للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الفتوى لشركة جريشام

ذكرنا في الجزء الرابع والعشرين من السنة الماضية أن بعض طلاب العلم
في تونس أشكل عليه فهم مستند مفتي الديار المصرية في الفتوى لشركة جريشام
التي أنشئت للتأمين على الحياة , وبيَّنَّا هناك أن الإشكال جاءه من تطبيق الفتوى
على ما يسمع عن الشركة لا على السؤال الذي رفع إلى المفتي. وقد كتب ذلك
الطالب وجه إشكاله في جريدة (الزهرة) التي ظهرت في تونس ثم ذوت وسقطت
فكتب إلينا أحد علماء تونس ما يأتي ردًّا عليه:
إفهام وتقويم
قرأت في العدد السابع من جريدة (الزهرة) كلامًا مسهبًا رام به صاحبه
أن يساهم في الانْتِضال لمسألة فتوى القراض (التي سموها فتوى التأمين) ,عرضه
على أفكار أولي البصيرة وبعد أن طوينا ذيله وقطعنا نيله، رأينا أن صاحبه وإن
نادى باسم النقد والاستبصار في مواضع كان بعيدًا منهما في الوصول إلى كُنْه ما
قصدناه من مراجعة وطنيِّنا الفاضل في رده الأول على كلام محتاج إلى غمز قناته،
وإيقاظ ذهن صاحبه من سباته. زاد: فما فهم استحسان تصدير الفتوى بلو حتى
وَهِمَ أنَّا نوهنا بذلك لما فيها من الشرط , وكأني به بعد حائرًا في وجه هذا التنويه
لولا أنه بين الشك واليقين في بركة تأثير الشرط في نحو هذا المقام! ولم يعلم أنَّا
إنما ألفتنا الأنظار النقادة إلى ما في (لو) من الامتناع المقتضي غرابة الصورة
وامتناع وقوعها.
مدار بحثه في هاته الفتوى على محور واحد وهو انتقاد إجمال المفتي والملام
عليه؛ إذ لم يفض في شرح المراد من الشركة مبينًا في خلال ذلك ما تبطنه في
ضميرها، ولم تذكره في سؤالها ناسيًا قولهم: (جواب المفتي على قدر سؤال
السائل) وما كرهه العلماء من إذالة العلم والفضول فيه، وقد نُقِل عن كثير من
الأئمة أنهم كانوا يكرهون الزيادة على قدر الاستفتاء ويرونه من فضول المفتي.
فاذا كان ذلك مطلوبًا فهو من باب الاحتياط , وربما لا يحتاج إليه في الأمور
الظاهرة الواضحة الجارية على المتعارف والمحمولة على الصحة؛ لأن العالم لم
يُؤْمَر بالتنقيب على القلوب، بل نُهِيَ عنه بنص الحديث الصحيح. ومع هذا فإن
المفتي ما ترك الاحتياط اللازم فيما أعاده من الألفاظ في جوابه شرحًا للمراد حيث
لم تكن عبارة السؤال من الإفصاح عن المقصود بالمكان البين لو وجد آذانًا سامعة
أو عيونًا ناظرة إلى السؤال والجواب. لو سألته الشركة عن صحة قواعدها - من
حيث حكم الشرع الإسلامي - لرأينا ماذا يجيب به المفتي بعد أن يستطلعها أحوال
رسومها، ولكنها سألته عن صورة عقد بين رجل وجماعة كهاته الشركة , وجعلت
نفسها مثالاً يجمعها بالممثل وصف الجماعة لينظر في صحتها من جانب الحكم
الشرعي , وليس سؤالها عن فرع فقهي لتنظر ماذا عسى أن يطلبه الناس منها يومًا
ما فتغير خطتها لأجله، ولا كانت هي محل السؤال ابتداءً بل كانت في موضع
المثال. والسؤال عن هذا الحكم الشرعي إن وقع وهو حكم يرجع إلى ضرب من
التجارة ربما تقصده هاته الشركة.
