للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(بشائر الإصلاح في المملكة الفارسية)
كتبنا في المنار السابق مقالة بعنوان (هذا أوان العبر) أَبَنَّا فيها عن فساد
الحكم الاستبدادي , وأن الذي أودى بالمسلمين وأوهن قواهم وجعلهم دون غيرهم
قوة ورقيًّا واستعدادًا دولهم , وعدم ملائمة طرز حكومتهم لأصول الترقي الجديدة
لما أثبته التاريخ وأيده الحس في هذا العصر من أن كل الأمم التي سبقت
المسلمين وآخر السابقين أمة اليابانيين، إنما سبقوهم بتغيير طرز الحكومة
الاستبدادية إلى ما يوافق أصول ترقي الأمم ويلائم حالة العصر حيث أقاموا مقامها
الحكومات النيابية التي هي أصل في سعادة الشعوب، وأساس متين لبقاء حياة
الدول، وذكرنا قصور أمراء المسلمين ودولهم عن مجاراة الدول الأخرى استئثارًا
بالسلطة، وحرصًا على بقاء القديم على قدمه، وطلبنا من الأمة أن تلتمس وجوه
العِبَر بنفسها، وتنهض لمجاراة الأمم بغير اعتماد على حكامها، وكان هذا الشعور
الذي يشعر به كل عقلاء الأمة يشعر به أمراء المسلمين أنفسهم أيضًا، ويعلمون أن
حياة أممهم الطيبة ورقيهم السريع متوقفان على تغيير طرز الحكومة وإطلاق أعنة
العقول من أسر الاستبداد القاهر، وإنما يمنعهم من العمل بما تشعر بالحاجة إليه
الضمائر مغالبة النفس الميالة إلى الاستئثار بالسلطة، ويدلنا على هذا أننا في
الوقت الذي كنا نرمي فيه أمراء المسلمين بالتقصير، ونبين حاجة الأمة إلى تغيير
شكل الحكومة القديم، واستبدال ما يوافق حالة العصر به، ويسمو بدول المسلمين
إلى مصاف الدول الأوربية كان مظفر الدين شاه إيران المعظم يفكر فيما وصل
إليه المسلمون في مملكته، وفي حاجة دولته إلى تغيير صفة الحكومة حتى ترتقي
بالأمة إلى مرتبة الكمال، كما ارتقى بها ميكادو اليابان منذ وضع في بلاده أساس
الحكومة النيابية، وتنازل حبًّا بترقي قومه عن سلطته الاستبدادية.
جاء في الجرائد الفارسية تفصيل ما كانت ألمعت إليه منذ مدة التلغرافات
العمومية عن جمع شاه إيران لأعيان الأمة وكبار الوزراء وإلقائه عليهم خطابًا
طويلاً في تقرير وجوه الإصلاح اللازم للمملكة الفارسية، ومحصل ما جاء في تلك
الجرائد أنه جمع نحو أربعمائة شخص من الوزراء والأعيان، وقام فيهم خطيبًا
يبين ما وصلت إليه البلاد وحاجة الدولة إلى الإصلاح في كلام طويل جامع. والذي
حل منا محل الإعجاب من كلام ذلك الملك الكبير، وكان عليه المُعَوَّل وفيه المُؤَمَّل.
أنه أعلن قبل كل شيء على رءوس الملأ تنازله عن كل شيء يسمى امتيازًا للملك
أو الأسرة المالكة يمتازون به عن الرعية , وتخلى عن السلطة الاستبدادية بمحض
الرغبة بخير الدولة والأمة، وأشار عليهم بعد ذلك بالنظر في طرق الإصلاح
الواجب سلوكها على الأمة والدولة في عصر هو أحوج ما تكون فيه الأمة إلى مثل
هذه الرغائب العالية التي يندر صدورها عن ملك عظيم بمحض الإرادة، وأنت
ترى أن في قوله هذا من الصراحة في حاجة الدولة إلى حكومة نيابية ذات قوانين
عصرية ما يؤيد رأينا في المقالة السابقة، ويدلك عليه أن الشاه المعظم أحال في
ختام خطبته إيضاح الأمر، والنظر في أطراف المسألة ووضعها موضع المناقشة
بين أهل هذه الشورى على الوزير الأعظم , فخطبهم الوزير خطبة في موضوع
الإصلاح، وفيما رآه من ذلك أن وضع أمامهم أكثر قوانين الدول المتمدنة وطلب
إليهم انتخاب ما يوافق منها حالة الأمة والدولة مع مراعاة تطبيقها على أصول
الشريعة وحاجة العصر.
