للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: رفيق بك العظم


هذا أوان العبر.. فهل نحن أحياء فنعتبر

وبالجملة فقدها كل فنون المدنية النافعة التي سادت بها الدول المسيحية
وسعدت الأمم الغربية , وإليك البيان:
(نشر أحد كُتاب العثمانيين في العدد ٣٢ من جريدة (ترك) المؤرخة ٢٥
ربيع أول سنة ١٣٢٢هـ الصادرة في مصر مقالة تستثير كوامن الشجون خلاصتها
أنه رأى في جرائد الآستانة كلامًا طويلاً عن مرور منير باشا سفير الدولة العثمانية
في باريس على صوفيا عاصمة البُلْغار؛ لأجل دعوة أميرها إلى زيارة الآستانة،
وقال: إنما استوقف خاطره من ذلك الكلام الطويل جملة واحدة وهي قول تلك
الجرائد: إن في جملة ما زاره السفير من المعاهد في تلك العاصمة - التي كانت
تسمى في عهد استيلاء الترك عليها مركز ولاية الطونة - معرض النباتات
والحيوانات والتحف، وهي العاصمة التي كانت منذ خمسة وعشرين سنة كبقية
عواصم ولايات الدولة في أوربا مثل يانيا وأدرنة ومناستر قذرة الشوارع
والطرقات ضيقتها محرومة من عناية المجالس البلدية، كل شيء فيها مهجور ما
عدا الحبوس والمعابد والقشل (التكنات) فصارت تلك العاصمة في زمن قليل -
أي منذ استقلت عن الدولة - في حالة من الترقي يكاد من رآها يجهل أنها مدينة
صوفية القديمة لما صار فيها من الشوارع العريضة المنظمة، والميادين الفسيحة
والملاعب (التياترات) والمنتزهات والترامواي الكهربائي والتلفون , وليست مدينة
صوفيا وحدها التي ترقت إلى هذه المرتبة من المدنية الأوربية، بل كل حواضر
البلاد التي دخلت تحت حكم البلغار كفلبه ووارنه وغيرهما , ولم ينحصر هذا
الترقي بالبلغار بل شمل الصرب ورومانيا واليونان , وهي الممالك التي انفصلت
عن الدولة العثمانية، واستفاض فيها نور التمدن استفاضته في البلغار وستتبعها
كريد أيضًا التي انفصلت بالأمس عنا , وأما الممالك التابعة لنا فإنها فضلاً عن أن
تترقى في فنون المدنية آخذة يومًا عن يوم بالتقهقر والخراب وإليك مدن أدرنة
وبروسة وحلب والشام وبغداد اللائي كن عواصم كبرى للملك من أزمنة متفاوتة لم
يستطعن المحافظة على عمرانهن المتخلف من ذلك الزمان. إلى أن قال: وبغض
النظر عن حاجة ولاياتنا إلى أسباب العمران؛ فإنا إذا نظرنا إلى القسطنطينية تلك
المدينة الكبرى التي يسكنها مليون من النفوس , والتي هي ذات استعداد وقابلية؛ لأن
تكون عاصمة العالم أجمع نرى أن أبنيتها أدنى من أبنية قرية من قرى الممالك
المتمدنة وطرقها وميادينها مملوءة بالأوحال شتاء، وهي قرارة الأقذار صيفًا، ثم
استرسل الكاتب في هذا الباب بما يُدْمي القلوب، ويُشْجِي النفوس، وذكر من حال
عاصمتنا الكبرى وتدنيها العظيم، وعدم مجاراتها حتى للبلدان التي انفصلت عنها
بالأمس، وفقدانها كل وسائل الراحة وأسباب العمران ما لم نر لإيراده حاجة خشية
التطويل. وأذكر أيضًا هذا الشاهد، وقد نشرته من بضع عشرة سنة جريدة الأهرام
التي تطبع بمصر وخلاصته أن صاحب الجريدة اجتمع في مدينة صوفيا يومئذ مع
أحد كتاب الجرائد الهندية الإسلامية، وجرت بينهما محادثة مما جاء فيها قول ذلك
الكاتب: (إن من يرى إمارة البلغار يكذب التاريخ، وذلك لأنه لا يصدق انفصال
هذه الإمارة عن الدولة العثمانية منذ عشرين سنة وسبقها لأمها عاصمة الدولة هذا
السبق البعيد في كل دروب المدنية والترقي في ذلك الزمان القليل) .
