للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التعصب [*]
(٢)
تتمة ما سبق

لم يكن الاستمساك بعروة الدين على عهد العباسيين كما كان على عهد الخلفاء
الراشدين، فيساووا بين رجل من آحاد يهود وبين أعظم مسلم علمًا ودينًا ومكانة
وقربًا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كعلي كرّم الله تعالى وجهه،
ويحاسبون أنفسهم وينكر بعضهم على بعض إذا أخل بالعدل والمساواة ولو في اللقب
والكنية كما علمت، ولكنهم (أي العباسيين) لقربهم من عهد النبوة كانوا على
مقربة من ذلك: يحكمون بالشريعة ويتأدبون بآدابها بالجملة، والشاهد الذي أريد
إيراده من تاريخهم قريب من الشاهد الذي أوردته عن عمر وعلي (عليهما الرضوان)
في معاملة اليهودي وهو بعض خبر أبي إسحاق الصابئ. لا أعني بذلك
اعتراف الخلفاء بفضله، وتقليدهم إياه الأعمال الجلائل مع ديوان الرسائل، وإنما
أعني ما كان بينه وبين الطبقة العليا من المسلمين من الموادة والمحالفة، نذكر منها
بعض خبره مع الشريف الرضي، وهو مَن علمت مكانه من الشرف الباذخ والسؤدد
الرفيع، وكان في العلم لا يضاف إليه كفيح، ولا يقرن به نديد، وهو من أئمة
الشيعة، وكفاك أنه اجتمعت له الإجادة في المنظوم والمنثور معًا، وهي كما قال ابن
خلدون: لا تتفق إلا للأقل، ولقد كان يعامل أبا إسحاق معاملة الأكفاء والنظراء، مع
أنه كان يسامي الخلفاء ويطاولهم في مجالسهم، حتى إن الخليفة القادر بالله كان يتهمه
بالتطلع إلى الخلافه لأنه يرى نفسه أحق بها لمكانة نسبه وعلمه، هذا وأبو إسحاق من
الصابئة الذين هم أضعف وأحقر فرقة من فرق الأديان، لكنه كان فاضلاً بليغًا، فلم
يحُل خلاف دينه وضعف طائفته دون معاملته بما يستحق فضله من الإجلال وتقليد
الأعمال.
ولقد كان مثل الشريف يجله لفضله وأدبه، لا لوظيفته ومنصبه، ومن آية ذلك
مرثاته التي رثاه فيها بعد موته، فإن فيها من الثناء عليه ما يربي على ما كان يكتبه
له في حياته من المراسلات المنظومة والمنثورة، وإننا نأتي ببعض أبياتها وإن
كانت مشهورة زيادة في البيان.
مطلع القصيدة
أعلمتَ مَن حملوا على الأعواد؟ أرأيتَ كيف خبا ضياء النادي؟
ومنها:
بعدًا ليومك في الزمان فإنه ... أقذى العيون وفتَّ في الأعضاد
لا ينفد الدمع الذي يبكي به ... إن القلوب له من الأمداد
كيف انمحى ذاك الجناب وعطلت ... تلك الفجاج وضل ذاك الهادي
قد كنت أهوى أن أشاطرك الردى ... لكن أراد الله غير مرادي
سودت ما بين الفضاء وناظري ... وغسلت من عينيّ كل سواد
ثكلتك أرض لم تلد لك ثانيًا ... أنى ومثلك معوز الميلاد
ليس الفجائع بالذخائر مثلها ... يا ماجد الأعيان والأفراد
لا تطلبي يا نفس خلاًّ بعده ... فَلَمَثله أعيى على المرتاد
الفضل ناسب بيننا إن لم يكن ... شرفي يناسبه ولا ميلادي
إن لم تكن من أسرتي وقبيلتي ... فلأنت أعلَقُهُم يدًا بودادي
إن الوفاء كما اقترحت فلو تكن ... حيًّا إذًا ما كنت بالمزداد