رأى مظفر الدين شاه لزوم الحكومة النيابية إذا أراد أن ينهض بالأمة ولزوم
الآستانة بقوانين الدول الراقية على تأسيس مثل هذه الحكومة، والأمة لم تستعد
لمثل تلك المفاجأة , فأشار إلى أنه تنازل عن حقوقه في الحكم المطلق إشارة تغني
عن كثير البيان تمهيدًا للعمل , ثم أشار بانتخاب ما يوافق مثل تلك الحكومة من
القوانين بثًّا لروح الحاجة إليها في نفوس الشعب فاذا ثبت على عزمه ومضى في
وجهته وجارى ميكادو اليابان في حسن إرادته وعلو همته وحبه لخير وطنه ورعيته
بتأسيس حكومة نيابية في مملكته فقد - والله - حقق أماني العقلاء فيه، وجعل أفئدة
من الأمة الإسلامية تهوي إليه، ونهض بقومه نهوضًا لا عِثار بعده إن شاء الله،
وحسبه من ذلك فضيلة أن يكون قدوة الأمراء المستبدين , وعِبْرة حسنة في
الآخرين، وذكرًا خالدًا في تاريخ نهضة المسلمين.
هذا وإننا لنرجو من صاحب المنار الغيور أن يتتبع في الجرائد الفارسية
خطبة الشاه المعظم ومشروع الإصلاح الذي وضعه الصدر الأعظم، ويُعَرِّب كل
ذلك أو جُله، وينشره في المنار الأغر ليطلع عليه المسلمون في كل الأقطار التي
يصل إليها المنار إفادة للمسلمين , وإعلانًا لهذه الحسنة الكبرى , والله ولي
المرشدين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (رفيق)

(المنار)
إننا لما علمنا بخبر طلب الشاه للإصلاح اهتززنا طربًا وفاجأنا من
السرور ما لا يمكن التعبير عنه، وعهدنا إلى صديق لنا من علماء الفرس هنا بأن
يُعَرِّبَ لنا ما تنشره الجرائد الفارسية التي تجيئنا من ذلك لا سيما جريدة (حبل
المتين) فأرجأنا التعريب انتظارًا لما ستقرره اللجنة التي عهد إليها الشاه العظيم
النظر في طرق الإصلاح، وأرجأنا الكتابة في المسألة لنكتب عن بينة حتى جاء
صديقنا رفيق بك يستعجلنا , وله الحق فإن هذا النبأ أعظم نبأ إسلامي طرق الآذان
في هذا العصر , وإذا حل الإصلاح في تلك المملكة الإسلامية على وجهه؛ كان لنا
أن نعد مظفر الدين أعظم ملوك المسلمين، لأنهم وضعوا أصول الاستبداد في القرن
الأول وتمسكوا بها بعده حتى أزالها هو في القرن الرابع عشر.
لا يكفي في الإصلاح تنظيم إدارة البلاد وإقامة العدل فيها، بل يجب أن
يعتنى أشد الاعتناء بالفنون العسكرية والقوى الحربية , وأن تنشر المعارف
العصرية في البلاد طولها وعرضها , وعندي أنه يجب أن يكون التعليم باللغة
العربية ولغة أخرى أوربية فإذا عاشت العربية مع العلم في تلك البلاد كان لهذه
الدولة شأن آخر في إفادة الأمة الإسلامية كلها لا سيما البلاد العربية المجاورة لها
والله الموفق للسداد.