وأنت ترى من هذا الشاهد، ومما سبقه وهما من أقوال كتاب المسلمين أنفسهم
كيف أن الشعوب الأخرى تسرع بالترقي والمسلمون يتخلفون، وكيف هو حال
الممالك الإسلامية بالنسبة لحال الممالك المتمدنة على أن ما ذكرناه يختص بالمملكة
العثمانية دون الممالك الأخرى مع أن هذه المملكة هي أرقى حالاً بكثير من بقية
الممالك الإسلامية من حيث الترقي المدني في المعارف الضرورية لقيام الدولة
العثمانية على أمر التعليم قيامًا وإن كان في نفسه غير موفٍ بالحاجة إلا أنه لا يخلو
من شيء من الفائدة، وأخصها فائدة المدارس الحربية التي جعلت لهذه الدولة جيشًا
منظمًا بلغ الغاية من الترقي لو لم يصحبه ضعف السياسة والمال، بل ضعف أساس
الحكومة لأنها حكومة إسلامية.
هذا حال هذه المملكة , وهي على ظننا أرقى من غيرها بكثير، فما بالك
بمملكة الغرب الأقصى وفارس والأفغان، وحال الأولى من الفوضى والتردي في
الجهالة والإمعان في طرق التدلي معلوم , فهذه المملكة التي ليس بينها وبين أوربا
بلاد المدنية والترقي إلا مضيق سبتة لم تنتفع من هذا الجوار بشيء ألبتة، ولم ينفذ
إليها على قربها من أوربا شعاع من نور المدنية الجديدة، والحياة السعيدة مع أن
ذلك النور عمَّ أفق اليابان في الشرق الأقصى، وبينها وبين منبعثه آلاف من الأميال
فليس في المغرب الأقصى الآن أثر للتعليم على الأصول الجديدة ولا اسم للحكومة
المنظمة، ولا قوة للملك، ولا جند منظم للدولة، ولا معرفة لأهلها بأحوال العالم قط،
وحسبك من إمعانهم في الجهالة أن المطابع التي كانت سببًا متينًا من أسباب
انتشار العلم بين الأمم لم يبق بقعة من بقع الأرض حتى مجاهل أفريقيا إلا وجدت
فيها , وأهالي المغرب الأقصى لم يعنوا بها ولم تنتشر في بلادهم إلى اليوم.
جاء إلى مصر في هذه الآونة السيد المنبهي وزير الحربية السابق في
المغرب الأقصى بقصد أداء فريضة الحج، فاستطلعته طلع الدول والبلاد، وبسطت
لديه بعض أمانيَّ في إصلاح المملكة، فأخبرني أن المسلمين ثمة يأبون كل إصلاح،
وليس عندهم استعداد لقبول أي ضرب من ضروب الترقي والمدنية، ولما
أوضحت لديه أهون السبل للوصول إلى تقويم أود الأمة والدولة أظهر من خشونة
المركب وشدة الأوّاه على إمكان العمل في بلاد ذلك مكانها من عدم الاستعداد
للإصلاح في التعليم والإدارة والقضاء والجندية ما يظهر من كل كبير وأمير في
المسلمين إذا شكوت إليه ضعف أمته وتقهقر أهل مِلْته، حتى كأن العجز عن
النهوض أصبح من العاهات السائدة على قادة المسلمين، وخاصتهم كما هو آخذ
بنواصي عامهتم مُتسلط على نفوس كافتهم.
