للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


علماء الأزهر والمحاكم الشرعية

{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: ٢)
قعد أهل الأزهر عن إجابة طلب إسماعيل باشا الخديو تأليف كتاب في
الحقوق والعقوبات موافق لحال العصر سهل العبارة مرتب المسائل على نحو
ترتيب كتب القوانين الأوربية. وكان رفضهم هذا الطلب هو السبب في إنشاء
المحاكم الأهلية واعتماد الحكومة فيها على قوانين فرنسا، وإلزام الحُكَّام بترك
شريعتهم وحرمانهم من فوائدها، وفي توجيه عزائم الكثيرين من نابتة الأمة إلى
درس تلك القوانين في مصر وأوربا وبذل النفقات العظيمة من الحكومة ومنهم
لأجل تحصيلها. ولولا جمود أهل النفوذ من علماء الأزهر لكانت كل هذه المحاكم
شرعية آهلة بالعمائم التي يتحاسد حملتها على الشيء اللقا ويتنافسون فيما يرغب
عنه غيرهم لقلة ذات يدهم. ولكانت تلك العمائم موضع الاحترام والإجلال، كما يليق
بها لا كما هي اليوم في نظر أكثر الناس، ثم إنك تجد بعض أصحاب هذه العمائم
يتشدقون بتلاوة: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة:
٤٥) {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: ٤٤)
يُعَرِّضون بأهل المحاكم الأهلية ثم إنهم يتحاكمون إليهم عند الحاجة ويتملقون لهم في
المجامع.
ليس إبطال هؤلاء العلماء للشريعة بعدم إجابة طلب إسماعيل باشا السابق
بأعجب من اعتذارهم عنه وتعللهم فيه، إنهم تعللوا بل احتجوا بأنهم يحافظون بذلك
على الشرع وطريقة سلفهم الأزهري في كيفية التأليف , وهو أن يكون الكتاب مؤلفًا
من متن وشرح وحاشية وعند زيادة البيان والتحقيق تضاف إليه التقارير- فهذه هي
سنة المشايخ المألوفة، وتأليف كتاب أو كتب يقتصر فيها على القول الصحيح
ويجعل بعبارة سهلة مقسمًا إلى مسائل تسرد بالعدد على كيفية كتب القوانين من
البدع الهادمة لتلك السنة التي جرى عليها الميتون من عدة قرون.
حدثني علي باشا رفاعة قال: إن إسماعيل باشا لما ضاق بالمشايخ ذرعًا
استحضر والده رفاعة بك , وعهد إليه بأن يجتهد في إقناع شيخ الأزهر وغيره من
كبار الشيوخ بإجابة هذا الطلب , وقال له: إنك منهم ونشأت معهم فأنت أقدر على
إقناعهم , فأخبرهم أن أوربا تضطرني إذا هم لم يجيبوا إلى الحكم بشريعة نابليون.
فأجابه رفاعة: إنني يا مولاي قد شخت ولم يطعن أحد في ديني , فلا تعرضني
لتكفير مشايخ الأزهر إياي في آخر حياتي , وأقلني من هذا الأمر؛ فأقاله. وكان
إنشاء هذه المحاكم التي يرى المشايخ أنها مؤسسة على الكفر والظلم والفسق أثر
المحافظة على الدين، وصونه من عبث الحاكمين، وما هذا الدين الذي حافظوا
عليه إلا بدعة سيئة وهي كيفية التأليف التي ألفوها كما تقدم , ولم ينزل بها كتاب ,
ولا وردت بها سنة , ولا جاءت في أثر عن الصحابة والتابعين. والكيفية التي
دعوا إليها فحسبوها خرقًا في الإسلام هي أفضل وأنفع مما حافظوا عليه , فالنتيجة
أنهم أضاعوا الشريعة لأجل الجمود على هذه الكتب الحديثة الضارة المضيعة للعلم
فكانوا من الخاطئين , وأعني بما أقول جمهورهم لا كلهم كما لا يخفى.