* * *
(استقلال الحكومة باستقلال الأمة)
إن الأمم الجاهلة المحكومة بالاستبداد المُذَللة بالظلم والاضطهاد، لا يخطر
على بال أفرادها معنى يعبر عنه باستقلال الأمة، ولا يعقلون أن للرعاية أثرًا في
سيادة الحكومة إلا بما يؤدون من الإتاوات والضرائب، وما يسخرون به من
الأعمال لترقية ساداتهم المستبدين، فإذا عبثت باستقلال حكومتهم حكومة أخرى
أجنبية طفقوا يشعرون بمعنى الاستقلال بالتدريج، ويقوى فيهم هذا الشعور بنسيان
ظلم حُكَّامهم السابقين لاسيما إذا كان الأجنبي العابث ظالمًا على أن النفرة من سلطة
الأجنبي طبيعية في الأمم فإن هو عدل تمنوا لو يستبدلون بسلطته سلطة من جنسهم
عادلة ليكونوا مستقلين، ولكنهم بعد هذا كله لا يفهمون من معنى الاستقلال إلا إعادة
السلطة للأسرة الحاكمة فيهم بالاستبداد من قبل، ويبلغ فساد التصور من بعض
الأفكار أن تتخيل إرشاد الأمة إلى ضرر الاستبداد والمستبدين من عوائق الاستقلال،
وهذا من أعجب عجائب عالم الخيال.
يا معشر المتخيلين والواهمين , إنكم لن تتنسموا للاستقلال ريحًا، ولن
تستنشقوا له عرفًا، إلا بعد الاعتقاد القاطع بأن الاستقلال إنما هو استقلال الأمة
وذلك بأن ينفخ فيها روح من التربية والتعليم يشعر جميع طبقاتها بمعنى الأمة
وحقوقها، وأول هذه الحقوق أن تختار هي الحاكم الأعلى لها، وأن تقيد حكومته
بشريعتها وقوانينها التي ترضاها، وتُلْزِمه بتنفيذها بمشاورتها وتحت مراقبتها
وسيطرتها حتى يكون لها الحق بعزل من يشذ عن ذلك، أو إقامته عليه سواء
الحاكم الأكبر وغيره.
يا معشر المتخيلين والواهمين , إن أمة محرومة من هذه الروح لن تعرف
للحياة الاستقلالية معنى، ولن تذوق للسيادة القومية طعمًا، بل تظل طُعْمَة للطامعين
وألعوبة في أيدي المتغلبين، فيومًا يستعبدها من يشاركها حقيقة أو صورة في
وصف من أوصافها كاللغة أو الجنس أو الدين، ويومًا يستذلها من لا يشاركها إلا
في الصورة البشرية، فهي تتراوح دائمًا بين استعباد واستذلال، لأن طبيعتها
قاضية بهذه الحال بفقدها تلك الروح التي تبعث بطبيعتها الاستقلال.
يا معشر المتخيلين والواهمين , إن حنين الأمة التي عبث الأجانب بسلطان
حكومتها إلى حكامها السابقين المستبدين ليس حنينًا إلى الاستقلال، بل إلى الاستبداد،
وإن المحافظة على بقايا رسوم السلطة السابقة، لا يكون آلة لمقاومة السلطة
الطارئة، وإنما الذي يمنع الأمة من كل جور، ويصد عنها كل ظلم، هو ما يهبها
حقيقة الاستقلال في ذاتها، ثم في حكومتها بأن تكون الحكومة مستقلة باستقلال
الأمة قوية بقوتها، وقد عرفتم معنى ذلك الاستقلال ومهب روحه من النداء الأول،
فاعملوا له إن كنتم عاملين، أو موتوا بضعفكم إن كنتم متواكلين.