هذا إجمال حال مملكة المغرب الأقصى أما مملكة فارس فحسبك أن تقول: إن
تلك الأمة على عراقتها في المجد، وقدم عهدها في الدولة , وأنها من الممالك
القديمة التي كانت ذات مدنية راقية وملك عظيم أصبحت الآن في حالة من الضعف
وسوء الإدارة والتدلي عن مرتبة العلم والمدنية بحيث لا ترى لها حركة تدل على
شيء من الرقي المطلوب لمثلها هذا مع أن مليكها السابق والحالي جابا أطراف البلاد
الأوربية ووقفا على كل فنون المدنية الحاضرة، وعلما بأنفسهما وجه ترقي الأمم
المسيحية، ومع هذا فلم يغن ذلك عن تقهقر بلادهم وتدلي الأمة الإسلامية فيها شيئًا ,
فليس في البلاد الفارسية من المدارس إلا ما لا يتجاوز عدد الأنامل، وليس للدولة
نظام للجندية ولو كنظام الجندية العثمانية، وليس لثغورها التي أضحت مطمح
الدول الغربية ولا باخرة حربية، وبالجملة فسكون التناهي في الانحطاط سائد هناك
كما هو سائد في بقية البلاد الإسلامية.
وأما الأمة الأفغانية فهي إلى البداوة في كل أصول معيشتها ومعارفها أقرب
منها إلى الحضارة، وليس فيها من دلائل الحياة إلا قيام أميرها المتوفىَّ وأميرها
الحالي على ترتيب الجند وتدريبه على الحرب، وجمع كلمة القبائل والأحزاب على
الذود عن حياض الملك.
فهذا بوجه الإجمال حال المسلمين في هذا العصر، وحال دولهم المستقلة لهذا
العهد أفليس مما يُكْلِم القلوب، ويُدْمِي الأحشاء أن لا يكون فيهم ولو دولة واحدة
تضاهي أصغر الإمارات المسيحية في التقدم والارتقاء كإمارة البلغار أو الصِرب أو
رومانيا اللائي انفصلن بالأمس عن الدولة الإسلامية الكبرى فسبقنها سبقًا بعيدًا،
وصرن لها خصمًا عنيدًا؟ وما هي يا ترى علة هذا الخمود القاتل، والجمود الشامل،
الذي تَعَبَّد المسلمين، وقطع نظامهم وجعلهم يتسكعون في أخريات الأمم، حتى
سبقهم المسيحيون والوثنيون، واستعبدهم منازعوهم على الملك، وغلب على
أمرهم مزاحموهم في مضمار الحياة في كل بقعة من بقاع الأرض؟ ألأنهم دون
أولئك السابقين خلقًا؟ أو لأنهم أضعف منهم استعدادًا؟ كلا، إن الاستعداد والخلق
في أبناء الطينة الواحدة لا يخلتفان إلا بالأعراض لا بالجواهر. أو لمطلق كونهم
مسلمين وأن الإسلام مانع من المدنية كما يقول أعداؤه والمارقون منه.
هذه هي العقدة التي أصبحت مُزْدَحَم الأفكار، ومَرْمى نظر الباحثين في
طبائع الأمم في هذا العصر، وإنما قال بعضهم: إن الدين هو المانع من ترقي
المسلمين؛ لأنهم لم يروا شعبًا واحدًا منهم نهض لمجاراة الأمم المُتَمَدِّنة واستحق أن
يوضع في مصاف الشعوب الراقية حكومة ومدنية، بل كل المسلمين في هذا
التأخر سواء، وإن تفاوتوا في المراتب بتفاوت الأرجاء، مع أن مجاوريهم من
المسيحيين أصبحوا مذ انفصلوا عنهم في أسمى درجات الارتقاء، وكذلك أبناء طينتهم
الشرقية من أتباع كونفيوشيوس وبوذه وهم اليابانيون صاروا في مصاف الأمم
الراقية، ودولتهم تعد من دول المشرق العظمى مع أنهم لم يدخلوا في غمار هذا
الترقي الجديد إلا منذ ثلاثين سنة.