ضاقت عليّ الأرض بعدك كلها ... وتركت أضيقها عليّ بلادي
لك في الحشا قبر وإن لم تَأوِه ... ومن الدموع روائح وغواد
إلى أن قال في آخرها:
صفح الثرى عن حر وجهك إنه ... مغرى بطي محاسن الأمجاد
وتماسكت تلك البنان فطالما ... عبث البلى بأنامل الأجواد
وسقاك فضلك إنه أروى حيا ... من رائح متعرس أو غاد
إن الشريف الذي قال: إن الفضل ناسب بينه وبين أبي إسحق، وأنه كان
أعلق نسبائه وأسرته بوداده هو الذي أنشد الخليفة القادر بالله هذه الأبيات
(من قصيدة) في مجلسه وهي:
مهلاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت ... أبدًا كلانا في المفاخر معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوّق
وهو الذي رثى الخليفة العادل والإمام المجتهد عمر بن عبد العزيز الذي رفع
من شأن آل البيت الكرام بعد اضطهادهم من سلفه الأمويين، والذي مناقبه ومآثره لا
تحصى، فاقتصر من مدحه على مثل قوله:
يا ابن عبد العزيز لو بكت العين ... فتى من أمية لبكيتك
غير أني أقول إنك قد طبت ... وإن لم يطب ولم يزكُ بيتك
وعجيب أني قليت بني مروان ... طُرًّا وإنني ما قليتك
يقول: إنه لا يمكن البكاء على عمر بن عبد العزيز، وقال: إن الدمع الذي
يبكي به أبا إسحق لا ينفد؛ لأن له مداداً من القلب، ويعجب أنه لم يقْلُ عمر
ويبغضه، ولم يقل أنه يحبه، وقد عهد إلى نفسه أن لا تتخذ خلاًّ بعد أبي إسحق،
وقال: إنه أعلق أهله وأنسبائه بوداده، وهذا مما يؤيد قولنا السابق: إن الإفراط في
التعصب الديني لم يُعهد من المسلمين إلا مع المخالفين في المذهب دون المخالفين
بأصل الدين، كما أنه وقع منهم التعصب للجنس أحياناً، ولا حاجة لبيان ذلك؛ لأنه
مما لا نزاع فيه. وهذا الشاهد الذي أوردناه له نظائر كثيرة يعرفها من نظر في كتب
التاريخ الإسلامية، لا سيما قبل الحروب الصليبية.
وأما الدولة العلية العثمانية فحسبك من حسن معاملتها للمخالف لها في الدين،
وهي في أوج عزها ومنتهى قوتها، ما كان من السلطان محمد الفاتح مع الروم يوم
فتح القسطنطينية، وإقراره للبطريق على امتيازه وامتياز طائفته، وإعطائهم الحرية
الكاملة، ومنحهم الرعاية الشاملة، وتسجيل ذلك في قوانين المملكة، وجعله عهدًا
مُتبعاً في الدولة لا ينقض، تعطى للبطارقة به الوثائق (الفرامين) السلطانية من
ذلك العهد إلى الآن، خلافاً لما كان يعاملهم به الكاثوليك من القسوة والاضطهاد.
ولقد كان عرض على الروم الخضوع لكنيسة رومية بإزاء انتصار إخوانهم
الكاثوليك لهم وإغاثتهم من العثمانيين، فائتمروا بينهم وأقروا على أن رؤية تاج
السلطان محمد في مذبح كنيسة أيا صوفيا أهون وأحب إليهم من رؤية عراقية (قبعة
مخصوصة) كردينال من جماعة البابا فيه، ولولا أنهم كانوا يعلمون من العثمانيين
العدل والإحسان والمجاملة لما فضلوا سلطتهم على الاتحاد مع إخوانهم في بعض
قضايا الدين، وبقاء سلطتهم لهم، ولم تزل تلك الامتيازات مرعية إلى اليوم، وربما
نذكرها في فرصة أخرى لمناسبة تعن.
ولقد ساهم العثمانيون من سبقهم من العباسيين والأمويين في رفع مخالفيهم في
الدين لا سيما النصارى إلى المناصب العالية، فجعلت الدولة حكاماً للصرب
وللمملكتين من اليونان فخانوها وكانوا لنعمتها من الكافرين، ولقد كان منها مثل ذلك
في عهد كانت ترتعد فيه أوروبا من بأسها، وما فتئ جاريًا بحركة الاستمرار إلى هذا
الحين، نعم لم يكن السير على نحو واحد لما تقتضيه طبائع الأوقات من اختلاف
الحالات، وكلنا شاهد رعاية الدولة العلية لطائفة الأرمن حين رأت من جدهم
واجتهادهم في العلم والعمل حتى إنها قلدتهم الأعمال الجليلة، لا سيما في المالية،
ورفعت غير واحد منهم إلى مقام الوزارة، وبالجملة قد ميزتهم حتى على العرب
الذين أكثر رعاياها وأخلصهم وأكثرهم على دينها، فقابلوها على ذلك بالكنود
والكفران والخيانة والعصيان. كان منهم من يظهر المضرة في صورة المنفعة،
ويُلبس الأمانة ثوب الخيانة بحجة توفير المال في الخزينة، وهو يعلم أنه يضطرهم
بذلك إلى الرشوة التي تفسد السلطنة وتضعضع بنيانها.
ويعلم أكثر القراء (المصريون) ما كان من خدمة نوبار باشا لإنكلترا في
مصر التي ثبتت أقدامهم فيها، على حين كانت في زلزال، وأمر الاحتلال قرين
الاختلال. وقد انتهى أمر الأرمن في الدولة إلى الثورات والفتن والسعي في إحراق
الباب العالى ونسف البنك العثماني، وإن شئت فقل: بمحو الدولة العلية - حماها
الله تعالى- من دول الأرض.
كل هذا يكون بدسائس أوروبا، ثم لا يخجل عظماء ساستها أن يقولوا: إن
الدولة متعصبة تهين رعاياها المسيحيين، فيجب إنقاذهم. وإنما هي القوة تقول
للضعف ما تشاء، ما أصاب المسيحيين من حسنة في ظل الدولة العلية فتزعم
أوروبا أنه كان خوفاً منها أو تعمية عليها، وما أصابهم من سيئة فتقرنه بتعصب
الدولة وتحمسها، وإن تاريخ الدولة يكذبها في زعمها الذي تغش به الجهلاء
والمخدوعين.
كانت أوروبا على عهد السلطان سليم ياوز ترتعد فرائصها من خشية الدولة
العلية، وكانت الولايات المسيحية الأوروبية العثمانية تكثر الخروج على الدولة،
لا سيما في إبان إشتغال الدولة بالحرب، وما كان يجرؤها على ذلك إلا خفض العيش
وفرط الطيش، فارتأى السلطان سليم - رحمه الله تعالى- أن يجبرهم على الإسلام
أو يمزق عصبيتهم بالتشتيت والتفريق بإجلائهم عن أوطانهم، فاستفتى شيخ الإسلام
العلامة أبا السعود فأفتاه بعدم جواز ذلك شرعاً، فعدل عن رأيه وإن كان لرأيًا
سياسيًّا حكيمًا. فهل كان ذلك عن خوف أو مصانعة لأوروبا، أم هو الدين الإسلامي
الذي يقول كتابه العزيز {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: ٢٥٦) وتصرح سنته بأن
من آذى ذميًّا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - خصمه يوم القيامة، ونحو ذلك
من النصوص.
وخلاصة القول: إن الغلو في الدين أو التحمس الديني وهو ما يطلق عليه أهل
العصر: التعصب، هو مما نهى عنه الدين الإسلامي صريحًا {لاَ تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ} (النساء: ١٧١) وآداب الإسلام وأحكامه تنافيه كما تنافيه أيضاً آداب
الإنجيل ومواعظه، ولم يضرم الأوروبيون نيرانه في العالم قديمًا وحديثًا اتباعًا
للإنجيل، وان كانوا أظهروه بمظهر ديني، بل لم يلابس الدين قلوب الأوروبيين في
عصر من الأعصار، وما كانوا متبعين للإنجيل يومًا من الأيام، وأما قول الإنجيل:
ما جئت لألقي سلامًا، إنما جئت لألقي سيفًا إنما جئت لألقي ناراً، فليس معناه الأمر
