للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(سبب ثناء رياض باشا على اللورد كرومر)
أشرنا في الجزء الماضي إلى سخط أحداث الوطنية، من خطبة رياض باشا
في احتفال المدرسة الصناعية، واهتمام عبيد الكلام بقول الوزير دون عمل الأمير،
على أن عمل الأمير حكم نافذ فإذا أعطى عميد الاحتلال النفوذ الأرفع صار ذلك
حقًّا رسميًّا، والوزير معذور في استنجاده اللورد كرومر لحضانة المدرسة من دون
الأمير، وثنائه عليه لأنه يعتقد أن نجاح المدرسة متوقف على ذلك وإليك البيان
بالإيجاز:
المدرسة نسبت إلى اسم محمد علي لتكون تذكارًا لمرور مائة سنة على
تأسيسه هذه الإمارة التي يتمتع المنتسبون إليه بسعادتها، وقد جعل المشروع تحت
رعاية الأمير الجالس على كرسي (محمد علي) الآن فماذا كان منه ومن أهل بيته،
ومن الأمة المصرية كلها؟ كان أن افتتح الأمير الاكتتاب بمائة جنيه , فلم يزد الذين
اكتتبوا من الأمراء عن ذلك على أن أكثرهم لم يكتتبوا، وكان مجموع ما جمع من
المال من الأمة أمرائها وأغنيائها لا يبلغ بضعة آلاف من الجنيهات، وقد تبرع
الأجانب على قلتهم وعلى كون المدرسة مصرية إسلامية بنحو ذلك والكل قليل.
ونستثني ما تبرع به أحمد منشاوي باشا فإنه صار أمة وحده، والسبب في هذه
الخيبة الوطنية افتتاح الأمير الاكتتاب بمائة جنيه , ولو افتتحه بعشرة آلاف جنيه
مثلاً , لوُجِدَ عدد كثير من الأمراء والأغنياء يستحي أن يدفع واحدهم أقل من ألف
جنيه، وكان المال بذلك يكون كافيًا لتأسيس المدرسة بمال الوطنيين، ولو شاء
الأمير أن ينجح المشروع بما له من النفوذ المعنوي لفعل. أرأيت لو كان لهج أمام
الوجهاء، والأعيان الذين يقابلونه في الأيام التي يسمونها أيام التشريف بتقصير
الأمة في هذا المشروع الصناعي الذي هو ركن من أركان الحياة في البلاد أما كانوا
يتسابقون إلى البذل بسخاء عظيم؟ أرأيت لو منح بعض الذين تبرعوا بمبالغ
عظيمة كآل محمود في الرحمانية - ولا نقول: منشاوي باشا - برتبة أو وسام
عظيم أو بالثناء عليهم في محفله. أما كان يوجد كثيرون يقتدون بهم؟ بلى , ولكن
الأمير لم يفعل فمن المحتم أن اكتتابه ومسلكه كان العلة الحقيقية في عدم نجاح
الاكتتاب.
وأما اللورد كرومر فهو على كونه قد تبرع من جيبه بمثل ما تبرع به الأمير
من جيبه قد بذل نفوذه الذي يعلو كل نفوذ في هذا القطر لمساعدة المشروع بالثناء
عليه قولاً وكتابة، وبحمل المالية بل أمرها بإعطاء الجمعية أرضًا لبناء المدرسة لا
يقل ثمنها عن المال الذي جمع من الاكتتاب , وبدفع تعويض لأصحاب الأكواخ
والخِصاص (العشش) التي احتاجت الجمعية إلى إزالتها من هناك , ثم بأمر أحد
كبار المهندسين الإنكليز الذي أسس مدرسة الحكومة الصناعية على مساعدة الجمعية
في تأسيس المدرسة بغير أجر ففعل، أفننكر مع هذا أن اللورد كرومر كان خيرًا
لهذا المشروع من جميع أمراء الوطن المحبوب وأغنيائه ووجهائه وجرائده ومن
حَدَثِ السياسة الوطنية، بل ومن جميع أحداثها الذين ينكرون فضله بزعمهم حب
البلاد وأمير البلاد الرسمي. ألا نعذر رئيس الاكتتاب للمدرسة الذي بذل جهده