الذين قالوا: إن علة تدلي المسلمين هو الدين، بعضهم يقول: إن مصدر هذه
العلة تعدد الزوجات؛ لأنه يهدم نظام البيوت، ويفقد أصول التربية، ويزج بالنفوذ
في غمار الشهوات، وبعضهم يقول: إن مصدرها عقيدة القدر التي تقعد بالنفوس
عن السعي، وتستأصل شأفة الاعتماد على النفس، وبعضهم يقول: إن مصدرها
الاعتقاد بالأموات الذين يسمونهم بالأولياء والصالحين , ويعتمد عليهم عامة
المسلمين في قضاء الحاجات دون الاعتماد على تعاطي الأسباب الموصلة للحاجات
إلى غير ذلك من العلل التي إذا محصها العقل؛ يجدها بعيدة عن غرض الإسلام
أدخلها في العقائد والأعمال سوء الفهم، وهي وإن صلحت؛ لأن تكون سببًا لتدلي
المسلمين إلا أنها لا تصلح أن تكون برهانًا على أن الإسلام هو المانع من ترقي
المسلمين، بل المانع في معتقدي أمر آخر أريد وضعه لدى البحثين في موضع
النظر والنقد فأقول:
الإسلام من حيث هو دين سماوي لا يراد به إلا سعادة البشر وخيرهم لا
يسوغ لعاقل أن يقول: إنه يمنع المتدين به من مثل هذه السعادة التي أرادها الله
لعباده بواسطة الأديان، وإنما هي الأفهام تخلتف في معرفة مغزى الدين باختلاف
الأمم والعصور، وتتباين بتباين العقول. فالإسلام أول من تلقاه من الأمم كما هو
معروف الأمة العربية التي كانت مُتَرَدِّية في الضلالة مُتَهَافِتة في البداوة ليس عندها
شيء من قوانين الاجتماع ونظام الحكومات الراقية، والشعوب المتمدنة , فلما
جاءها الإسلام بأحكامه ومواعظه وأوامره ونواهيه؛ رأى العرب فيه مقصدًا قريبًا
وأمرًا جليلاً، وحكمة بالغة فانضموا إليه، وأقبلوا عليه وقالوا: هذا هو الشيء
الذي هو كل شيء وغَلَوا في ذلك الاعتقاد غُلُوًّا أًذْهَلَهم عن أن الغرور في الدين إلى
حد مزجه بكل شيء من أمور الحياة الدنيوية - وأَخَصها حياة الأمم السياسة خروج
بالدين عن مقاصده الأصلية، وافتئات على صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم -
القائل: (إذا كان شيء من أمر دينكم فإليَّ، وإذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم
أعلم به [١] ) , وهو إرشاد صريح إلى أن للدنيا أمورًا مرجعها تحكيم المصلحة
والعقل؛ فهي في جانب، والدين في جانب آخر.
العرب كما قلنا كانوا عريقين في البداوة , وحياة البداوة قاصرة على أمس
الحاجات الحيوية؛ فلم ينظروا إلى ما بعد تلك الحاجات، فهان عليهم مزج الدنيا
بالدين، فلم يجعلوا الدين غير الدنيا كما أمرهم الشارع، ولم يقفوا على سر التفريق
بين الأمرين إلا أفرادًا منهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي كان يعلم أن
المصلحة تتحول بتحول الزمان، وتدور معه كيفما دار [٢] . لهذا فات العرب في
مبدأ نشوء الدولة وظهور الأمة تحكيم العقل في كثير من أمور الأمة الدنيوية،
ومصالحها الاجتماعية، وحكموا الدين في كل شيء، حتى ما لا علاقة له بالدين،
وهو ما لا نريد الخوض فيه الآن، حتى توهم من أتى بعدهم أن سنة الأولين هي
عين الدين.
