أن السلطان قادر على عزله
وعلى تأديبه في كل آن، ويعرف الكثيرون أن الشريف لم يكن له أمر ولا نهي على
عهد عثمان باشا والي الحجاز السابق، بل كان ذلك الوالي قد ألجأه إلى تَرْكِ المقام
في مكة، فأقام في المدينة المنورة حتى عزلت الدولة عثمان باشا عن الحجاز. وكان
أول عمل كسر به شرته أن أمر فرقتين من العسكر بحمل مدفعين والإحاطة ببيت
الشريف، وطلب جانٍ التجأ إليه منه وقال لهم: إن أبى تسليمه فضعوا الحديد في يد
الشريف نفسه , وأحضروه إلى هنا بالقوة.
وقد بادر البكباشي إلى إخبار الشريف بذلك فأرسل الجاني حالاً، وكان يهزأ
قبل ذلك بالحكومة إذ تطلبه منه.
لعل بعض القراء يمتعض من شدة إنكارنا لميله مع ريح السياسة أكثر من ميله
إلى خدمة الدين، وربما يسبق إلى وهمه أن للنفس هوى في هذه الكتابة لما تعود عليه
من كتابة أهل السياسة. ولي أن أقول لهذا الواهم: إنني - ورب الكعبة - أتمنى لو
أحج , وإنني - ورب الكعبة - لا آمن على نفسي، بل أعتقد أن الحج حرام عليَّ
ما دام هؤلاء الحكام على سيرتهم هذه في الحجاز , وإنني - والله - أتمنى لو تصلح
حكومة الدولة العثمانية فتكون خير حكومة في الأرض، ولكنني أحب صلاح الدولة
لأجل الإسلام , لا إنني أحب الإسلام لأجل الدولة.
إن الله تعالى امتن علينا بجعل البلد الحرام والبيت الحرام أمنًا للناس كما نطق
بذلك القرآن الكريم، وما نحن من تفسير بعض آياته في ذلك ببعيد , منها قوله تعالى:
{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} (آل عمران: ٩٧) ،
وقوله - عز وجل - {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج:
٢٥) .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته بعرفة يوم النحر من حجة
الوداع: (فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في
بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد،
فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مُبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب
بعضكم رقاب بعض) رواه أحمد والبخاري فجعل حرمة الدماء والأموال مشبهًا ,
وحرمة البلد الحرام والشهر الحرام مشبهًا به كأنه أبلغ في التحريم، فكيف صارت
الأموال والدماء تباح في البلد الحرام في الشهر الحرام، ولا يوجد من يسأل عنها؟
وكيف يحرم الله في ذلك المكان والزمان قتل القمل والحشرات، وقلع النبات،
وتحلل الحكومة العثمانية قتل النفوس المنيبة إلى ربها اللاجئة إلى بيته الداخلة في
ضيافته وسلب الأموال المحرمة كذلك , ثم ندهن لها ونكون من المؤمنين!
إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده
فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه أحمد
ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم، ونحن قادرون على الإنكار بألسنتنا فكيف نسكت،
والواجب على المسلمين أنَّى خرجوا عن طاعة هذه الحكومة إذا ثبت أنها تتهاون
بأمر الأمن في الحجاز، ولا تمنع الظلم منه , فإن سكتوا ورضوا كانوا ملعونين في
القرآن , ويوشك أن يسلط الله عليهم من ينزع منهم ما بقي بأيديهم يعيثون فيه فسادًا
حتى الحجاز {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: ٧٨-٧٩) .
هذا وإننا إنما نشدد في الإنكار رجاء التأثير، ونسأل الله تعالى أن يوفق هذه
الدولة إلى المبادرة إلى تلافي هذا الأمر بطريقة تقنع القريب والبعيد، والذكي
والبليد، بأن الأمن قد عاد إلى تلك البلاد المقدسة، وإلا فإن العاقبة تنذر بخطر
عظيم يشعر به المتفكرون، وإن عمي عنه الطامعون، وتغافل عنه المنافقون،
وجهل مثاره الغافلون، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء:
٢٢٧) .