للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


السؤال والفتوى

التوارث مع اختلاف الدين
(س٢٣) أحمد أفندي صبحي في (أشمون) : ما هو حكم شريعتنا الغرَّاء
في شخص كان مسيحيًّا فأسلم ثم توفي والده فهل يرثه أم لا؟
(ج) إنه لا توراث مع اختلاف الدين ومن المسلمين من يمتعض لمثل
حادثة السؤال , ولكنهم إذا تنبّهوا إلى أن هذه المسألة من المعاملات التي تحكم فيها
الشريعة العادلة بالمساواة , ولاحظوا أنه لا يرضيهم أن يرث الولد إذا تنصّر أو
تهود مثلاً من أبيه المسلم، يظهر لهم أيجب عليهم أن يرضوا بالعكس ويفتخروا
بشريعة المساواة والعدل؟
* * *
خلود الكافر في النار
(س٢٤) محمد أفندي حلمي كاتب سجون (حلفا) : هل حقيقة أن الكافر
والنصراني يخلدون في النار أم كيف؟ اهـ بنصه
(ج) نطق القرآن العزيز بأن الكافرين والمنافقين يخلدون في النار , وأكد
هذا في آيات , وجاء في غيرها استثناء {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} (هود: ١٠٧)
فأولوه بعدة وجوه كما أولوا إطلاق الخلود في جزاء القتل في قوله تعالى: {وَمَن
يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} (النساء: ٩٣) الآية , قالوا: إن
المراد بالخلود طول المكث , واستقر رأي المتكلمين على أن من بلغته دعوة نبيّنا
صلى الله عليه وسلم على وجه صحيح يحرك إلى النظر , فلم يؤمن عنادًا للحق أو
جمودًا على تقليد آبائه وقومه، فهو خالد في الدار التي أعدها الله تعالى للكافرين
والمجرمين , وأشهر أسمائها (النار) وإن لم تكن كلها نارًا , بل فيها برد وزمهرير
كما ورد. واستثنوا من هذا الحكم من بلغته الدعوة فنظر فيها وبحث بجدٍّ وإخلاص
فلم يظهر له الحق , ومات على ذلك غير مقصّر في النظر، فقالوا: إنه يعذر عند
الله تعالى لأنه {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: ٢٨٦) .
* * *
إرم ذات العماد
(س ٢٥) ومنه: ماهو تفسير {إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ} (الفجر: ٧)
(ج) إرم في الآية عطف بيان لقوله (عاد) أو بدل منه في وجه , والمعنى:
عاد التي هي إرم؛ أي: عاد الأُولَى وهي قبيلة عربيّة وفيها بعث الله هودًا عليه
السلام , ولهم في وصفها بذات العماد أقوال منها: عن ابن عباس ومجاهد أن
المراد بالعماد: القدود الطوال , وينقل أن طولهم كان يبلغ اثني عشر ذراعًا ولعله
مبالغة، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن المراد بذات العماد ذات الخيام التي
تقام على الأعمدة , وكانوا أهل بادية وحلّ وترحال وهذا هو المتبادر. وقيل: ذات
العماد ذات الرفعة على الاستعارة وهو بعيد. وما في كتب القصص وبعض كتب
التفسير من أن إرم مدينة صفتها كيت وكيت فهو من خُرافات القَصَّاصين.
* * *
إحياء النبي للموتى
(س٢٦) ومنه: موضح في الجزء الخامس من مجلة المنار (ص١٨٩ س
١٧) أن سيدنا محمدًا عليه الصلاة والسلام أحيا ابن جابر ولم أجد ما يثبت لي ذلك ,
فأرجو تفصيل هذه العبارة.
(ج) يريد السائل الجزء الخامس من المجلد السادس , والعبارة هناك خطأ ,
والصواب (شاة جابر) والحديث أخرجه أبو نعيم وفيه أنه صلى الله عليه وسلم
أحيا الشاة بعد ما طبخت وأكلت والحديث ضعيف , وإنما ذكرناه هناك على سبيل
التمثيل , وأخرج البيهقي في (الدلائل) أن رجلاً جاء النبي صلى الله عليه وسلم
وقال: لا أومن بك حتى تحيي لي ابنتي , وفيه أنه جاء قبرها وسألها هل تحب
الرجوع إلى الدنيا فأجابته ... إلخ، وهو كسابقه لا يصح له سند , على أن نقل
هذه المعجزات هو أقوى مما ينقل أهل الكتاب وغيرهم عن أنبيائهم , إذ لا أسانيد لهم
يعرف تاريخ رجالها، فيقال هذا سند صحيح أو ضعيف.
* * *
الحكمة في اختلاف الناس في الدين
(٢٧) حسين أفندي الجمل معاون البريد في (بورسعيد) : ما الحكمة في
خلق العالم مؤمنين وكفَّارًا؟ ولِمَ لَمْ يكونوا كلهم مؤمنين.
(ج) لم يخلق الله كافرًا قط , بل كلٌّ مولود يولد على الفطرة , فأبواه
يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه كما ورد في الحديث، خلق الله تعالى هذا الإنسان
وأعطاه المشاعر والعقل، وجعله مستعدًّا لمعرفة الخير والشرّ، والحقّ والباطل
بنظره واستدلاله؛ ليجازى على كسبه وعمله، ويكون هو سبب سعادة نفسه أو
شقائها، ولو خلقه لا كسب له ولا إرادة ولا اختيار لكان إما ملكًا روحانيًّا أو حيوانًا
أعجمًا لا مؤمنًا ولا كافرًا , فمن يريد أن يكون نوع الإنسان على غير ما هو عليه،
فهو يريد في الحقيقه عدم هذا النوع بالمرَّة.
* * *
إثبات استدارة الأرض ودورانها من القرآن
(س ٢٨) ومنه: هل في القرآن الشريف ما يؤيد قول القائلين باستدارة
الأرض ودورانها حول الشمس؟
(ج) نعم إنهم يؤيدون هذه الدعوى بمثل قوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى
النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} (الزمر: ٥) فإن هذا يكون نصًّا صريحًا في
كروية الأرض؛ إذ به يتصور التفاف النور والظلام عليها , وما أحسن هذا التعبير
وألطفه. ومثله قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} (الأعراف:
٥٤) وهذا ظاهر في الدلالة على كرويّة الأرض أيضًا، ورأيت مختار باشا الغازي
- وهو من تعرف في البراعة بالعلوم الفلكية - يقول: إن هذا دليل قطعي على
الكروية وعلى دوران الأرض معًا، إذ لا يستقيم المعنى بدونهما , على أنه ليس من
مقاصد الدين بيان حقائق المخلوقات وكيفيّاتها , وإنما يذكر ذلك في القرآن للعبرة
والاستدلال على قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته.
أما كون حدوث الليل والنهار بسبب حركة الأرض فلا نعرف فيه نصًّا
صريحًا في القرآن , ولكن يمكن أن يستنبط منه استنباطًا , وفي كتاب (صفوة
الاعتبار) للشيخ محمد بيرم الخامس التونسي فصل في هذا الموضوع، تكلَّم فيه أولاً
على إثبات كروية الأرض بكلام الحكماء والفقهاء والصوفية والاستدلال عليه ببعض
الآيات القرآنية , ثم ذكر خلاف الحكماء في سبب الليل والنهار، هل هو حركة
الأرض على محورها تحت الشمس , أم حركة الشمس بفلكها حول الأرض؟ وأن
الثاني هو الذي كان مرجحًا عند المتقدمين ومنهم المسلمون , ثم قال ما نصه:
(ثم أحيي المذهب الأول , وتأكد الآن عند علماء العصر بهذا الفن , وأنكره
المنتسبون للعلم من المسلمين، ظنًّا أن المذهب الأول من عقائد الإسلام , وأن المذهب
الآخر مصادم للنصوص , والحق أن ليس شيئًا من هذا ولا من ذلك هو مما يجب
اعتقاده عندنا , وإنما المدار عندنا على الاعتبار بالآثار المشاهدة من الليل والنهار
وأشباه ذلك , وإثبات جريان للشمس , وأما كيفيته فلا تعلق لها بالعقائد , وسير
الشمس على كلا المذهبين؛ لأن المتأخرين يثبتون لها حركة رحوية على نفسها ,
وحركة ثانية على منطقة لها أيضًا , ثم حركة ثالثة لها مع جميع ما يتبعها من
الكواكب حول شيء مجهول كما أن هذه الدورة مجهولة المستقر أيضًا , وكأنها
المشار إليها بقوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} (يس: ٣٨) وذلك أن (المستقر) أتى بلفظه مُنْكَرًا للإبهام فيفيد أنه غير معلوم للخلق , ولهذا أُتِي به مضافًا إلى الشمس باللام فكان منكرًا , ولم يقل: مستقرها
بالإضافة المفيدة للتعريف لأن ذلك المستقر غير معروف , وعلماء هذا الفن الآن
من غير المسلمين مقرون بذلك , فهو حينئذ دليل إجماعي بيننا وبينهم.
(ثم إن كون حدوث الليل والنهار هو من آثار دوران الأرض ربما كانت
آيات عزيزة تشير إليه , فمنها الآية المتقدمة - يعنى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ
الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الرعد: ٣) فإنه تعالى
بعد أن ذكر الدلائل على وجوده من السماء؛ أي: بقوله قبل هذه الآية: {اللَّهُ الَّذِي
رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} (الرعد: ٢) إلخ - ذكر الدلائل الأرضية , وخرط فيها الليل والنهار، فيشير ذلك إلى
أنها آثار الأرض؛ لأن وجودهما وإن كان يستلزم الشمس والأرض معًا , لكن
تخصيصه بالانخراط في الدلائل الأرضية يدل على تعلق خاصٍّ , وهو كون
دورانها هو السبب على أن منطوق الآية فيه تدعيم لهذا، حيث قال: {يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهَار} (الرعد: ٣) فجعل الليل الذي هو ظلمة الأرض يغشى به النهار الذي
هو ضوء الشمس، ففيه تلميح إلى أن الأرض هي التي تحدث ذلك بفعل الله.
ومن الآيات المشيرة إلى ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا *
وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} (الشمس: ١-٤)
فجعل النهار الذي هو مقابلة وجه الأرض للشمس مجليًّا. والليل الذي هو الظلمة
الأصلية للأرض مُغشيًا لها (كان ينبغي أن يقول: غاشيًا لها) فأسند فاعلية ذلك
لغير الشمس , بل لفاعل آخر هو الليل والنهار الذي هو من آثار الأرض. وإذا
كان هذا ثابتًا، فما يدل من الآيات على طلوع الشمس وغروبها وغير ذلك يمكن
تأويله باعتبار الأبصار والعرف الجاري في اللسان) اهـ، وهوحسن وأنت ترى
الذين يعتقدون بأن الأرض تدور على محورها فيكون الليل والنهار من ذلك يقولون:
طلعت الشمس وغربت , ويقولون: غطست في البحر، وبينها وبين البحر مقدار
كذا.
* * *
مطالعة كتب الملل غير الإسلامية
(س ٢٩) م. خ. في (تونس) : ما هو حكم الله فيمن يطالع الكتب
السماوية الأخرى مثل التوراة بقصد الإحاطة خبرًا بما جاء في غير شريعتنا , وهل
كان النهي عن قراءتها عامًّا. إذا سلمنا ذلك تكون الشعوب غير الإسلامية ممتازة
على المسلمين بعدم منع أنفسهم إجالة النظر في القرآن الشريف، فيستفيدون مما جاء
فيه من الآيات البينات , ويحتجّون به علينا به عند اللزوم , ونحن لا نقدر أن
نقابلهم بالمثل؛ لأن كتبهم مغلقة في وجوهنا. أفيدونا بما علمكم الله من العلم ولكم
أجران أجر المفيد وأجر المصيب.
(ج) الأمور بمقاصدها , فمن يطالع كتب الملل بقصد الاستعانة على تأييد
الحق وردّ شبهات المعترضين ونحوه وهو مستعد لذلك , فهو عابد لله تعالى بهذه
المطالعة , وإذا احتيج إلى ذلك؛ كان فرضًا لازمًا , وما زال علماء الإسلام في
القديم والحديث يطلعون على كتب الملل ومقالاتهم , ويردّون بما يستخرجونه منها
من الدلائل الإلزاميه , وناهيك بمثل ابن حزم وابن تيمية في الغابرين وبرحمة الله
الهندي صاحب إظهار الحق في المتأخرين. أرأيت لو لم يقرأ هذا الرجل كتب
اليهود والنصارى، هل كان يقدر على ما قدر عليه من إلزامهم وقهرهم في المناظرة ,
ومن تأليف كتابه الذي أحبط دعاتَهُم في الهند وغير الهند، أرأيت لو لم يفعل ذلك
هو ولا غيره أما كان يأثم هو وجميع أهل العلم , وهم يرون عوام المسلمين تأخذهم
الشبهات من كل ناحية ولا يدفعونها عنهم؟
نعم إنه ينبغي منع التلامذة والعوام من قراءة هذه الكتب لئلا تشوش عليهم
عقائدهم وأحكام دينهم، فيكونوا كالغراب الذي حاول أن يتعلم مشية الطاووس فنسي
مشيته ولم يتعلم مشية الحجل.
* * *
إخبار الإنسان بعمره
(س ٣٠) ومنه: رأيت ببعض الكتب المعتمدة أن الشيخ محمد بن أبي بكر
ابن الحاج قاضي غرناطة سئل عن عمره فلم يجب قائلاً: إنه ليس من المروءة أن
يخبر الرجل بسنه كذا قال الإمام مالك اهـ، فلم أهتد لفائدة هذا الحظر الذي نسبه
لإمام دار الهجرة؛ لأنه يظهر بادئ بدء أن هذا القول مخالف لما هو مسطر بكتب
تراجم الرجال حيث نجد فيها أعمار الأعيان المترجم لهم , ولا شك أن ذلك سرى
للمؤلفين بأحد وجهين إما بالتواتر والنقل عن أولئك الأعيان أنفسهم , وإما بالوقوف
على تقييدات وقع العثور عليها بعد وفياتهم , فإذا سلمنا أن ما نسب للإمام مالك
صحيح الرواية فلا يمكن تأويله إلا بأنه ليس من المروءة أن يقوم الإنسان خطيبًا
بين الناس مجاهرًا بعمره من دون أن يسأل عن ذلك؛ لأن صنيعه والحالة تلك يعد
ضربًا من الهذيان , ولم يطالبه أحد بالتعريف بعمره. وأما إذا عكسنا النازلة
وفرضنا أن الرجل يسأله سائل عن سنه سيما إذا كان ذلك لمصلحة مثل إشهار
فضله وتعريف الناس به، فلا شبهة في أن النص المعزو لسيدنا مالك بن أنس لا
ينطبق على هاته الحال , ولا يقال: إنه غير صاحب مروءة إذا أجاب سائله عن
سؤاله , وأنت ترى أن تسجيل الأعمار بالبلاد الإفرنجية ضربة لازب على الذكر
والأنثى , وأن مشاهير رجالهم معروفة أعمارهم ومرسومة تحت كل ورقة , ولم
يضرهم ذلك شيئًا, ولم يحس أحد ثمن مروءتهم فما معنى هذا الحظر علينا حتى في
الجزئيات التي لا علقة لها بالدين مثل هاته , أفتونا بما علمكم الله من العلم لا زلتم
محط رحال المستفيدين.
(ج) إن المسألة ليست من أمر الدين في شيء , وإذا صحت الرواية عن
الإمام مالك فهو لا يقصد بها الحظر الشرعي بمعنى أنه يقول: إن إخبار الإنسان
بعمره محرم أو مكروه شرعًا، كلا إنها مسألة أدبية , وكانوا لا يرون من الأدب ولا
من الذوق أن يسأل الانسان عن عمره أو عن ماله أو أن يخبر هو بذلك بغير سبب،
كما هو مذكور في كتب الأدب والمحاضرة , ولا يزال كثير من الناس لا سيما
الشيوخ في البلاد الإسلامية على هذا الرأي أو الذوق , ويختلف سببه باختلاف
الأشخاص , ولعل الشيوخ يحبون أن يكونوا دائمًا على مقربة من عصر الشباب ,
وقلما يوجد شاب يحب أن يظن أن سنه أكثر مما هي في الواقع، إلا إذا توهم أن في
ذلك نقصًا من مهابته كأن يكون ذا منصب أصابه في سن الصبا , ويرى أن الناس
لو علموا بسنه لاستكثروه عليه كما جرى للقاضي يحيى بن أكثم فقد نقل ابن خلكان
عن تاريخ بغداد للخطيب أن يحيى بن أكثم ولي قضاء البصرة وسنه عشرون سنة
أو نحوها فاستصغره أهل البصرة , فقالوا: كم سن القاضي؟ فعلم أنه قد استُصغِر
فقال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضيًا
على مكة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به النبي صلى الله عليه
وسلم قاضيًا على اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجه به عمر بن
الخطاب رضي الله عنه قاضيًا على أهل البصرة. فجعل جوابه احتجاجًا، وجملة
القول أنهم كانوا لا يستحسنون أن يسأل المرء عن عمره أو ماله أو يخبر هو به ,
وما كانوا يقولون ذلك إلا لحاجة , وأن الإحساس الذي كان عند الشيوخ فيما يظن
هو أن ذلك السن يستلزم تذكر الموت وقرب الرحيل , وأما إحساس الشبان فهو ما
ذكرناه آنفًا من توهم الاستصغار، وهذا هو السبب في الاختلاف في تحديد أعمار
أكثر العلماء والعظماء , وعدم الجزم بتاريخ مواليدهم وبناء تاريخهم على وفياتهم.
فإن قيل: إن الكاملين من الأئمة والفضلاء يجلون عن كتمان أعمارهم لمثل
هذا الإحساس. نقول: نعم , ولكنهم يجارون من يعاشرون على ما يستحسنون
ويستقبحون ما لم يخل بالمصلحة كما قلتم؛ لأنه من آداب المعاشرة العامة , والمروءة
تختلف باختلاف عرف الناس، ألا ترى أن أكثر أهل المشرق يرون كشف الرأس
في المحافل مخلاًّ بالمروءة , ويرى عكس ذلك الإفرنج ومن قلّدهم في آدابهم.
* * *
علامات الاستفهام والتعجب وغيرهما في الكتابة العربية
(س٣١) ومنه: حصل لي توقف عند قراءة المنار الثاني من هذه السنة من
استعمال طابعه أو مصححه للعلامات الإصلاحية عند الإفرنج من نقطة الاستفهام
ونقطة التعجب وعلامة العطف إلخ، مع كون اللغة العربية غنية عن ذلك ,
وبالأخص منها القرآن المجيد الذي هو في أعلى درجات البيان كما لا يخفى ,
وتراكيبها تؤدي معنى الاستفهام والتعجب وكل ما يتخيله الفكر وينطق به اللسان ,
وأنكرت ذلك سيما وأنه لم يسبق له سابق بهذه المجلة البديعة , فما الباعث على ذلك؟
نرجو الإفادة، وإن كانت بالجواز واعتبار تلك العلامات مثل علامات الرفع
والنصب والخفض والسكون المصطلح عليها عندنا , فليكن الجواب بالبسط حتى
يزول ما وقع في النفس. وفي هذا المقام نقول: إني لم أفاتح أحدًا في شأن هذا
التوقف الذي حصل والذي لا ينبغي أن يفهم منه الاعتراض بل مجرد الاسترشاد.
(ج) قد عني المسلمون بكتابة القرآن عناية عظيمة فلم يكتفوا بوضع النقط
في منتهى آياته حتى زادوا على ذلك علامات الوقف والابتداء , وجعلوا ذلك على
أقسام: الوقف التام والمطلق والجائز، والممنوع إلا لضرورة ضيق النفس. ووضع
لهذه الأقسام حروف تدل عليها كالميم والطاء والجيم , و (لا) يكتبونها صغيرة في
موضع الوقف، وكان لقائل أن يقول: إن الله جعل القران سورًا , وجعل السورة
آيات , وجعل للآيات فواصل تعرف بها فهو غنيٌّ عن هذه المحسّنات , ولكنهم لم
يقولوا ذلك , بل أجمعوا على استحسان هذا التحسين في الكتابة الذي ينبه إلى
المعاني المفهومة بذاتها لأهل اللغة، لأنها في أعلى درج البيان. ولو وضعوا يومئذ
علامات أخرى لمقول القول يعرف بها متى يبتدئ وأين ينتهي , وللاستفهام
والتعجب؛ لكانوا لها أشد استحسانًا فيما نظن، لأن إعانتها على الفَهْم ليست دون
إعانة علامات الوقف، فكثيرًا ما يأتي القول المحكي في القرآن من غير أن يتقدمه
قال وقالوا. وكثيرًا ما يشتبه على غير العالم النحرير انتهاء القول المحكي، كما ترى
المفسرين يختلفون في بعض الآيات هل هي من القول المحكي أم ابتداء كلام جديد.
وكذلك يجيء الاستفهام أحيانًا مع حذف أداته , وكذلك التعجب والاستفهام أنواع
منه الحقيقي ومنه الإنكاري والتعجبي والتوبيخي , فلو وضع لكل نوع منها علامة
لكان ذلك معينًا على الفهم بسهولة , ولتقبله علماء السلف بأحسن قبول. ولكن
علماءنا لم يخطر ببالهم هذا أيامهم، بل يُقَدَّر كل تحسين وإصلاح قدره لعدم
الحاجة إليه كهذا الزمان.
ثم إنهم لم يستعملوا المحسنات التي وضعوها لكتابة القرآن في غيره مما لا
يدانيه في بيانه وسهولته , وكان ينبغي تعميم هذا الإصلاح بأن توضع نقط في
أواخر الجمل التامة وعلامات وقف حيث يحسن الوقف في أثناء الكلام , ولو فعلوا
ذلك لكان فيه ترغيب في قراءة الكتب وإعانة على الفهم , بل أفسد المتأخرون ما
وضعه المتقدمون من الفصول في الكلام اقتداء بسور القرآن , ومعنى هذا الفصل
أن يكون فارقًا يبن الكلامين ببياض في الطرس يبدأ بعده بالكلام الجديد , ولعلهم
ظنوا ان لفظ الفصل هو المقصود , فصاروا يكتبونه في وسط السطر ويبقى الكلام
به متصلاً في الكتابة بحيث لا يرى الناظر في الصحف إلا سوادًا في سواد , وذلك
مما ينفِّر عن القراءة أو يقلل من النشاط فيها , ولذلك لم يكتف علماؤنا بكون القرآن
مقسمًا إلى سور حتى قسّموه إلى أجزاء , وقسموا كل جزء إلى أحزاب وأرباع ,
وجعل بعضهم لكل عشر آيات علامة , والغرض من هذا كله التنشيط على القراءة.
فعلمنا من هذا أن كل ما يعين في الكتابة على فَهْم المعنى فهو حسن , ومنها
علامات الاستفهام والتعجب التي سَبَقنا إليها الإفرنج فهم يضعونها وإن كان في
الكلام ما يدل على المقصود بدونها كما ترى في الإنكليزية , فإن صيغة الخبر
عندهم مخالفة لصيغة الاستفهام , وهم يضعون للاستفهام علامة مع هذا. وما في
المنار من هذه العلامات هو من وضع منشئه، فهو المحرر والمصحح , وليس لغيره
في المنار عمل إلا ما كان من قول نسب إلى قائله بالتصريح أو الإشارة. وليس
هذا جديدًا فيه، وإنما تنبه إليه السائل في الجزء الذي ذكره , ولو راجع المجلدات
الماضية؛ لوجد هذه العلامات وعلامات القول والحكاية (:: " ") وغير ذلك فيها ,
ولكنها لم تلتزم التزامًا في كل جملة. وهو يراها من المحسنات، لا سيما حيث يكون
في الكلام ما يقتضي التعجب من جهة المعنى , وليس فيه صيغة التعجب , وحيث
تكون الجملة أو الجمل المبدوءة بأداة الاستفهام طويلة يتوقع أن ينسى بعض القراء
في نهايتها أن القول كله موضع للاستفهام، وهو لم ير مانعًا من استعمال هذا
التحسين لا دينيًّا ولا غير ديني. وأما هذه العلامة (،) فنستعملها للسجع وما يشبهه
من الفصل يبن الجمل قبل تمام المعنى.
* * *
العمر الطبيعي
(س٣٢) ومنه: أرجو الإفادة على صفحات المنار أيضًا عن عمر الإنسان
الطبيعي , وهل يصح أن نعتقد مثلاً أن سلمان الفارسي عاش ٣٥٠ سنة فضلاً عن
كون بعض أصحاب الطبقات يزعم أنه عاش أكثر من ذلك , وبعضهم نقل أنه أدرك
المسيح فإن هذه المسألة هي مدار كلام أهل الأدب عندنا اليوم.
(ج) إن ما ذكرتموه عن عمر سلمان رضي الله عنه لم ينقل بسند صحيح
على سبيل الجزم , وإنما قالوا: إنه (توفي سنة خمس وثلاثين في آخر خلافة
عثمان وقيل أول سنة ست وثلاثين , وقيل توفي في خلافة عمر والأول أكثر. قال
العباس بن يزيد: قال أهل العلم: عاش سلمان ٣٥٠ سنة فأما ٢٥٠ فلا يشكون فيه.
قال أبو نعيم: (كان سلمان من المعمرين يقال: إنه أدرك عيسى ابن مريم وقرأ
الكتابين) اهـ من (أسد الغابة) فأنت ترى أن الرواية الأولى مشكوك فيها , فما
بالك بالأخيرة المحكية ب (يقال) وهي أنه أدرك المسيح. وعباس بن يزيد
قال الدارقطني: تكملوا فيه. فقوله لا يؤخذ على غرة على أنه يجوز أن يعيش
الإنسان ٢٥٠ سنة , ولا يوجد دليل علمي يحدد العمر الذي يمكن أن يعيشه الإنسان
بحيث نقطع أنه يستحيل أكثر من ذلك. وقد نشر في المقتطف الذي صدر في صفر
سنة ١٣١١ما نصه:
(إطالة العمر)
(بحث أحد العلماء في سبب الشيوخة فاستنج أنه إذا امتنع الانسان عن
الأطمعة التي تكثر فيها المواد الترابية , وأكثر من أكل الفاكهة ذات العصار الكثير ,
وشرب كل يوم ثلاثة أكواب من الماء القراح في كل منها عشر نقط من الحامض
الفصفوريك المخفف لتذيب ما يرسب في عضلاته من أملاح الكلس (الجير) ؛ طال
عمره كثيرًا , وقد يعمر حينئذ مائتي عام) اهـ.
فأنت ترى أن علماء العصر يجوزون أن يعيش الانسان مائتي سنة بالتدبير
الصحي وحسن المعيشة من غير أن تكون بنيته قد امتازت بقوة زائدة على المعتاد ,
وهم لا ينكرون أن بعض الناس يخلقون أحيانًا ممتعين بقوى خارقة للعادة , وهؤلاء
يكونون مستعدين لعمر أطول إذا لم يفاجئهم القدر بما يقطع مدد الاستعداد. أما
العمر الطبيعي للإنسان الذي يرى الأطباء أنه خلق ليعيشه لولا ما يجنيه على نفسه
بالإفراط والتفريط فهو مائة سنة , وذلك بالقياس على سائر الحيوانات؛ إذ ثبت لهم
بالاستقراء أن الحيوان يعيش ثلاثة أمثال الزمن الذي يتم نموه فيه. ولكن لا يكاد
يخلو قطر من الأقطار في عصر من الأعصار عن بعض الناس الذين يتجاوزون
المائة , وقد ذكر بعض علماء أوربا في كتاب له أشخاصًا بلغوا نحو ١٧٠ سنة. أما
نوح عليه السلام، فالراجح أنه كان في عصر كانت فيه طبيعة الأرض وبنية
الإنسان، على غير ما هي عليه الآن، ثم تغيرت بالطوفان، وذهب بعض أهل
الكتاب إلى أن سنيهم لم تكن كسنينا , بل كانوا يسمون الفصل سنة , وحكت الكتب
السماوية خبرهم على اصطلاحهم، وهو يحتاج إلى نقل , وتاريخ ذلك العصر
مجهول بالمرة فلا يعرف عنه شيء إلا بالوحي , وما يفيده العلم الحديث من
اختلاف أطوار الأرض واختلاف حال الأحياء بحسب ذلك فلا نقيس طبيعتها
الحديثة وهي ما بعد الطوفان على طبيعتها قبل ذلك.
وجملة القول أن الذي قالوه عن اعتقاد في عمر سلمان رضي الله عنه هو
أنه ٢٥٠ سنة , ولكن الرواية فيه ليست بحيث يجزم بها , ولا يوجد دليل علمي
يحمل على الجزم بكذبها فهي محتملة الصدق , وغيرها ظاهر الكذب لا سيما القول
بكونه أدرك المسيح إذ لو كان كذلك لحدث عنه , وتوفرت الدواعي على نقله عنه
ولم ينقل إلا ما ينافيه , وهو أنه أخذ النصرانية قبيل الإسلام عن بعض القسوس
(راجع قصته في آخر المجلد الرابع من المنار) .
* * *
الصفا والمروة - تطهير المسعى
(س٣٣) السيد علي الأمين الحسيني من علماء سوريا: لدى تشرفي بالحج
إلى بيت الله الحرام في سنة عشرين من المائة الرابعة بعد الألف من هجرة سيد
المرسلين صلى الله عليه وسلم، كان أكبر همي وقت السعي بين الصفا والمروة
التحفظ من القذرات الملوثة لكل ساع هناك مما ألقاه أهل الدكاكين والأسواق المكتنفة
بهذا المشعر الشريف , ومما يعرض من دواب القوافل والمستطرقين فضلاً عن
الغبار الذي يثور في الأرض التي لم يجعل لها امتياز في التنظيف والرصف عن
سائر الأزقة كما هو حقها , ومن المشقات التي تعرض هناك مدافعة القوافل للساعين
والاختلاط بهم الموجب لإيذائهم والخلل بأعمالهم وهيئتهم الشاغل عن توجه القلب ,
واستشعار الرقة والخشوع في هذا المشعر , فكدت أقضي العجب من قلة الالتفات
لهذا الأمر وعدم الاهتمام فيه , ولم أتحقق المانع من التحجير بين الفريقين بالفولاذ
أو الحديد وفرش المسعى بالرخام بل والبسط الفاخرة , ودفع هذه المشقة عن
المتطوفين كما يصنع بالمساجد المشرفة والمشاهد المعظمة , أَوَلَيْسَ ذلك من تعظيم
شعائر الله , وهل هناك سر لعدم التفات أهل الثروة من مسلمي الآفاق الذين لم يخل
منهم عام لذلك وعدم تصديهم له؟ فإن لاح لكم شيء خال عن النقض , وأفدتمونا
يكن لكم الفخر والأجر وإلا فإن نشرتم شيئًا نافعًا بذلك فهو المعهود من سجاياكم
ومساعيكم النافعة في الدين ولا زلتم مرجعًا للمسلمين آمين آمين.
(ج) حسبنا أن ننشر هذا التنبيه الذي ورد في صورة السؤال؛ لعل بعض
أهل الغيرة يسعى في تنظيف ذلك المكان وتطهيره , وتسهيل القيام بشعيرة السعي
في ذلك الموضع الذي شرّف الله قدره بذكره من كتابه المجيد. وإننا لا نعرف سبب
إهمال العناية به , ولم نره فنبدي رأينا فيما ينبغي عمله تفصيلاً , فنسأل الله أن يمن
علينا ذلك.