حدثت المحاكم الأهلية فكانت قسيمة للمحاكم الشرعية , ولكن ظهر للناس
بالاختبار أن المحاكم التي يحكم فيها بقانون فرنسا أضمن للحقوق وأقرب للإنصاف
من المحاكم التي تسند شريعتها إلى الوحي السماوي حتى كان شيوخ الأزهر
يتحاكمون إليها فالشيخ العباسي رفع إليها بعض القضايا , وكان شيخ الأزهر ومفتي
الديار المصرية. وكذلك شيخ الأزهر السابق الشيخ سليم البشري تحاكم إليها في
قضية تتعلق بأوقاف الأزهر وكان له مندوحة عن ذلك. فكانت جنايتهم على
الشريعة أنهم كانوا السبب في إضاعة القسم الأكبر منها , وأنهم سلكوا في القسم
الثاني الذي بقي للمحاكم الشرعية طريقة سوء ذهبت بثقتهم وثقة سائر الناس منها -
وكل ذلك بحجة حماية الدين وحفظ الشريعة الذي هو فخرهم ولو بالباطل ينالون به
الزلفى في نفوس عامة المسلمين المقلدين لهم الذين لا يعلمون بماذا يقلدون.
تكاد حماية الدين والمحافظة على الشريعة عند هؤلاء تذهب برسومها كما
ذهبت بروحهما , فإن السماء والأرض تستغيثان من خلل المحاكم الشرعية وتلجآن
إلى الحكومة طلبًا لإصلاحها , ولكن الشيوخ عقبة في طريق كل إصلاح , وحجتهم
الوهمية المحافظة على الدين الذي لا يعرفه سواهم , وقوتهم غرور العامة بهم
وتصديق دعاواهم , والحكومات تحترم دائمًا عقائد العامة وعاداتها وتقاليدها حقًّا
كانت أو باطلة؛ لئلا تهيج عليها الرأي العام , ولذلك كان صلاح حال العامة
بالتربية الصحيحة والتعليم النافع مفضيًا إلى صلاح حال الحكومة بالطبع لأن رأي
الأمة يكون حينئذ صحيحًا وقوة الأمة لا تقاوم لأن يد الله مع الجماعة.
هذا بعض آثار التقليد الأعمى للميتين والجمود على العادات الموروثة , وليس
كل علماء الأزهر على هذا الجمود بل السواد والدهماء منهم , وإنما العامة مع
الأكثرين حتى يظهر خطأهم الزمان والذي لا يعلو حكمه حكم إنسان، هذا أحدهم
الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية اليوم قد رأى منذ زمن طويل فساد هذه
المحاكم التي كثر تألم الناس منها وشكواهم للحكومة , فأرشده الشيخ لذلك التقرير
فطلبه من أحد حاشية الأمير واستفاد منه واضعو اللائحة الحديثة كثيرًا من الفوائد ,
ولكنها لم تكن كافية.
وفي سنة ١٨٩٩ م حاولت الحكومة المصرية عمل شيء في المحاكم الشرعية
على أنه من الإصلاح , فقامت قيامة العلماء والجرائد , وتهيجت العامة لاعتقاد
الجميع أن ما كان يحاول غير جائز شرعًا (وفي الحقيقة أنه لم يكن هو الإصلاح
المطلوب للمحاكم) ولكنهم لم يطلبوا شيئًا غيره يجوز عندهم شرعًا. وكنا قبل هذه
الفتنة قد كتبنا في المنار الصادر آخر سنة ١٣١٦هـ مقالة في (التعليم القضائي)
بينَّا فيها أن إصلاح المحاكم الشرعية لا يكون إلا بقضاة صالحين للقيام بأعباء
القضاء , وأن هذا لا يتم إلا بتعليم خاصٍّ بيَّنا طريقه , واقترحنا على شيخ الأزهر
ومجلس إدارته تنفيذه , ولكن أنَّى ينفذ , وحماة الدين من مشايخ الأزهر أصحاب
النفوذ لا يرضون بشيء جديد غير ما اتبعوا عليه آباءهم إلا الشيخ محمد عبده وهو
صاحب هذا الرأي , لكن لا موافق له منهم عليه في مجلس الإدارة إلا الشيخ عبد
الكريم سلمان وأكثر الآراء كانت على ضد ما يطلبان.