بالحروب والفتن، وإنما هو إخبار عن المستقبل، أي أنه بسببه يحصل هذا، وإن لم
يكن مأموراً به ولا مرضيًّا، هذا ما نفهمه من تطبيق مثل هذا النص على سائر
النصوص التي تصرح بوجوب الخنوع والتسليم لأي حاكم، وإعطاء ما لقيصر
لقيصر وما لله لله، وهي كثيرة ولا تسمع من رجال هذا الدين إلا إنه دين سلام
واستسلام، وإنما حارب الأوروبيون لأجل الدين المسيحي وأكرهوا الناس عليه
أجيالاً، وغلوا فيه غلوًّا كبيراً، حتى سرت عدوى غلوهم وإفراطهم في تعصبهم إلى
غيرهم ممن جاورهم؛ لأن روح الحرب والفتنة كان صاحب السلطان الأكبر عليهم،
والمصرف لأجسادهم قبل دخول الدين المسيحي في بلادهم، ولقد تناولوا الدين من
أبناء الرومانيين وهم -كما قال في العروة الوثقي -: (على عقائد وآداب وملكات
وعادات ورثوها عن أديانهم السابقة، وعلومهم وشرائعهم الأولى، وجاء الدين
المسيحي إليهم مسالمًا لعوائدهم ومذاهب عقولهم، وداخلهم من طرق الإقناع ومسارقة
الخواطر، لا من مطارق البأس والقوة، فكان كالطراز على مطارفهم، ولم يسلبهم ما
ورثوه عن أسلافهم، ومع هذا فإن صحف الإنجيل الداعية إلى السلامة والسلم لم تكن
لسابق العهد مما يتناوله الكافة من الناس، بل كانت مذخورة عند الرؤساء
الروحانيين، ثم إن الأحبار الرومانيين لما أقاموا أنفسهم في منصب التشريع، وسنوا
محاربة الصليب ودعوا إليها دعوة الدين، التحمت آثارها في النفوس بالعقائد الدينية
وجرت منها مجرى الأصول، ولحقها على الأثر تزعزع عقائد المسيحيين في
أوروبا، وافترقوا شيعًا، وذهبوا مذاهب تنازع الدين في سلطته وعاد وميض ما
أودعه أجدادهم في جراثيم وجودهم ضرامًا. ثم أرشدهم النظر في طبائع الكون
والاعتبار بحالهم وماضيهم إلى استعمال الدين آلة سياسية، وهذا ما يحمل حكومة
تصرح رسميًّا بأنه لا دين لها، على إعلان حمايتها النصارى الكاثوليك في الشرق،
وهذا بعينه هو الذي حمل قياصرة الروس على ادعاء الرئاسة الدينية وإعلان حماية
الروم الأرثوذكس، ومن هنا نرى الفتن التي تحدث في بلاد الدولة من النصارى
تظهر على أيدي أبناء مذهب الدولة الأوروبية المحركة للفتنة، فالنيران التي اشتعلت
في البلقان قبيل إعلان روسيا الحرب على الدولة العلية، إنما أشعلها الأرثوذكس
قسيسوهم وعامتهم، والنيران التي أضرمت أخيرًا في أرمينيا إنما أضرمها
البروتستان بحض بريطانيا العظمى البروتستنتية، وإنما يذم الإفرنج والمتفرنجون
التعصب الديني ليخدعوا الشرقيين عمومًا والمسلمين خصوصًا، فيحلوا رابطتهم
الدينية التي هي أقوى الروابط الجامعة بينهم على اختلاف لغاتهم وأجناسهم، ويعموهم
عن تعصبهم وتحمسهم، لكنهم كثيرًا ما تحملهم الأغراض والمقاصد السياسية على
التصريح بالحقيقة، فقد صرحت جريدة الطان، وهي من أشهر جرائد فرنسا بأن
حرب الإنكليز للسودان يمثل واقعة من وقائع الحروب الصليبية، وصرحت بعض
الجرائد النمسوية والألمانية الشهيرة فيما أفادنا البريد الأخير بأن الخطة التي تجري
عليها أوروبا مع مسلمي كريت هي السبب في كل اضطراب حدث ويحدث في
الجزيرة، وأن حالة الجزيرة قد ساءت منذ تولت أوروبا إدارة أحكامها وشؤونها،
وهي تزداد كل يوم خرابًا ودمارًا، فالمسيحيون واقعون في ضيق شديد وعذاب أليم،
ولكن عذاب المسلمين وضيقهم أعظم؛ لأنهم محرومون من جميع حقوقهم تقريبًا، وقد
صبروا زمانًا طويلاً على مصائبهم وخطوبهم حتى ملوا مرارة الصبر وعذاب
الانتظار، وطفحت الكأس إلى الاصبار.
هذا ما تعترف به جرائد الأمتين اللتين انفصلت حكومتاهما عن أوروبا وأبتا
مشاركتها في بغيها على أهل تلك الجزيرة، كل هذا والأميرال الإنكليزي يشدد في
طلب تعجيل نزع السلاح عن المسلمين دون النصارى، ليتمكنوا من استئصالهم
عاجلاً، ومولانا السلطان الأعظم يطلب نزع السلاح من الفريقين، كما يقتضيه العدل
والمساواة في الظاهر، وإن كان في الباطن فيه إجحاف بالمسلمين، لا من حيث
الطلب نفسه، بل من حيث إن المسيحيين أكثر عَددًا وعُددًا، والأوروبيون يحمونهم
برًّا وبحرًا، كما تصرح بذلك الجرائد المسيحية، قالت الأهرام: (وعندنا أن جلالة
السلطان مصيب فيما يفترضه من نزع السلاح من المسيحيين والمسلمين في كريت،
لا من المسلمين وحدهم، إذ ليس من العدل ولا من الحكمة أن تجبر الفئة القليلة -
وهي لا ناصر لها ولا معين - وتبقى الفئة الكبيرة القوية مسلحة، وهي محمية
ببوارج الدول ومدرعاتها) اهـ.
لقد قلنا: إن تعصب أوروبا في هذة الأزمنة مموه، وكان في العصور السالفة
مشوهًا، وأبلغ من هذا ما نقل عن سيدنا ومولانا أمير المؤمنين أنه قال لبعض كتاب
جرائد أوروبا: (إن أوروبا تحاربنا حربًا صليبية في شكل سياسي) لكن مسألة
كريت خرجت عن دائرة المحاولات السياسية إلى العدوان الظاهر، وتجلى فيها
الإفراط في التعصب الذميم في أقبح صوره المشوهة، ولقد ذم أوروبا ولعن اتفاق
دولها العظام كل كاتب، حتى كاتب المقطم، فاعتبروا بمدنية أوروبا يا
أولي الأبصار!
فيا أيها المسلمون تمسكوا بدينكم وتعصبوا فيه، واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا
تفرقوا، ولا تتعدوا في تعصبكم حدود العدل فتعتدوا على جيرانكم المخالفين لكم في
الدين، فإن إيذاء أي مخالف من ذمي ومعاهد ومستأمن، وبعبارة أخري: غير
حربي - حرام في دينكم، وخروج عن هديه القويم، سواء كان الإيذاء بالقول أو
الفعل ومن قال لكم: إن التعصب بهذا المعنى مذموم، فهو غاشّ مخادع، يريد أن
يفتنكم عن دينكم الذي لا تقوم لكم قائمة بدونه، بل ما أصبتم بالمصائب وانتابتكم
النوائب إلا بانحرافكم عما كان عليه سلفكم الصالح، وتشبثكم بالبدع وانغماسكم في
الشهوات واقترافكم المنكرات.
لا أعني بالبدع والمنكرات اختلاف أشكال الأزياء وألوان الطعام والشراب
المباحين، فإن المخالفة في هذا ليست مخالفة في الدين وإنما هي مخالفة في العادات.
وإنما أعني: الانحراف عن أخلاقهم الفاضله وأعمالهم النافعة، كالعفة والشجاعة
والعدل وعلو الهمة وعزة النفس والتواضع، وما ينجم عنها وعن أمثالها من الآثار،
لا تكونون مؤمنين حتى تكونوا - كما قال الله تعالى - إخوة، أبوكم جميعًا خليفة
المسلمين الذي يجب على كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها الخضوع له
والاعتراف برئاسته، ولا يلومكم على هذا بنو وطنكم المخالفون لكم في الدين، كما
أنكم لا تلومونهم على خضوعهم لرؤساء دينهم في الممالك الأخرى، كخضوع
الكاثوليك العثمانيين لحضرة البابا. وإن مقام الخلافة في الإسلام أعرق في الدين من
مقام البابوية في النصرانية، فإن الصحابة لم يدفنوا النبي صلي الله عليه وسلم إلا
بعد تعيين الخليفة عنه. أما السلطة البابوية فقد أفادنا التاريخ أنها تأسست في أوائل
القرن السابع للميلاد، وأول من رتب قوانين الكنيسة ووضع رسومها هو البابا
غريغوريوس الأول الذي تولى من سنة ٥٩٠ إلى ٦٠٤، ومعلوم أن سلطة خليفة
الإسلام روحية وزمنية (سياسية) من الأصل، أما البابوبية فقد أنيطت بها السلطة
الزمنية في أثناء القرن الثامن للميلاد إثر مقاومة البابا لقانون ليون قيصر
القسطنطينية القاضي بإزالة الصور والتماثيل من الكنائس، ونجاحه في إبطال العمل
بما سنه القيصر، وفي سنة ٨٠٠ م ألبس البابا الملك شرلمان التاج، وسمى شرلمان
حاميًا للمسيحيين ورئيسا جسمانيًّا لهم، كما أن البابا رئيس روحاني، وكان نصب
البابا مشروطًا بتصديق الإمبراطور (ولا تنس ما نقل عن جوستنيانوس قيصر
القسطنطينية في ذلك) مع هذا فإنك تجد فرقة الكاثوليك وهي أكبر فرق النصارى
خاضعة أتم الخضوع الديني لسلطة البابا، حيث اتفقوا بعد عدة قرون من وجود
ديانتهم على ذلك، فما بالنا نحن المسلمين لا نرتبط بخليفتنا مع وجود الأمة؟
أنخشى أن يقال: إننا متعصبون؟ إن كان معنى التعصب ما ذكرنا فلنكن متعصبين،
فإن من يغمزنا بذلك أشد منا تعصبًا، ونحن نريه الجذع في عينه قبل أن يرينا القذى
في أعيننا، وإن كان التعصب عبارة عن إهانة المخالف وإيذائه وإكراهه على ترك
دينه ولو بضروب الحيل، فنحن أبرأ الناس من التعصب، وأبعد عنه قديمًا وحديثًا.
نعم قد أحرجنا إليه خصمنا في بعض الأزمنة، لكن لم يكن إلا كسحاب
الصيف عن قريب يتقشع، ولا تزال أوروبا تعلمنا بسوء معاملتها لنا وافتئاتها علينا
بحجة الانتصار للمسيحيين ما لا نعلم، وما منعنا أن نرسخ في هذا العلم إلا الدين
الإسلامي الذي (يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء
والمنكر والبغي) ، على أننا لسنا متمسكين به على وجه الكمال، ولو مرقنا (والعياذ
بالله) كما مرقت أوروبا لأفرطنا في التعصب كما أفرطت، وبغينا كما بغت، وقد
قلت ولا أزال أقول: لا يصد عن الغلو والإفراط في التعصب إلا التمسك بآداب الدين
الصحيحة، فمن كان يحب الإصلاح ويرغب في الوفاق بين المختلقين في الدين، لا
سيما المسلمين والنصارى فليأمر الأولين بآداب القرآن، والآخرين بمواعظ الإنجيل،
وعلى الله قصد السبيل، ومن حاول الإصلاح في الشرق بغير هذا فقد حاول
المستحيل.
فيا أيها العثمانيون إن لكم مخادعين من أنفسكم تأمنون جانبهم، وتتوهمون
غيرتهم، قد أوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم، فاحذروهم على
وطنكم وبلادكم، فإنهم عاملون على انحلال عصبيتكم الدينية والجنسية العثمانية معًا،
يُبغِّضون إليكم دولتكم، ويسعون في إماتة لغتكم وإحياء لغات أوروبا، ويلقون
بينكم وبين بني وطنكم العداوة والبغضاء بعنوان الدين، وما ذلك إلا هدم للدين،
ليضع كل منكم يده في يد شريكه في وطنه، وتعاونوا على الأعمال النافعة،
وتعاملوا بالأمانة والصدق، لتقوى فيكم المحبة التي تغفر معها الهفوات، ويعفى عن
السيئات، لا تنخدعوا لأوروبا، فها أنتم أولاء تشاهدون كيف اتفق أعظم دولها على
شقاء إخوانكم في كريت. حافظوا على جامعتكم العثمانية واجتهدوا في تعميم التربية
التي تصلح أحوال الحاكم والمحكوم، ولا يجرمنكم اختلاف الدين والمذهب على أن
لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور.
((يتبع بمقال تالٍ))