وأهم الأمور التي حَكَّمُوا فيها الدين، فكان لها أقبح الأثر في حياة الأمة
الإسلامية، وهي على ما أعتقد سبب كل ما يعانيه المسلمون من ضروب الشقاء
إلى هذا اليوم إنما هي الحياة السياسية أو أمر السياسة والملك. الأمم كما هو الثابت
إنما تقوم بالحكومات , والحكومة إذا لم تكن ذات روابط قانونية تُراعى فيها حالة
كل زمان وقوم، وتسير مع ترقي الأمم كيفما سار فلا حياة للأمة بها، مثاله أن
الحكومة المطلقة إذا وافقت عصرًا وقومًا لا توافق عصرًا وقومًا آخرين وبالعكس.
ربما كانت الحكومة المطلقة في قوم أصلح منها في عصر لقوم آخرين فلا بد إذن
من ترك شأن الحكومة لمطلق المناسبات الطبيعية في كل قوم وعصر، والعرب لما
لم يكن لهم تاريخ لكيفية قيام الدول وتنظيم أصول الحكومات، ولا أصل يرجعون
إليه في ذلك كالأمم المتمدنة في ذلك العصر ألصقوا مسألة الخلافة وتأسيس قواعد
الملك بالدين فكان أول نزاع وقع على الخلافة قائمًا بالدين، وتلاه فتنة عثمان -
رضي الله عنه - فبنوها على الدين، ثم الخلاف بين علي ومعاوية - رضي الله
عنهما - فكان يحتج كل فريق من المتخاصمين على الآخر بالدين، ثم قام النزاع
بين بني هاشم وبني أمية باسم الدين، ثم بين بني هاشم وبني العباس، كذلك باسم
الدين. وأغرب من ذلك أن الخوارج الذين قالوا في مبدأ أمرهم بعدم لزوم الخلافة،
وبنسف قواعدها نسفًا لم يخطر لهم على بالهم تحويل طرز الحكومة إلى أصول
نافعة كالأصول الجمهورية مثلاً حتى اضطروا للرجوع إلى رسومها التي ألصقت
بالدين، وولوا منهم أمراء استحلوا هم وأشياعهم حتى دماء الأطفال والنساء بالدين،
وناصبوا الخلفاء العداوة، وأصلوا الأمة حربًا عوانًا مبدؤها سياسي وهو عدم
الرضى عن حكومة الخلفاء، إلا أنها انتهت إلى الانتحال في الدين. ولم يعرف
الخوارج طريق المضي في وجهتهم السياسية وبناء مذهبهم على أساس معقول؛ إذ
ليس للعرب تاريخ في ترتيب الحكومات يرجعون إليه، وكانت نتيجة ذلك كله
استئثار الخلفاء بكل وظائف الدولة كالوزارة والقضاء والحرب وبيت المال وغير
ذلك من ضروب الاستئثار بالسلطة الذي لا ينتظم به شأن دولة قط، وذهول الأمة
الاسلامية في ذلك المعترك القائم باسم الدين عن النظر فيما يوافق مصلحتها
السياسية من جهة ترتيب الدولة على طُرُز يضمن سعادة المسلمين لا مصلحة
القائمين بتلك الدعوة الدينية.