انتهت فتنة المحاكم بسكوت الحكومة عن المشروع الذي أعدته , ولكن
المتقاضين لم يسكتوا على حقوقهم تضيع. في أثرها عهد بمنصب إفتاء الديار
المصرية للرجل الذي كان أول ساع في الإصلاح والمشهود له بأنه أعرف الناس
بطرقه , فكلفته الحكومة تفتيش هذه المحاكم , ووصف خللها , وبيان ما يحتاجه من
العلاج؛ ففعل ووضع في ذلك تقريره المشهور الذي أجمع الناس على استحسانه ,
حتى إن الذين يعادون الإصلاح باسم الدين لم يجهروا بنقده ولا بالاعتراض عليه.
ثم ألفت الحكومة لجنة للنظر فيما يمكن العمل به من التقرير , رئيسها ناظر الحقانية
وكان في أعضاء اللجنة مع المفتي قاضي مصر السابق , وشيخ الأزهر واخترمت
المنية القاضي في تلك الأثناء فوقف سير اللجنة , واستمر على وقوفه وعذر
الحكومة في ذلك العامة , وبلاء العامة العلماء , وهاك ما قاله اللورد كرومر عن
هذه المحاكم في تقريره عن سنة ١٩٠٢ وهو:
المحاكم الشرعية
(يقول المفتشون من العلماء التابعين لنظارة الحقانية: إن أحكام قضاة
المحاكم الشرعية في الأحوال الشخصية وإنجازهم للقضايا قد تحسنت بعض التحسن
ولا ريب أن زيادة إنفاق المال تقضي إلى إصلاح مهم في هذه المحاكم , ولكن لا
ينتظر أن يجري حتى يلح الأهالي في طلب الإصلاح من أنفسهم وذلك يكون بتقدم
العلم والمعرفة. والشكاوي الآن كثيرة , ولكن المعارضة شديدة في كل تغيير مهما
كان لازمًا وخاليًا من الضرر. والغالب أن تلك المعارضة تنجح بدعوى أن
الإصلاحات مخالفة للشريعة أو لعادة القوم) اهـ
فانظر؛ تجد أن هذا السياسي الواقف على حالة البلاد أتم الوقوف يصرح بأن
الإصلاح لا يمكن إلا بعد ان تتحول العامة عن اعتقاد ما يقوله المشايخ في مقاومة
الإصلاح , وأوضح منه ما قاله في تقريره عن سنة ١٩٠٣ الماضية. وإنك لتجد
شيوخنا يطلعون عليه ويعرفون ما يقول الناس في جمودهم , ولا يرجعون عنه
رحمة بالشريعة التي انتحلوا حملها وبأنفسهم , وهذا هو نصه:
المحاكم الشرعية
هذه ترجمة محضر مأخوذ عن الجريدة الرسمية وهو يتعلق بأعمال مجلس
شورى القوانين في جلسة حديثة العهد، والحديث فيها بين أحمد بك يحيى من أعيان
المصريين وحضرة الشيخ حسونة النواوي وهو عالم جليل من علمائهم تولى
منصب الإفتاء فيما مضى.
(حضرة أحمد بك يحيى: إن الطريقة المتبعة حتى الآن في المحاكم
الشرعية في أمر المرافعات وتأجيل القضايا أوجبت شكاوي كثيرة , فلذا أقترح على
مجلس شورى القوانين تأليف لجنة تدرس هذه الأمور وتضع فيها تقريرًا.
(فضيلة الشيخ حسونة النواوي: إني لا أعلم أن المحاكم الشرعية تحتاج
إلى الإصلاح في أمر من أمورها.
(تقرير بالأغلبية التصديق على رأي الشيخ حسونة النواوي) انتهى.