لإنجاحه , فخاب أمله في قومه أن يعهد بالمشروع إلى من هو أرجى الناس لإبلاغه
كماله. أمن الوطنية أن يترك الإنسان الطريق الموصل إلى نفع الوطن بالفعل،
ويلغط بذكره في القول؟ فيقال: إن مثل رياض باشا العامل للوطن قد مرق من
الوطنية لأنه شكر المحسن للوطن رجاء المزيد، وأومأ للمقصر بتقصيره رجاء
الإقلاع والتشمير , أو أنه خرج عن الموضوع؟ ؟
قال المؤيد: إن أكثر الناس قد استاءوا من خطبة الوزير. ويعني أكثر
أعضاء جمعية (العروة الوثقى) إذ لم يجتمع بأكثر الناس ولا بأكثر حاضري
الاحتفال فيقال: إنه يعنيهم , ونحن نظن أن أكثر العقلاء على اعترافهم بفضل هذه
الجمعية وهمة أعضائها مستاءون من تسمية مدارسها بأسماء أمراء مصر السابقين:
إبراهيم وعباس وسعيد وإسماعيل الذين خربت في أيامهم البلاد، وهلكت العباد،
وليس لهم أثر علمي يذكر فيشكر، وهذه ذرياتهم تتمتع بالأراضي الواسعة من البلاد،
ولا تسمح لمدرسة ولا لجمعية خيرية بفدان واحد مهما صانعتها الجمعية، وما
استياء بعض أعضاء الجمعية من خطبة رياض باشا إلا كنسبة مدارسها إلى أولئك
الأمراء , أي أنه أثر العبودية وبقايا الاستبداد السابق، وما كلمة رياض بجارحة
لاستقلال الأمة كما قيل بل هي أثر للإحساس باستقلالها إذ معنى استقلال الأمة هو
شعورها التابع لاعتقادها بأن الأمراء أجراء للأمة لا آلهة لها , فلئن كان أكبر وزير
في مصر قد أومأ إلى ما كان من إهمال الأمير لمشروع المدرسة الصناعية إيماء
فلقد كان أقل الأعراب والنساء يصرحون بتخطئة عمر بن الخطاب وهو على منبر
الرسول - صلى الله عليه وسلم - تصريحًا فهذا هو الاستقلال الذي أزاله ملوكنا
وأمراؤنا وجعلونا أذل الأمم.
قال صاحب اللواء: إنه شتم رياض باشا اقتداء بالأعرابي الذي قال لسيدنا
عمر: (لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا) وإنما يصح الاقتداء إذا قال الحدث
مثل هذا لأمير البلاد أو للسلطان، لا لرجل اعتزل الحكومة والأحكام، وهو يمقته
من قبل فاعتبروا يا أولي الأبصار.
* * *
(المتوسلون المتسولون ودعاة الوطنية)
تَطَوَّفْ في أسواق القاهرة وشوارعها في أي وقت شئت من ليل أو نهار،
وأَطِلّ من شرفات بيتك أو نوافذه مراقبًا الناس مستمعًا لأحاديثهم؛ فإنك لا تكاد
تسمع ذكر الله، وذكر نبيه وأوليائه إلا من أهل التوسل للتسول، إلا أن يأتلي مؤتل
(يحلف حالف) بسيدنا الحسين أو المتولي أو غيرهما ممن تقسم بهم العامة، وقد
غاب عن ناظري رجل أشعث أغبر أشمط كنت أراه يطوف الشوارع ولسانه رطب
يتلجلج بذكر السيدة لا يفتر طرفة عين عن ندائها: يا سيدة يا سيدة يا سيدة يا سيدة
يا سيدة.... وأعرف رجلاً شيخًا أشيب أعمى أجش الصوت ينشد الأماديح
المنظومة علي طريق المواويل بالاستغاثة بالسيدة: (يا بنت بنت النبي طلي
وشوفينا، يابنت بنت النبي دخلك أنا عيان) وأعرف امرأة عمياء كانت تجلس
في ظل دارنا وهي تحفظ أسجاعًا متناسقة في الدعاء هممت غير مرة بأن أنصت
إليها وأكتبها عنها. وأما الذين يشتركون في عبارة خاصة فكثيرون كالطوافين بكلمة:
مليم أجيب بو شأَّة، علي أُبُول سيدنا الحسين والسيدة زينب وجدهم الحبيب النبي.