فالعرب مع إغراقهم في الحرية , وعدم استكانتهم لاستبداد الخلفاء في مبدأ
الأمر فاتهم أن يجاروا في وضع قواعد الدولة، وتأسيس أصول الحكومات ذات
الصبغة الدستورية كالجمهورية والقنصلية والحكومة المعتدلة أقرب الأمم جورًا لهم
يومئذ وهم الرومان واستمروا راضخين لحكم التنازع باسم الدين، ولما انصبغت
دولتهم بالصبغة الأعجمية، وأخذوا عن الفرس والروم، ما أخذوه من ضروب
المدنية , وأصبحوا في حاجة إلى حكومة أرقى تنزع بها يد الخليفة من القبض على
كل شئون الدولة بيده القاهرة، وتوزع الوظائف على المقتدرين على القيام بأعبائها
لم يتمكنوا من تغيير طرز الحكومة، والنظر في مستقبل حياتهم السياسية لأنها
صارت حياة دينية , هذا مع إيغال الخلفاء في الظلم واستئثارهم بالسلطة ,
فاضطروا العلماء إلى وضع قوانين خاصة برسوم الخلافة ووظائفها كقوانين الوزارة
والقضاء وأشباهها لتغل يد الخلفاء عن الاستبداد مع تحري إسنادها إلى الدين تبعًا
لصبغة الحكومة الدينية، ولكن لم تكن تلك القوانين في نظر الحكومة يومئذ إلا
شيئًا تعبديًّا لإسنادها إلى الدين , والتعبد أمر وجداني لا يكون إلا ممن أخلص لله
حق الإخلاص وليس وراءه من قوة الإكراه ما يدعو إلى العمل به قسرًا كما يكون
ذلك في الحكومات الديمقراطية التي لا توكل إلى سيطرة الوجدان، بل إلى سيطرة
القوة، ومن ثم تغلغل الفساد في جسم الحكومات الإسلامية ورضخ لها المسلمون
بحكم الدين وباستدارج الوضعيين بمثل قولهم: (أدوا للأئمة حقوقهم وسلوا الله
حقوقكم) حتى صاروا لا يعرفون أصلاً من أصول الحكومات العادلة، ولا مخرجًا
من ضيق الاستبداد، وتأصل فيهم روح الخضوع المطلق، والطاعة العمياء،
وناهيك بمثل هذا الروح الذي يسلب الإنسان قوة الإرادة، ويضعه بمنزلة الأطفال
الذين لا يعرفون محركًا لهم غير الوالدين، ولا يألفون إلا ما ألفه الوالدان، ومن ثَمَّ
ترك المسلمون كل حول وقوة، وكل اعتماد على النفس، وسعي إلى الترقي ونظر
في وجوه الاعتبار، وأحالوا ذلك على الأمراء والحكام، فإذا نهضوا بهم نهضوا،
واذا قعدوا قعدوا، بل تناهى بعضهم في ضعف قوة الإرادة والتمييز لما ألفوا
الخمول، وأَنِسُوا بالجهل، وتتابعوا في العماية فكانوا أعداءً لمن يريد من الأمراء
إصلاح أي شأن من شئونهم الاجتماعية، ومس أي عادة قبيحة من عوائدهم
الموروثة، وتاريخ الإسلام مشحون بمثل هذه الحوادث، وآخر عهد بها ما بسطناه
فيما تقدم عن أهل المملكة المراكشية الذين يأبون كل جديد.
هذه كانت نتيجة انصراف العرب أيام بداوتهم بكليتهم إلى الدين، وعدم
وضعهم السياسية جانبًا لتكون تبعًا في النمو والارتقاء لترقي حال المسلمين، ويدلك
على خطئهم في ذلك أن الحكومات البدوية التي لم تنصبغ بصبغة الحضارة وتجاري
الزمان في تقلبه والأمم الراقية في أصول حكومتها لم تزل لهذا العهد أدنى الدول
الإسلامية رقيًّا , وأهلها أكثرهم بأمور الحياة الاجتماعية جهلاً كأهالي المغرب
وجزيرة العرب الذين حالهم من التقهقر معروف إلى اليوم.
إذا تقرر هذا؛ فقد علمت علة البلاء الذي أصاب المسلمين ومصدر شقائهم
الاجتماعي إلى هذا الحين، ولا تظنن أمة وضعت نفسها في هذه المنزلة من
الإعراض عن شئون الدنيا , وألصقت كل شيء من أمور ترقيها المدني بالدين
واستسلمت لأمرائها القاهرين تلك المئات الطويلة من السنين ترضى لنفسها منزلة
أرقى منها , أو تلتمس وجوه العِبَر فتعتبر بها إلا بعد عناء طويل تلاقيه، وشقاء
كثير تعانيه. والذي أعتقده أن الشقاء الآن استحكمت حلقاته، والعبر ترادفت
وجوهها , وحسب المسلمين من ذلك أن صاروا في أخريات الأمم وكفاهم عبرة أمة
اليابان الوثنية التي نهضت للأخذ بأسباب الرقي والتقدم نهضة رجل واحد , فبلغت
في ثلاثين سنة شأو الأمم الأوربية، وناهضت دولتها أعظم الدول المسيحية. هذا
والمسلمون ينتزع ملكهم , وتهدد بالزوال دُولهم، وتتحكم الدول المتمدنة فيهم وفي
حكوماتهم، وليس في دولهم دولة تنهض باختيارها إلى تأسيس حكومة راقية
تضارع بها أصغر الدول الأوربية، وتدفع غارات الشعوب المتمدنة التي تنازع
المسلمين البقاء بقوة العلم وسلاح المدنية , وتطهير أصول الحكم من عوامل
الاستبداد القاتل. وقد استعبد الأوربيون إلى الآن ثلاثة أرباع المسلمين، ولا يمضي
ربع قرن إلا والربع الباقي يصبح في حوزتهم، وتدال دولته إليهم إذا استمر هذا
الربع في عمايته , ولج في جهالته، ولم ينهض لتدبير شئون نفسه، ويترك
الاعتماد على حكوماته التي تأصل فيها مرض الاستبداد الذي هو نار تأكل الممالك،
وتهدم صروح المجد، وتذهب بقوة الأمم وهم لا يشعرون.
إخواني: إن الحياة مع الجهل مستحيلة، والإقامة على الذل عار، والبقاء
أمام جيوش العلم والمدنية متعذر، والسلامة مع هذا الجمود غير متأتية، وما كنا
عليه بالأمس لا ينفعنا اليوم، وما نحن فيه اليوم لم يعلمه آباؤنا الأولون، ولو
علموا الغيب لاستكثروا لنا من الخير، ولكل عصر شأن، وشأن هذا العصر ما
ترون وما تسمعون من أحوال الأمم الراقية والدول الدستورية , وحياة الانسان غير
حياة الحيوان؛ لأن الأول يطلب الترقي في كل شيء، والثاني يرى الأكلة الواحدة
كل شيء فإذا أردنا الحياة فحتمًا علينا أن ننهج نهج السابقين، ونتبع خطى
المسرعين، بما لا يكون فيه حرج في الدين، ولنعتقد الاعتقاد اللائق بالدين، وهو
أنه ليس كما يقول غيرنا: دين مانع من ترقي المسلمين، ولنحترم جانب هذا الدين
بأن لا نجعله سدًّا في وجوهنا وغِلاًّ في أعناقنا فنؤيد بفعلنا هذا قول المستهزئين،
ودعوى الطاعنين، ولنتقين الله في ديننا العظيم الجليل، ولا نجعله سببًا لهلاكنا
أجمعين، فنبوء بالخزي في الدارين، ونشقى في الحياتين.
هذا أوان العبر أيها المسلمون، فهل أنتم معتبرون، وهذا نذير أمين فهل أنتم
سامعون، موت مع الجمود، وخذلان مع السكون، وفناء عاجل مع الجهل،
وخزي بين الأمم، مع الرضى بما وجدنا عليه الآباء، وحياة سعيدة مع الإقدام،
وظفر بالمطلوب مع الحركة، وبقاء مستمر مع العلم، وإيجاد حكومة ديمقراطية
مقيدة، وفخر مع الرقي إلى مرتبة الكمال. فانظروا أية الحالتين ترضون، وهذا
أوان العبر فهل أنتم معتبرون؟ والسلام على من اتبع الحق وأخذ به من المسلمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... رفيق العظم