فهذه الأعمال مشددة للعزائم؛ لأنها تدل على أن في مجلس شورى القوانين نفسه
بعضًا من الأعضاء الأذكياء الذين يشعرون بوجوب الإصلاح للمحاكم الشرعية.
أما كون الإصلاح ضروريًّا تتشوق إليه النفوس، فذلك أمر ثابت لا شك فيه إذ
ليس للناس أقل ثقة بهذه المحاكم الشرعية، وقد علا الضجيج من أعمالها، وكثرت
شكاوي المتقاضين بين يديها , وحجتهم عليها ترجح يومًا عن يوم. والإصلاح
يطلب من وجه معروف لا يختلف فيه , وهو بسيط سهل المنال , وذلك أن الشرع
نفسه لا يمكن أن يطرأ عليه تغيير مطلقًا، فغاية ما يطلب إذًا هو أن يقضى به بين
الناس بطريقة معقولة على يد قضاة جمعوا من العلم والاستقلال ما يمتنع معه تأثير
كل مؤثر خارجي أيَّا كان مصدره.
وكانت الحكومة قد شرعت منذ خمس سنوات تقريبًا في معالجة هذا الداء
ولكنها عدلت عنه؛ لأن الغرض الذي كانت تقصده من الإصلاح إنما هو صيانة
المصريين أنفسهم فلم تجد منهم التأييد الكافي فأغفلته. أما الحكومة البريطانية فلا
تبدأ بالسير في هذا السبيل، ولكنها تنظر بعين الرضى إلى كل إصلاح يبدأ به ذوو
الشأن أنفسهم الذين يعنيهم أمر المحاكم الشرعية أكثر من سواهم وتؤيدهم وتشدد
عزائمهم. ورأيي الخصوصيِّ هو أن مجلس شورى القوانين يحسن صنعًا بالعودة
إلى هذا الموضوع وإيفائه حقه من البحث لا سيما أن التعجيل في إصلاح هذه
المحاكم خير من التأجيل , ففي مصر جيل جديد يختلف عن أجداده في أمور كثيرة،
فيمكن أن تحدثه نفسه يومًا بأن يمد إلى تلك الأركان القديمة يدًا لا تعرف حرمة
القديم، فتكون أشد عليها من يد حكومة تمدها اليوم طبقًَا لإرشاد قوم لا شأن لهم في
الأمر لأنهم لا يدينون بالدين الإسلامي.
فإذا كان لهذا الحساب نصيب من الصواب فالأجدر بأبناء اليوم أن يشرعوا في
الإصلاح ويتلافوا الأمر قبل حلوله، وعسى أن المصلحين من أبناء القطر لا تضعف
عزيمتهم لأول فشل حل بهم , فإن الرأي العام لأبناء دينهم هو في جانبهم وهو ينمو
ويزداد وإن كانوا لا يجاهرون به، فعليهم الثبات إذن لا سيما إذ لم يكن أحد
ينتظر أن الناس تتغلب على أميالها , وتوافقهم على مرادهم بعد أول حملة.
ويجدر بي أن أذكر في هذا المقام أن مجلس شورى القوانين اقترح على
الحكومة في الملحوظات التي أبداها على ميزانية السنة الحاضرة أن تزيد مصروف
المحاكم الشرعية , فرفضت الحكومة هذا الاقتراح. وعندي أنها أحسنت في
رفضها؛ لأن كل زيادة في هذا الباب تعد تبذيرًا لأموال الأمة حتى يجيء الوقت
الذي تباشر فيه مسألة الإصلاح بالجد والاهتمام، اهـ كلام اللورد.