أي أطلب مليمًا (عُشْر القرش المصري) أشتري به كسرة من الخبز رجاء أن
يقبله منكم سيدنا الحسين ... إلخ - يقول هؤلاء ما يقولون وقلوبهم تطوف في
صدور الناس أيها يتأثر بذكر هؤلاء السادات المتصرفين في الأكوان فيرضخ لهم
بشيء مما في يده تقربًا إليهم والتماسًا لبركاتهم، ولكنهم لو سئلوا شيئًا يبذلونه ابتغاء
مرضاة السادات فإنهم يقبضون أيديهم؛ لأن حظهم من حب السادات أن يأخذوا من
الناس على قبولهم لا أن يعطوا تقربًا إليهم، ولا غرض من مدحهم وذكرهم إلا
التأثير في نفوس من يرجى رفدهم من محبيهم، مثل هؤلاء مثل دعاة الوطنية من
أحداث السياسة المصرية تطوف البلاد وتحضر الأندية وتغشى السمار , وتقرأ
الكتب والصحف المنتشرة فلا تجد للوطنية داعيًا، ولا بذكر جلاء الإنكليز عن
مصر لاهجًا , إلا المتسول المتوسل إلى حظه باسم الوطنية لعلمه بأن التفرنج
الحديث قد جعل لهذه الكلمة شرفًا كبيرًا وذكرًا مجيدًا فهي تؤثر في نفوس بعض
الأغنياء والوجهاء ما لا يؤثر ذكر المتبولي والسيدة زينب في قلوب العامة والنساء،
فكم بذل مجنون بالوطنية البدر من الدنانير، إذا كان محب الأولياء يبذل القرش
والمليم، وحظ داعي الوطنية من اللهج بها كحظ مادح الأولياء، هو أن يقول لا أن
يفعل، وأن يأخذ لا أن يعطي، فإذا كان له منفعة من الأمير فلان فهو يجعله عماد
الوطنية وعتادها، وإن أمال عمادها، واقتلع أوتادها وأضاع لأجل شخصه طارفها
وتلادها، واذا خالف هواه سير عالم كامل أو زعيم عامل، فهو يجعل حسناته
سيئات، ويتتبع للطعن به العثرات، فأمثال هؤلاء الوطنيين يحصرون معنَى
الوطن في أشخاصهم بدعوى الوطنية كما يحصر بعض كبار المتسولين الدين في
شخصه بدعوى الصلاح والولاية، فمدعي الولاية يرمي من ينكر عليه هوسه
ودعواه بالمروق من الدين، ودَعِيُّ الوطنية يتهم من ينكر عليه هوسه ودعواه
بعداوة الوطن , وغرض كل من الفريقين المال والجاه بما يخادعون الناس (تغيير
شكل، لأجل الأكل) وتوسل للتسول، وأكثر الناس غافلون , وهم في غفلاتهم
يرزقون.
* * *
(انتقاد على مقالة العلماء والمحاكم)
زارنا أحد كبار القضاة الشرعيين في المحكمة الكبرى بعد صدور الجزء
السادس، وقال: إن ما حدثنا به المرحوم علي باشا رفاعة من اقتراح إسماعيل باشا
الخديوي الأسبق على العلماء تأليف كتاب على نسق القوانين في السهولة ... إلخ،
على غير وجهه، والصواب أن الخديوي طلب من العلماء تطبيق القانون على
الشريعة، وإرجاع أحكامها إليه فأبى الأكثرون وتصدى بعضهم لوضع كتاب في
الأحكام الشرعية يوافق القانون الفرنسي في الأكثر ومعظمه من فقه الإمام مالك.
قال: ويقال: إن الشيخ محمد مخلوف المنياوي قد أتم هذا الكتاب , وقدمه للحكومة
الخديوية أو لحاشية الأمير فلم يظهر له أثر، وحدثني بنحو هذا صديق آخر، وقال:
كان من غرض إسماعيل باشا إرضاء أوربا بتقليدها في كل شيء حتى في إبطال
بعض الأحكام الشرعية الإسلامية كإباحة تعدد الزوجات المنتقدة عندهم وتحويل
الشريعة إلى قوانينهم، وأنه كان يقول: لا يمكن أن تعمل الأمة في هذا القرن بما
وضع للعرب من نحو ثلاثة عشر قرنًا تقريبًا، ولهذا لم يكن للعلماء إجابة طلبه،
ولا بُعد في هذه الأقوال عند العارفين بحال هؤلاء الأمراء وبعدهم عن الدين وكأن
ذلك الأمير المستبد الجاهل كان يرى أن قانون الكرباج الذي وضعه محمد علي
وأفسد به بأس الأمة , ونزع منها هو ومن بعده روح الشهامة والشجاعة أفضل من
الشرع الإلهي الذي ارتقى بالأمة العربية إلى السيادة على جميع الأمم.