للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الكاتب: محمد رشيد رضا


التقريظ

(تاريخ التمدن الإسلامي)
صدر الجزء الثاني من هذا التاريخ المفيد الذي يجب على الناطقين بالضاد
الاعتراف لمؤلفه جرجي أفندي زيدان بفضل السبق إلى خدمتهم به، ويا ليتهم
يتحدونه ويتلون تلوه فيه. صدر هذا الجزء من نحو تسعة أشهر، وقد أرجأنا الكلام
عليه لنطالعه كله، وننتقده إجابة لطلب المؤلف , ولم نجد سعة في كل هذه المدة
لمطالعته على شدة الشوق، وصدق الرغبة فرأينا أن لا بد من التنويه به شكرًا لمؤلفه
، وتوجيهًا للنفوس إليه، وإن لم نقرأ منه إلا قليلاً.
الجزء في ثروة الدولة الإسلامية وأسباب تكونها وانحطاطها، وثروة المملكة
مدنها وقُراها. وقد أحسن المؤلف أن أشار في أخريات صفحات الكتاب إلى عزو
النقل إلى الكتب التي أَخَذَ عنها عملاً باقتراح بعض الفضلاء، ولكن الطريقة التي
جرى عليها، وسبقه بها غيره لا تخلو من إيهام وإبهام؛ فإنه يذكر أمرًا، ويضع
في آخره رقمًا يصنع مثله في أسفل الصفحة تحت خط أفقي، ويذكر عند الرقم اسم
الكتاب أو المؤلف الذي أخذ عنه، فيتوهم القارئ أن ذلك الأمر كله من ذلك الكتاب،
وربما كان المراد بعضه كما يظهر لك من أول عزو في الكتاب، وستراه قريبًا.
قسم المؤلف ثروة الدولة الإسلامية إلى خمسة أدوار أو أعصار، عصر النبي
صلى الله عليه وسلم، وعصر الخلفاء الراشدين، وعصر الأمويين، وعصر
العباسيين الأول، وعصرهم الثاني؛ فقال في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ما
نصه:
(إذا كان المراد بثروة الدولة ما يزيد من دخلها على خرجها، أو ما تختزنه
بعد نفقاتها من الأموال ونحوها، فالدولة الإسلامية في عصر النبي صلى الله عليه
وسلم لم يكن عندها ثروة حقيقية؛ لأنهم لم يكونوا يختزنون مالاً، ولا كان عندهم
بيت مال، بل كانوا إذا أصابوا غنيمة فرقوها فيما بينهم، وكذلك الصدقات؛ فإنها
كانت تفرق في أولها؛ وإذا ظل منها شيء؛ استبقوه لحين الحاجة إليه. وكان
النبي صلى الله عليه وسلم يتولى ذلك بنفسه، وأكثر الصدقات من الماشية والإبل
والخيل فكان يسمها بميسم خاص بها، تمتاز بها عن سواها.
(فكانت ثروة الدولة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن بقايا
الزكاة من إبل أو خيل أو ماشية، وتمتاز عن أموال سائر الناس بمراع خاصة
كانت تحبس فيها بالبقيع قرب المدينة يعبرون عنها بالحمى [١] , وبميسم كان النبي
صلى الله عليه وسلم نفسه يسمها به [٢] , وبلغت الأموال في أيام النبي صلى الله
عليه وسلم نحو ٤٠.٠٠٠ بين إبل وخيل وغيرها [٣] ومن هذه الأموال وما يلحق
بها من مال الصدقة النقد كانوا ينفقون على غزواتهم، وعلى تحصيل الزكاة، وإعالة
الفقراء ونحوهم) اهـ.