قبل أن يظهر تقرير اللورد هذا اجتمعت الجمعية العمومية المؤلفة من نظار
الحكومة وأعضاء شورى القوانين ومندوبي البلاد المصرية , واقترح غير واحد من
أعضائها مطالبة الحكومة بإصلاح المحاكم الشرعية. فأحيل الطلب على مجلس
شورى القوانين , فأجمع الشيوخ أمرهم وأرادوا أن يدافعوا عن الحاضر حسب
عادتهم، فأتمر من يعنيهم الأمر مع أنصارهم في مجلس الشورى وكبيرهم
قاضي مصر الذي خلق في بلاد الروم مصريًّا، وتعلم في الآستانة ولكنه كأنه تخرج
أزهريًّا، وكثر السعي قبل الجلسة واتفقوا على شيء يدافع به القاضي الأكبر.
ولما طرحت المسألة في المجلس قال القاضي الأكبر كلمته المروّزَة وهي:
(قد سمعنا المقترحات المتعلقة بالمحاكم الشرعية ونقول: إن أعمال تلك
المحاكم ترجع أولاً إلى الشرع الشريف , وهذا لا يُمَكِّن مسلمًا أن يقول إنه يحتاج
إلى إصلاح , وثانيًا إلى قضاة يحكمون بذلك الشرع، وهؤلاء تنتخبهم لجنة من كبار
العلماء الخبيرين تُشَكَّل بنظارة الحقانية بحضور ناظرها , وطبعا إنما تنتخبهم من
العلماء الأكفاء , وثالثًا: إلى لوائح سنتها الحكومة بعد أخذ رأي مجلس شورى
القوانين، فإن كان هناك اعتراضات توجهت أو تتوجه في المستقبل فطبعًا إنما هي
متوجهة على تلك اللوائح , ولو رجعت الحكومة في جميع أعمال المحاكم الشرعية
إلى قواعد الشرع ونَفَّذت بالطرق الشرعية جميع ما صدر من تلك المحاكم من
الأحكام لم يوجد أدنى اعتراض , فلذلك أطلب استلفات الحكومة إلى ما ذكر.
هذا نص ما كتب، وتناقل الناس عن قاضي مصر يومئذ زيادةً منها أنه قال
في الجلسة: إن القضاة يدرسون علومهم في الأزهر ويمتحنون فيه بحضور جماعة
من كبار العلماء , وأنه لم يعرف عن أحد من قضاة المحاكم ما يشكى منه , وجاء
في آخر كلامه: أما إذا أرادت الحكومة تكميل المرشحين للقضاء بإضافة بعض
دروس مثل: أدب القاضي , وشيء من التمرين فلا بأس، وذكرت جريدة المؤيد
يومئذ أنه قال ما ينبغي لمثله في مقامه أن يقوله، وكان له حزب مستعد لتأييد رأيه
ولكن مفتي الديار المصرية تعقبه بعد ما أمر الكاتب بكتابة جميع ما قاله وقرر
المفتي ما ملخصه:
أما كون الشرع نفسه لا يحتاج إلى إصلاح فَمُسَلَّمٌ، لكنه في كتبه التي في أيدي
الناس بعيد عن أفهام الخصوم فهو في أشد الحاجة إلى التقريب من الأفهام فيجب
النظر في ذلك , ولا نطلب فيه إلا عملاً سبقتنا إلى مثله الدولة العثمانية في كتاب
المجلة التي عليها العمل في محاكمها المسمّاة (بالعدلية) وفي المحاكم الشرعية في
أبواب المرافعات جميعها , ولم يقل أحد: إن الدولة في عملها ذلك قد خرجت عن
الدين (عند هذا قال الشيخ حسونة النواوي: كتاب الأحوال الشخصية الذي وضعه
قدري باشا موجود وهو من أحسن ما يكون) .