* * *
(اجتماع التلامذة وانتحارهم)
للتعليم ثمار مختلفة، منها ما يكون مطلوبًا ومقصودًا من المعلمين، ومنها ما لا
يكون مقصودًا لهم، وأعني بالمعلمين هنا مديري نظام التعليم ومؤسسي المدارس،
ومعلمو المدارس في هذه البلاد الإفرنج، سواء مدارس الحكومة أو غيرها , ومن
مقاصدهم الباطنة فيه زلزال التقاليد القديمة للأمة الذي ينتهي بإضعافها أو زوالها
وتحويل وجهة المتعلمين إلى تقليد قوم المعلمين إذ بذلك تكون لهم السيادة الحقيقية
عليهم بتحولهم عن مقومات أمتهم الذي يقطع الأمل باستقلالهم، وقد مضت سنة
الأولين بأن الضعيف يقلد القوي في الأمور التي تضر غالبًا ولا تنفع. لهذا ترى
المتفرنجين من المتعلمين ومقلدي المتعلمين قد أخذوا عن الأوربيين السُّكْر والقمار
والفحش والأزياء، والزخرف في الأثاث والماعون بدون مراعاة للاقتصاد الذي
تسمح به ثروتهم كما يفعل أولئك. وقد زالت من أكثر هؤلاء المتعلمين حرمة الدين
وآدابه , واحتقروا أمتهم حتى صارت حالة الأمة بهم شرًّا من حالها في أُمِّيَّتها قبل
انتشار هذا التعليم فيها بسياسة من يستعمر بلادها ويسخرها لسعادة قومه بأساليب
مختلفة.
ومن ثمار التعليم الذاتية: التأليف بين الأفكار التي تتلقى تعليمًا واحدًا ,
والجمع بين المتعلمين , والارتقاء أحيانًا إلى التقليد في بعض الأمور النافعة. وكنا
نرى من الغرائب أن الوحدة والاجتماع قد ظهرا في تلامذة كل البلاد حتى اليونان
وروسيا ولم يظهر لهما أثر في تلامذة مصر , وقد وجد في هؤلاء من سقط في
الامتحان فلجأ إلى بخع نفسه تفضيلاً للانتحار على العار، وترجيحًا لمرارة الموت
على مرارة الاصطبار، ولم توجد فيهم عاطفة الاتحاد والاجتماع لمقاومة منكر أو
لعمل معروف يعود نفعه عليهم خاصة أو على قومهم عامة، حتى كان ما كان في
هذه الأيام من اجتماع مئين ممن خابوا في امتحان الشهادة الابتدائية للاحتجاج على
نظارة المعارف كما يقولون، ويريدون الإنكار عليها في جعل الامتحان مرة واحدة
في السنة، اجتمعوا في حديقة الأزبكية، وخطب فيهم نفر منهم وأجمعوا على أن
يطلبوا من النظارة جعل الامتحان مرتين في كل عام حتى لا يضطر من ينجح في
كل علم إلا علمًا أو اثنين أن ينتظر سنة كاملة لإعادة امتحانه، وإننا نحمد منهم هذا
الاجتماع لذاته بصرف النظر عن موضوعه , ونتمنى من صميم الفؤاد أن نرى
دائمًا في تلامذتنا النجباء عاطفة الوحدة والوفاق، وداعية التآلف والاجتماع.
* * *
(نتيجة امتحان المدارس في هذا العام)
لبعض أصحاب الجرائد اليومية المصرية مدرسة يفاخر بها، ويوهم الناس
أنها ينبوع الحياة العلمية والسعادة الوطنية في القطر، وقد ظهر بالامتحان أنها وراء
المدارس كلها، حتى قيل: إنه لم ينجح منها أحد قط، لهذا انبرى صاحب هذه
الجريدة للطعن في الامتحان وإيهام الناس أن نظارة المعارف تشدد فيه، وأن كثرة
الذين خابوا في الامتحان أثر تشديدها الذي تريد به محو العلم من (الوطن المحبوب)
والحق أن النجاح في الامتحان كان في هذه السنة أعظم منه في السنين السابقة،
وأن مدارس المعارف لاتزال سابقة لجميع المدارس الأهلية بمراحل كثيرة. فعلى
الطاعنين في النظارة أن يُعَلِّموا أحسن من تعليمها ثم لينتقدوا عليها لعلهم يسمعون.
نعم، إن بعض المدارس الأهلية تقدم للامتحان عددًا فينجح الكثير منه نجاحًا
يضاهي نجاح مدارس الحكومة , فيقول أصحاب المدرسة وبعض الجرائد: إن
مدرسة خليل آغا مثلاً مثل مدارس الحكومة، والحق أن في هذا غشًّا، فإن
المدارس الأهلية تختار أحسن التلامذة لأداء الامتحان، ومنهم من يكون قد درس في
مدارس الحكومة , وأما الحكومة فإنها تلزم جميع من أتم سني الدراسة بالامتحان.