فترى أنه أشار عند الرقم (١) إلى النقل عن الماوردي فتتوهم أن الجملة من
قوله: (فكانت ثروة الدولة) إلى الرقم معزوة إلى الماوردي، والصواب أن
المأخوذ عن الماوردي هو تسمية المراعي بالحمى، وأنها كانت بالبقيع وقد وقع في
هذا السهو أيضًا كما تعرفه من عبارة الماوردي نفسها قال: (وحمى الموات - أي:
الأرض التي لا ملك لها - هو المنع من إحيائه أملاكًا ليكون مستبقى الإباحة لنبت
الكلأ، ورعي المواشي قد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وصعد
جبلاً بالبقيع، قال أبو عبيد: (هو النفيع بالنون) ، وقال: هذا حماي، وأشار بيده
إلى القاع , وهو قدر ميل في ستة أميال حماه لخيل المسلمين من الأنصار
والمهاجرين) : اهـ بنصه (ص ١٧٦) .
وعبارة صاحب التاريخ تفيد أن الخيل من مال الزكاة , والصواب أنه لا زكاة
فيها والمراد بالخيل في عبارة الماوردي: خيل المسلمين المملوكة لهم. ومثل هذا
الغلط لا يسلم منه من يأخذ العلم عن الكتب من غير تلقي كل علم عن أهله.
فالمصنف جعل الخيل من مال الزكاة، وجعل الحمى خاصًّا بإبل الزكاة وخيلها
وماشيتها، وكلا الأمرين غلط كما رأيت. ثم قال في عصر الخلفاء ما نصه:
(هذا هو عصر الإسلام الذهبي، عصر العدل والتقوى، كانت الحكومة
جارية فيه على سنن العدل والاستقامة والغَيْرة الحقيقية على الدين، ونبذ الدنيا،
وهو العصر الذي اتخذه المسلمون منوالاً ينسجون عليه، وكلما حادت دولة من
دولهم عن جادة الحق، طلبوا إليها الرجوع إليه، والسير على خطوات الخلفاء
الراشدين؛ لأن الحكومة انتقلت بعدهم إلى طور جديد، وانقلبت من الخلافة الدينية
إلى الملك السياسي، ونشأت في الخلفاء والعمال المطامع، وأخذوا في حشد الأموال
بأية وسيلة كانت) اهـ.
فليتأمل قول هذا المؤرخ المنصف صاحب مقالات (سوريا والاسلام) ، وكم
في أبناء ملته من حجة مثله عليه ثم قال:
(فلما كثرت الأموال في أيام عمر، ووضع الديوان؛ فرض الرواتب للعمال،
ومنع ادخار المال، وحرم على المسلمين اقتناء الضياع والزراعة أو المزارعة؛
لأن أرزاقهم وأرزاق عيالهم تدفع لهم من بيت المال، حتى إلى عبيدهم ومواليهم -
أراد بذلك أن يبقوا جندًا على أهبة الرحيل، لا يمنعهم انتظار الزرع، ولا يقعدهم
الترف والقصف؛ فإذا أسلم أحد من أهل الذمة سكان البلاد الأصليين صار ما كان
في يده من الأرض وداره إلى أصحابه من أهل قريته تفرق بينهم، وهم يؤدون
عنها ما كان يؤدي من خراجها، ويسلمون إليه ماله ورقيقه وحيوانه، ويفرضون له
راتبًا في الديوان مثل سائر المسلمين) ... إلخ ما ذكره في هذا المقام نقلاً عن ابن
عساكر، وهو موافق لما نقلناه في الجزء الماضي ردًّا على صاحب مقالات سوريا
والإسلام. ثم ذكر أن الخلفاء الراشدين لم يتأثلوا مالاً، ولا عقارًا؛ لما كانوا عليه
من الزهد، وشدة التمسك بالدين. وذكر أن أكثر عمالهم كانوا كذلك، فليعتبر بهذا
ذلك المتعصب الذي ينسب إلى المسلمين في الصدر الأول ما هم براء منه بشهادة
جميع العلماء من جميع الملل.
ثم ذكر أن رأي عمر بعدم اختزان المال، ينافي المبدأ الأساسي الذي تقام
عليه الدول، وتتأيد به السلطات، وأن سببه النزعة الدينية، وأن المسلمين عادوا
بعد ذلكم إلى الأصل الطبيعي في الدول، فجمعوا الأموال في عهد بني أمية، حتى
إنهم بدءوا في زمن عثمان لتساهله مع عماله منهم، وأن معاوية اقتنى الأرضين ,
واقتدى به الناس في الاقتناء والبيع.
وبعد أن ختم الكلام بمثل ما بدأه من الثناء على الراشدين انتقل إلى عصر بني
أمية، وذكر ما كان فيه من اقتدائهم بالروم والفرس في الترف، وبسطة العيش
وما جرهم ذلك إليه من الظلم والجور، ولكن معظم ثروتهم كانت تنفق في الحروب
وأنهم ابتدعوا ضرائب جديدة، وظلموا الرعية حتى جاء عمر بن عبد العزيز
العادل فيهم فرد المظالم، وأنصف الناس مؤمنهم وكافرهم من أهله وولده وسائر
الناس، وعزل الولاة الظالمين، ثم قال: (فترى مما تقدم أن القواعد الأساسية
التي قام عليها الإسلام تدعو إلى الإنصاف والرفق، ولكنها تختلف مظاهرها
باختلاف الذين يتولون شئونها. ولو أتيح لعمر بن عبد العزيز أن يعيدها إلى ما
كانت عليه في عهد ابن الخطاب؛ لامَّحت مظالم بني أمية، ولكن جاء في غير
أوانه فذهب سعيه هدرًا، ولما مات عادت الأمور إلى مجاريها ورافقها رد الفعل)
... إلخ.
ونقول: إن السبب الصحيح في تمكن بني أمية من الظلم هو هدم قاعدة
الشورى، وسيطرة الأمة على الحكام التي صرح به أبو بكر في خطبته يوم ولي
الخلافة، ثم صرح بها عمر كذلك يوم ولي (راجع المنار ص ٢٣٤م٤) . وقالها
عثمان يوم قام الناس عليه، قال على المنبر: (أمري لأمركم تبع) وقد تمكن بنو
أمية من هدم هذا الركن الركين بعصبتهم المؤلفة من الموالي وغيرهم ممن لم يتمكن
الإسلام من نفوسهم، واستعانوا على ذلك بالمال الذي يأخذوه من غير حقه، كما هو
مفصل في الكتاب الذي نقرظه , ثم انتقل إلى الكلام على بني العباس، فأسهب
وأفاد، ولعلنا نعود إلى مطالعة ما كتبه واقتباس بعض فوائده , وصفحات هذا الجزء
١٩٠ وثمنه ١٥ قرشًا، ويطلب من مكتبة الهلال.
***
(السعادة العظمى)
صدرت في تونس مجلة عربية جديدة بهذا الاسم، وهي مجلة علمية أدبية
إسلامية تصدر في غُرة كل شهر عربي، وفي سادس عشرة لمنشئها عبده محمد
الخضر بن الحسين المحصل على رتبة التطويع العلمية بجامع الزيتونة الأعظم ,
وقيمة الاشتراك فيها بالمملكة التونسية ٨ فرنكات في السنة وبالجزائر وطرابلس
الغرب عشرة فرنكات، وبالممالك الشرقية ومراكش ١٢ فرنكًا والعدد منها يتألف من
كراستين، وهو مطبوع على ورق جيد بالحرف الإستانبولي. وقد سَرَّنَا من هذه
المجلة أنها دلت على تساهل من دولة فرنسا مع المسلمين في نشر العلم كما توقعنا،
وعلى توجه المشايخ المشتغلين بالعلوم الاسلامية إلى الصحافة؛ فنسأل الله تعالى أن
يوفقنا، ويوفق صاحب هذه المجلة إلى خدمة الإسلام الخدمة النافعة، وأن يُنَجِّح عملنا
وعمله آمين.