وأما مسألة امتحان القضاة في لجنة من علماء الأزهر وانتخابهم بلجنة فيها
كبار العلماء، فيجب بيان ما فيها لهيئة المجلس لأنني من اللجنتين - لجنة الامتحان
ولجنة الانتخاب - أما الامتحان فيجري في موضوعات خاصة من عدة فنون يبتدأ
فيها بالأصول فالمعاني فالبيان وهكذا , ولا يأتي الفقه إلا في آخر الدروس عندما
يكون الممتحن قد ملّ السؤال , والطالب قد مل الجواب , فيكتفي الأساتذة من
الطالب ببعض كلمات ثم ينقلونه إلى فن آخر , على أن الامتحان في الفقه كان
ولا يزال في أبواب العبادات مثل التيمم ونحوه , وقد ألحّ في المدة الأخيرة على لجنة
الامتحان لتعين مواضع الامتحان في المعاملات فحصل ذلك , لكن كثيرًا ما يرجع
عنه، فهل مثل هذا الامتحان له علاقة بالقضاء الشرعي , وهل تعرف به درجة
القاضي إن كان أهلاً للقضاء أو غير أهل.
(قال) أنا عضو في اللجنتين كما قلت لكم , وربما كنت أعرف الناس بمن
ينتخبون للقضاء , ولكني أقول لكم: إننا نعمل في الانتخاب على قاعدة ارتكاب
أخف الشرين فنختار أخف القاصرين قصورًا وكثيرًا ما تكون الأغلبية على انتخاب
المتقدم في الزمان , وإن كان متأخرا في العلم والاستعداد.
(قال) وأما لوائح المحاكم التي يتوهم من لم يعرف تاريخها أن الحكومة
وضعتها من عندها فهي بعيدة عن الشرع ومذاهبه , فأنا أذكر لكم حقيقة أمرها،
كانت الحكومة في عهد أمراء مصر السابقين تاركةً للمحاكم الشرعية تمام الاستقلال ,
وكان الناس يستغيثون من خللها وظلمها وشيوع الرشوة فيها , فلما أقلقوا الحكومة
أمر سعيد باشا بوضع لائحة لسير هذه المحاكم , وقد كان ذلك بإقرار لجنة من
علماء الأزهر مؤلفة من علماء المذاهب الأربعة، فاللائحة الأولى كان متفقًا عليها من
علماء الشرع، طال الزمان وظهر أن اللائحة لم تأت بالمطلوب واستمرت الشكوى
من أعمال المحاكم , فوضعت اللائحة الثانية بمعرفة الشيخ العبَّاسي شيخ الأزهر
ومفتي الديار المصرية لذلك العهد. وأما اللائحة الأخيرة فقد عرضت كذلك على
شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية , وأقرّها كما أقرها قاضي مصر السابق.
فاللوائح لا تعاب إذن بمخالفة الشرع , ولكنني أقول مع هذا: إنها قاصرة وفي
حاجة إلى الإصلاح فتعين أن المحاكم الشرعية في حاجة إلى الإصلاح من كل
جهة , وهذا الإصلاح ينحصر عندي في خمسة أمور وهي:
(أولها) تقويم طريقة التعليم لعمال المحاكم الشرعية من قضاة وكَتَبَةٍ
وإضافة ما تحتاج إليه وظائف القضاء الشرعي وما يتعلق بها من المعلومات إلى ما
يتعلمون الآن , وذلك يكون بإنشاء فرقة خاصة بهذا الغرض من طلبة الجامع
الأزهر بالجامع الأزهر، ثم تكميل قاعدة انتخابهم بما يكفل التحقق من كفاءتهم.
(ثانيها) تعديل لوائح المحاكم الشرعية على وجه يكفل انتظام سيرها وسرعة
الفصل في قضاياها , وإزالة كل ما يشتكى منه بشرط المحافظة على الشرع.
(ثالثها) الاتفاق مع جماعة من شيوخ الحنفية على إيجاد طريقة لتقريب فهم
الأحكام الشرعية التي يتقاضى الناس على حسبها حتى يمكن للخصوم أن يعرفوا
إلى أية قاعدة شرعية يرجع الحكم فيما يتخاصمون فيه ويسهل على القضاة أنفسهم
خصوصًا في بدء أمرهم الرجوع إلى ما يحكمون بمقتضاه ويكون ذلك شاملاً
جميع أبواب المعاملات من الفقه.
(رابعها) وضع قاعدة لتنفيذ الأحكام الشرعية تكفل انتفاع المحكوم له
بالحكم ضد أي شخص كان بما لا يخالف الشرع.