نعم، ربما يكون محقًّا إذا وَجَّهَ الملام على الشركة كيف تسأل عن خلاف
مرامها , وذلك عذل يتجه على ديانة السائل أو فصاحة عبارته في سؤاله! ! ومن
الواجب أن يتذكر كاتبنا شيئًا لطيفًا ما غفل عنه الباحث الأول , وهو أن المفتي
حنفي المذهب , وأنه يجب تخريج كلامه على نصوص مذهبه مادام كلامه غير
محتاج ولا قاض بصرفه إلى اختيار بعض المذاهب على بعض في خطة النظر ,
ولا ينبغي التساهل والمسارعة إلى فساد صحيح من كلام الناس.
واذ قد أتينا على ما يُفْهِمه خطة البحث في هذا الموضوع ويبعثه على تحقيق
النظر قبل المجازفة؛ فنلمم بأطلال شروطه التي ذكرها مما لا يدخل في المؤاخذة
بذنب الإجمال قال: (أول الشروط أن يكون المال نقدًا ... ) - إلى قوله - (سيما
وأن أوراق الماليات معتبرة في المعاملات اعتبار الذهب والفضة) هذا موضع
الزيادة على الإجمال لأنه رجع به إلى الغالب.
وجوابه عن هذا أن كون رأس المال دَيْنًا على غير أحد المتعاقدين جائز ماض
عند الحنفية , وما منعه مالك إلا للتهمة في القصد. لا لفساد أصل العقد، وإذا
نظرنا إلى مذهب محمد بن الحسن من جواز القراض بالفلوس الرائجة , وعدم
اشتراط خصوص الذهب والفضة , فكل ما راج رواج المال والنقدين فهو مثلها ,
وهذا هو التحقيق؛ لأن مناط اشتراط النقدين قصد قطع جرثومة الغرور، وضرر
العامل في عمله أن يقدم على شيء يظنه يساوي مقدارًا فاذا هو قاصر عما قدر،
وكل رائج معلوم القدر لا توجد فيه هاته العلة فهو كالذهب والفضة، ألا ترى أنهم
ما اكتفوا بالذهب والفضة نضارًا حتى اشترطوا أن يكونا مسكوكين. وهذا هو عين
الجواب عن الشرط الثاني إذ كان عين الأول لولا اختلاف العبارة.
قال: (رابعها أن لا يشترط على العامل الضمان ... إلخ) بناء هذا البحث
مؤسس على شفا الاشتباه في قضية الإجمال , ووهم أن الجواب وقع عن كراسة
شروط الشركة لا عن سؤال مسطور , وربما كان كلامه يحول الاعتراف بأن ذكر
هذا البحث لتكثير سوداه , وتعزيز فئته وأجناده.
قال: (خامسها عدم تأجيل مدة القراض، ونص السؤال مقتضٍ للتأجيل)
القراض في مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - من العقود التي لا يفسدها التوقيت،
والغاية إنما محور الشرط فيها على مظنة حصول القصد مما سبق له العقد وهو
معدود في ضمن ستة وعشرين عقدة لا يفسدها أي شرط فاسد.
قال: (سادسها تعيين الجزء ... إلخ) وهذا ملحق بإخوته المسوقة للتعزيز،
فلا يشتبه أمره على ذوي التمييز. ثم إن المذهب أن دخول المتقارضين في عقدة
القراض على المساكتة في تعيين الربح لا يفسد القراض بل يكون الربح فيه على
السواء في قول أبي يوسف رحمه الله , وبه الفتوى. أما لو ذكرا ما يدل على
التسوية في الربح فلا خلاف بين أبي يوسف ومحمد في جوازه. نحو أن يقولا:
على أن ما نتج من الربح بيننا.
قال: (ثم مقتضى السؤال (إذا قام بما ذكر وانتهى أمد الاتفاق المعين بانتهاء
الأقساط) أنه إن لم يوف بدفع تلك الأقساط لا حق له.... إلخ) . وههنا الخطأ
العظيم في الانتقال، والغفلة عن الحقيقة في الاستدلال؛ فأما الأول فليس الكلام
بقاضٍ أنه لا حق له في المقارضة , ولا حق له إن لم يوف , إنما قضى أنه إن لم
يوف لا حق له في المقارضة ولا في الربح. والشروط في المضاربة، إن كانت
مما يخل بجانب رب المال جازت لا سيما إن كان ذلك من شرطه هو لا من شرط
المضارب عليه , وذلك صريح صورة السؤال لأنه جاء قبل الكلام الذي ساقه كاتبنا
كلمة حذفها حذفًا لم يصادف به كنه الفهم وهي: (واشترط معهم) ، ومن الفروع
التي يذكرها الحنفية في هذا الموضع: لو شرط المضارب على رب المال أن يدفع
له داره يسكنها أو أرضه يزرعها؛ لم تفسد المضاربة. أما لو شرط رب المال ذلك
على المضارب لفسدت للجهالة في جانب رب المال. ويذكر المالكية فرعًا في كتبهم
أنه يجوز القراض على أن جميع الربح للعامل. وضمان المال إن تلف من ربه إذا
سمياه قراضًا، وقال سحنون: (هو سلف وضمانه من العامل) . وفي هذا ما
يعلمنا الفرق بين هذا وبين القمار بأن هذا شيء من جانب رب المال , وهو محمول
على الموجدة والمقدرة فلا يظن به اهتضام، ولا أن يؤكل ماله بالباطل أو يضام،
خلافًا لحال العامل المظنون به العجز والافتقار، ولأن رب المال ينزل في نحو
هاته الشروط منزلة المتبرع أنه لو شاء لأعطى وما أخذ.
قال: (إن مشاركة المسلم لهاته الجمعية ممنوعة، وذلك لأنها لا تتحاشى في
تجرها ومعاملتها الربا.... والنصوص متظاهرة على منع شركة من لا يتحفظ من
تعاطي ما ذكر إلخ) قد علمت أن اسم الشركة ما وقع إلا مثالاً , ولو فرضنا صحته
فذلك شيء ينظر فيه الرجل إلى حالة التجارة التي سموها في السؤال , وليس
المفتي بصدد تبيان كل ما يجب على المرء في صورة الاستفتاء , وإلا لَشَرَع يبين
لهم شروط البيوع كلها , وذلك لا يخص الشركة، بل كل من يظن به الجهالة
باستقراء أحكام البيوع، ومن ذا الذي يرقبها اليوم من تجار المسلمين. على أن
نسيان المفتي أن ينبه على هذا غير بعيد حيث لم يكن مما يرجع إلى شرط من
شروط الباب التي يجب استحضارها عند الإفتاء , ولذلك يذكرها كاتبنا بعد تعداد
الشروط! وتوكيل الذمي في المعاملات غير ممنوع، ولو نص له على معاملة
يحرم على الوكيل فعلها , وقد نص الحنفية رحمهم الله على صحة توكيل المسلم
ذميًّا على بيع خمر أو خنزير , ولو باشر ذلك بنفسه؛ لمنع باتفاق الناس، وقديمًا
ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوكلون المشتركين حتى المحاربين.
في صحيح البخاري (باب إذا وكل مسلم حربيًّا في دار الحرب أو دار الإسلام
جاز) أخرج فيه توكيل عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أمية بن خلف
وما فيه من القصة.
وها هي تلك النوبة قد أفضت إلى كاتبنا ليعيد علينا من تبيانه ثانيًا فإن دعته
إلى ذلك الدواعي؛ فإن آذاننا مصغية إلى ما يقول.
... ... ... ... ... ... ... ... (ذلك التونسي)