للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


دعوى الشعراني
أنه أعطي أن يقول للشيء كن فيكون
أو دعوى الأولياء الألوهية

(س٣٤) الشيخ قاسم محمد غدير في (أسيوط) : ما تقولون في معنى
قول الشعراني: مما منَّ الله به عليَّ أن أعطاني قول (كن) فلو قلت لجبل: كن
ذهبًا لكان: إلخ.
(ج) إن الإيجاد والتصرف في الأشياء بمقتضى الإرادة المعبر عنها بكلمة
(كن) هو خاص بخالق العالم ومدبره يستحيل أن يكون لغيره , وما كان مستحيلاً فلا
تتعلق قدرة الله به فيقال بجواز إعطائه لغيره كما هو مقرر في علم الكلام فلا يقال:
إن الله تعالى قادر على أن يجعل معه إلهًا آخر , فإن القدرة لا تتعلق إلا بالممكنات
وهذا مُحالٌ , ومن يعتقد أن أحدًا غير الله يفعل ما شاء , ويوجد ويعدم , ويقلب
الأعيان بقول كن؛ فلا شك في كفره الصريح وشركه القبيح , واذا أحسنا الظن
بالشيخ الشعراني؛ فإننا نقول: إن هذه الكلمة مدسوسة عليه , فقد صرح هو في
بعض كتبه كاليواقيت بأنهم كانوا يدسون عليه في زمنه. على أن كتبه المشهورة
المتداولة طافحة بالخرافات والدعاوى التي ينكرها الشرع والعقل , وهي أضر على
المسلمين من غيرها من الكتب الضارة المنسوبة إلى المسلمين وإلى غير المسلمين.
وقد كنت من أيام أجادل بعض البابيَّة وأبين لهم فساد دينهم الجديد فقال أحدهم: ما
تقول في الشعراني؟ فعلمت أنه يريد أن يحتج بما في بعض كتبه من أن المهدي
يأتي عكا وما يقوله في (مأدبة الله بمرج عكا) فإن البابية يحملون ذلك على البهاء
الذي نشر دينه وهو في عكا ومات , فقلت له: إن كلام الشعراني - أي الذي انفرد
به - عندي كالشيء اللقا لا قيمة له , والكتب المنسوبة إليه هي العمدة في الإضلال
المنتشر بين المصريين في الأولياء لاسيما في السيد البدوي فإنها مرغبة في موالده
التي هو قرارة المنكرات والمعاصي إلخ.
وإنني لأعلم أنه لا يزال في قراء المنار على استنارتهم من يعظم عليه وقع
الإنكار على كتب الشعراني , وإن كان الغرض منه تنزيه الله تعالى , فإن الذين
أشربت قلوبهم عقائد الوثنية يعظمون المشهورين من الذين يسمونهم أولياء أكثر مما
يعظمون الله تعالى , ويُسَرُّون أن يوصف أولياؤهم بصفات الألوهية , ويرون من
الضلال أو الكفر أن يقال: إنهم بشر لا يمتازون على غيرهم بما هو فوق
خصائص البشرية , وأن ما وفق له الصالحون من العمل الصالح فإنما هو عمل
كسبي يقدر غيرهم على الإتيان بمثله بهداية الله وتوفيقه. وإن الفتنة في الدعوى
المسئول عنها أكبر من الفتنة بكل كلام أهل الكفر والإضلال إذ لا يخشى من قول
عابد الصنم: إن صنمي إله أن يفتتن به المسلم كما يخشى على عامة المسلمين ,
وكثير من المقلدين الذين يسمون علماء وخاصة من كلمة الشعراني؛ لأن هؤلاء
يأخذون هذه الكلمة بالتسليم بناءً على أنها من باب الكرامات التي ليس لها حد عندهم ,
ومتى سلموا بها جزموا بأن مثل هذا الولي يفعل ما يشاء فيصرفون قلوبهم إليه
ويطلبون حوائجهم منه؛ فيكونون قد اتخذوه إلهًا باعتقادهم أنه يقول للشيء كن
فيكون , وقد عبدوه بدعائه والاعتماد عليه , وهم مع هذا كله يغشون أنفسهم بأنهم لا
يسمونه إلهًا وإنما يسمونه وليًّا كأن الأسماء هي التي تميز الحقائق دون العقائد
والأعمال القلبية والبدنية. وإنني أذكرهم بأن المشركين كانوا يسمون معبوداتهم
أولياء ويعتقدون أنهم شفعاء , قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا
نَعْبُدُهُمْ إلا َّ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفى} (الزمر: ٣) , وقال: إنهم يعبدونهم {
وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: ١٨) وقد بينا لهم الحق لم نخف فيه
لومة لائم فليضربوا بكلام الشعراني عرض الحائط إن كان كل ما في كتبه كلامه أو
ليحسنوا الظن به كما قلنا أولاً , ويحكموا بأن هذه الكتب مملوءة بالدسائس عليه ,
فلا يعتمد عليها ولا تتخذ حجة عليه , وهذا هو الأسلم فنبرئه ولا نبرئها , وندعو له
بالرحمة ونطرحها مكتفين بهدي الكتاب والسنة فمن تمسك بهما نجا , وما تنكب
عنهما هلك , واعْلَمْ أن أعظم ما يغش الناس بقبول كل ما ينسب للأولياء
والصالحين أمران: أحدهما وقوع بعض الأمور الغريبة على أيديهم أو في إثر
الالتجاء إليهم , وقد بينا طرق تأويل ذلك وكشف الحق فيه في مقالات الكرامات
والخوارق من المجلد الماضي , وسنزيدها بيانًا. وثانيهما: تسليم بعض الشيوخ
المعروفين بالعلم أو الصلاح بذلك.
* * *
واقعة غريبة في الموضوع
رأى في هذه الأيام رجل موحد صديقًا له من القضاة الشرعيين في المسجد
الحسيني يتضرع ويشكو لسيدنا الحسين عليه السلام , ويطلب منه قضاء حاجاته
من غير أن يذكرها بالتفصيل اكتفاءً بأنه رضي الله عنه يعرفها لأنه مطلع على
أحوال العالم كله , ولذلك كان يقول له في كلامه ما يقوله غيره من العامة: الشكوى
لأهل البصيرة عيب. فقال له الموحد: إن هذا الذي أنت فيه شرك بالله تعالى ,
وإن أحكامك الشرعية غير صحيحة مع اعتقادك وعملك هذا , وبعد جدال اتفقا على
أن يتحاكما إلى عالم في الأزهر هو من أشهر أهله في مصر بالعلم والصلاح
فقصا عليه خبرهما , وشرح له الموحد عقيدته فسأله الشيخ عن أستاذه الذي يحضر
عليه! ! فقال: ليس لي أستاذ وإنما الكلام في العقائد لا في الأشخاص. فسأل
القاضي عن صحة ما نسبه إليه , فقال له: نعم هذا الذي لقينا عليه مشايخنا ,
ومنهم فلان الصالح الشهير. فقال الشيخ للموحد: إن عقيدتك يا بني هي الشرع إذ
لا يوجد فيه شيء مما عليه الناس, فإذا لم تعتقد بأن أحدًا من الأولياء يضر أو ينفع
فإن ذلك لا يضرك , ولكن لا تتغال فتطعن فيهم؛ إذ يخشى عليك حينئذ , ولا يضرك
أيضًا أن تعتقد كما يعتقد القاضي فإن بعض علمائنا الشافعية الذين لا نستطيع أن
ننكر عليهم أو نشك في فضلهم قد أثبتوا للأولياء تصرفًا! ! فقال الموحد: إن
الأمر في اعتقادي القطعي الذي أَلْقَى اللهَ عليه هو دائر في هذه المسألة بين التوحيد
والشرك , فأنا أعتقد أنه لا ضار ولا نافع إلا الله , وأن نبينا عليه الصلاة والسلام
قد جاءنا بالهداية عن الله تعالى , ولم يكن له من الأمر شيء , وإنما عليه التبليغ
وقد بلغ رسالة ربه (وانتهت مأموريته) فقبضه الله إليه , والقاضي يقول: إن
للأولياء الميتين ديوانًا , وإنهم هم المتصرفون في الكون , فكل ما يجري فيه فإنما
يجري بتصرفهم، وهذا نقيض اعتقادي. فقال له الشيخ: إنك قلت أولاً: إنك
لقيت القاضي في المسجد الحسيني فماذا كنت تفعل هناك؟ قال: أزور سيدنا
الحسين. قال: ولماذا؟ قال: لأن زيارة القبور مسنونة للاعتبار , ولأن سيدنا
الحسين رجل عظيم من أولاد الرسول الذي جاءتنا الهداية على لسانه بذل دمه في
سيبل نصرة الدين وإزالة الظلم , فأنا بزيارته أزداد اعتبارًا وأدعو له بالرحمة
اعترافًا بفضله. قال الشيخ: قلت لك: إن اعتقادك شرعي , ولكن لا تنكر على
القاضي وغيره , فإن شيخنا فلانًا كان يرسلني في أول حضوري عليه إلى سيدنا
الحسين في حال شدته (أو قال: مرضه , لا أدري) ويأمرني أن أقول له: العادة
ياسيدنا الحسين. فيحصل له خير (أو قال غير ذلك النسيان مني) فانظر أيها
القارىء؛ تجد العالم يعترف بأن كذا هو الدين والشرع , ثم يقر على مخالفته
اعتمادًا على أن بعض مشايخه المقلدين كانوا يقرون ذلك , وهو يحسن الظن بهم,
وأعجب من هذا أن الناس الذين يسلمون بأن أمر الشعراني إذا أراد شيئًا أن يقول
له: كن فيكون لا ينافي الدين فلا يعترضون عليه , بل يعترضون على ابن تيمية
إذ يقول: لا إله له التصرف إلا الله , ولا دين إلا ما جاء في كتاب الله وسنة
رسوله. فهكذا يفعل التقليد لا يبقي عقيدة ولا دينًا ولا حجة فيه إلا الإذعان للأشخاص
الذين لا عصمة لهم من الجهل ولا من الخطأ , وإلا حكايات ووقائع غريبة ينقل مثلها
عن جميع الملل. وكثيرًا ما يكون هؤلاء المعتقدون بتصرف الأموات من أهل
العبادة والزهد والإخلاص بحسب تقاليدهم , ولذلك يُغَشُّ الآخرون بهم {وَخُلِقَ
الإِنسَانُ ضَعِيفاً} (النساء: ٢٨) .