(خامسها) ترقية مرتبات عُمّال المحاكم الشرعية , وإلحاقهم بباقي موظفي
الحكومة.
اقترح المفتي هذا , وأمر بكتابته , فكتب وظهرت على المجلس أمارة
الإعجاب والرضى به , فقال بعض المؤتمرين: إن هذا لا ينافي قول القاضي ,
والرأي ما رآه القاضي. قال المفتي: لك أن تقول: إن رأيك موافق لرأي القاضي ,
وليس لك أن تقول هذا عن غيرك , وإن كان القاضي يقر هذا الرأي فهو ما نبغي
ولا فرق بين أن ينسب إليَّ أو إليه. فقال ذلك العضو: لا بأس بموافقة القاضي
على هذا , ولكن تحذف المقدمات. قال المفتي: وتحذف مقدمات القاضي أيضًا.
قال بعض الأعضاء: الأَوْلَى إبقاء المقدمتين , والموافقة على الرأي الأخير (رأي
المفتي) مع اتفاق القاضي. وبعد ذلك استقر الرأي على أن يمحى ما كتب عن
القاضي والمفتي , ويستبدل به: أن المجلس يقترح على الحكومة الإصلاح بالأوجه
الخمسة المذكورة وكذلك كان.
هذا ملخص ما كان في الجلسة , ولهج به الناس يومئذ، كتبناه كما سمعناه من
كثير من الأعضاء ومن يجتمع بهم، ولكن الجرائد خلطت في المسألة , ومنها
ما نسب الاقتراح للقاضي , وإنما كان ردًّا عليه , ثم إنه لم ير بُدًّا من موافقة المجلس.
والذي يهمنا أننا وصلنا بعد جهاد المجاهدين في سبيل الإصلاح إلى أن مجلس
الشورى طلب باتفاق الآراء أن تبادر الحكومة إلى إصلاح هذه المحاكم , فليس لها
بعد هذا عذر بالإرجاء وهو أقصى أو فوق ما كان يتمنى اللورد كرومر.
أرأيتك هؤلاء القضاة الشرعيين؛ هل اعتبروا بإجماع أهل الرأي والحل
والعقد وغيرهم على فساد أمرهم وسوء سيرتهم؟ كلا إنهم لم يزدادوا إلا غيًّا وتماديًا،
حتى إن المحكمة العليا التي تشرف على جميع مجاري العبر هي أَوْغَل من محاكم
الواحات في الغرور والخلل والزلل، ومن أعجب ما صدر عن قاضي مصر في
هذه الأيام ببركة مستشاره أو مشيره؛ التصدي لمنع ديوان الأوقاف من تنفيذ لائحة
المساجد التي وضعها مفتي الديار المصرية , وأقرّها مجلس الأوقاف الأعلى بعد
مباحثات طويلة.
* * *
لائحة المساجد
ماهي لائحة المساجد وما وجه الحاجة إليها؟ هي لائحة تدور على جعل أئمة
المساجد وخطبائها من أهل العلم بالدين ليؤدوا الفرائض على وجهها , وجعل
مؤذنيها وخدمتها من أهل الكفاءة للقيام بعملهم على وجهه. ولا يجهل أحد أن أكثر
الأئمة في هذا العهد من الجُهّال حتى بأحكام الطهارة والصلاة , وأكثر الخطباء
يغلطون على المنبر حتى بآيات القرآن , ويأتون في وعظهم بما يتبرأ الدين منه في
الغشّ والكذب على الله ورسوله ودينه بسرد الأحاديث الموضوعة والخرافات
المصنوعة. أليس من العجائب أن يوجد في المسلمين من يحافظ على هذه
المنكرات ويطلب بقاءها وعدم إزالتها باسم الدين , وهو يعدّ مع هذا من علماء
المسلمين؟ بلى وإنهم ليحتجون بأنهم يحافظون على شروط الواقفين، وهل وجد
واقف اشترط أن يكون الأئمة والخطباء من الجاهلين؟ ربِّ أعوذ بك من همزات
الشياطين.
أوقاف المسلمين تزداد ريعًا ونموًّا , ومساجد المسلمين في خراب حسيٍّ
ومعنويٍّ إلا ما عمرت جدره , وزخرفت سقفه لجنة الآثار العربية ليتمتع بالنظر
إليها السائحون من الإفرنج الذين يحبون الاطلاع على مباني الأولين، وراتب
الخطيب والإمام اليوم كما كان منذ قرن أو قرون , إذ كان مالك الألف يعدّ غنيًّا
كبيرًا، والألف لا تشبع في سنتنا الحمار شعيرًا، لهذا يضطر ديوان الأوقاف أن
يجعل الجاهلين الكسالى المعدمين أئمةً وخطباءً؛ إذ لا يرضى العالم الفاضل أن ينقطع
لعمل لا يزيد راتبه في الشهر على مائة قرش , وقد يكون خمسين قرشًا. هذا وإن
مساعدة أهل العلم والدين على معايشهم من أفضل المبرات التي تنشأ لها الأوقاف
الخيريّة - لهذا كان من موضوع لائحة المساجد أن يجعل للإمام والخطيب راتب
يتراوح بين خمسمائة قرش وثمانمائة قرش , وللمؤذن والخادم راتب يرتقي إلى
ثلاثمائة قرش , وذلك بعد انتقائهم بحسب الشروط التي تؤهلهم للقيام بعملهم على
أكمل وجه، وقد رفضت اللائحة بحال الحاضرين على ما بهم فلم تقض بعزل أحد
منهم , وإنما جعلت مبدأ الإصلاح فيمن يتجدد.
بهذه اللائحة تصرف أموال الأوقاف المكنوزة في أفضل مصارفها، بهذه
اللائحة تقام صلاة الجماعة على وجهها، بهذه اللائحة تكون الخطابة مؤدية للحكمة
التي شرعت لأجلها، بهذه اللائحة تكون بيوت الله نظيفة طاهرة كما يليق بها، بهذه
اللائحة ينمو علم الدين بما وجد لأهله من المعاش الطبيعي الذي يليق بكرامتهم بعد
أن أقفلت في وجوه المنقطعين له أبواب الرزق واحتقرهم الناس ولو بغير حق، ومع
هذا كله تجد في أصحاب العمائم من يسعى في إلغاء اللائحة بحجة أنها مخالفة للدين
وأنها وضعت للإفساد، وهم من المصلحين يحاولون إلغاءها بسلطة المحكمة الشرعية
التي ضجت السماء والأرض من فساد حالها وشدة اختلالها، فلماذا لا يصلحونها
ويقيمون حكم الله فيها إن كانوا صادقين؟
كتب قاضي مصر إلى مدير الأوقاف يطلب اللائحة لينظر فيها , ويأمر بتنفيذ
ما يرى تنفيذه منها , وإلغاء ما يرى إلغاءه , وذكرت الجرائد أنه هدّد المدير بعزله
إذا لم يفعل، فعرض المدير كتابته على مجلس الأوقاف الأعلى، فقرر المجلس إجابة
القاضي بأن هذا أمر لا يعنيه وأنه ليس في اللائحة أمر مخالف للشرع كما قرر
مفتي الديار المصرية وأن الأمر العالي الصادر في سنة ١٢٩١ يجيز للمجلس سنِّ
أمثال هذه اللائحة ولهذا يرفض المجلس طلب القاضي , ويأمر بتنفيذها كما قررها.
هكذا ورد في جريدة الأهرام , وقد أنذرت القاضي بأن لا يلعب بالنار ونعم ما
فعلت , فإن الأمر خطير كما ذكرت.
هذا نموذج من سيرة هذه المحكمة بعد ماعمّت البلوى , وعظمت الشكوى
يلعب أهلها بالنار ويسخطون الديار ويفقدون الأنصار , ولا تسمع من علماء الأزهر
كلمة إنكار بل يُخْرِبُون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار.