للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


السؤال والفتوى

فناء الأجساد والحشر
إشكال
(س٥١) مصطفى أفندي رشدي المورلي بنيابة (الزقازيق) قلتم عند
الرد في المنار على السائل هل الحشر بالأجساد أو الأرواح فقط: إنه بالروح؛ لأن
الجسم يفنى كل عشرات من السنين كذلك الدم في كل شهور (كذا) فإذا قلنا: إن
الجسم يتغير في حال الحياة كما أثبته الطب فلماذا نرى الوشم الأخضر ثابتًا على
الأجسام طول العمر من الصغر إلى الكبر
(ج) إننا لم نقل بأن الحشر يكون بالأرواح فقط كما يفهم من السؤال، بل
صرحنا بأن الحشر يكون بالروح والجسد، ولكن لا يجب أن يكون الجسد الذي
يعود هو الذي كانت الأعمال التكليفية به؛ لأن هذا الجسد لا ثبات له كما قلنا بل هو
يتحلل في كل بضع سنين، ويبدل بغيره تدريجًا، ويبقى الإنسان كما هو , فإذا عاد
في الآخرة بغير هذا الجسد لا يستلزم ذلك أن تكون الحقيقة قد تغيرت؛ لأن الحقيقة
هي الروح، وما الجسم إلا ثوب لها كما أوضحناه هناك فليراجع , أما الإشكال الذي
أورده السائل على ما تقرر في العلم من تبدل جسد الإنسان مرات كثيرة؛ فجوابه
أنه كلما انحلت دقيقة من دقائق الجسم تخلفها دقيقة حية مثلها كمًّا وكيفًا، والوشم من
الكيفيات التي تنتقل من الدقائق الميتة إلى الدقائق الحية عند التحليل والتركيب؛
لأنه ليس صبغًا على ظاهر الجلد، بل هو مما يتأثر به الدم والعصب، فيكون
كاللون الطبيعي كذلك آثار الجروح في البدن تكون ثابتة فالخلايا الحية التي تخلف
المنحلة في موضع الاندمال تأخذ شكلها الأول، وعلى ذلك فقس.
***
الحيلة والتوهم
في دعوى مشاهدة أشباح الشهداء
(س٥٢) م. غ، في (سوريا) قرأت في العدد الخامس من منار هذه
السنة جوابكم على السؤال التاسع عشر؛ فذكرني واقعة جرت معي وأنا في السابعة
أو الثامنة من العمر فأحببت أن أقصها على سيادتكم لأرى رأيكم فيها.
كنت في مدرسة، وكان الطريق إليها قريبًا من مقبرة , فكان دأبي أن أمر
على المقبرة كل يوم صباح مساء لأقرأ الفاتحة لشهيد فيها يسمونه زين العابدين،
فيومًا أنا واقف في قبة هذا الشهيد رأيت يدًا مجردة عن الجسم تدور فوق الصندوق
الموضوع على قبره , فحدقت ببصري برهة لأرى بقية الجسد فلم أر شيئًا فدهشت
حينئذ , واستولى عليّ الجزع وفررت هاربًا إلى البيت وقصصت ما رأيته على
والدتي، ولم أزل أتذكر ذلك كلما مررت بطريق ذلك الشهيد , فالمرجو من فضيلتكم
كشف القناع عن هذا الأمر، على أنكم تعلمون حق العلم أنني من أشد الناس إنكارًا
للبدع والخرافات والأوهام والضلالات لا أخاف في ذلك لومة لائم؛ لأني أعتقد أن
المحاباة في دين الله غير جائزة، ولو لغرض صحيح كما أوضحتموه في المنار
الزاهر غير مرة.
(ج) يزعم الألوف من المصريين أنهم يرون أشباح الشهداء في البهنسا
تطوف في أعلى قبة هناك، وقد أراد بعض علماء الأزهر اكتشاف هذا الأمر الذي
يستند فيه العوام إلى المشاهدة؛ فذهب غير واحد إلى هناك غير مرة فتبين لهم أن
هذه الكرامة مصنوعة للمرتزقين هناك من السدنة، وأن الذي يُرى في القبة إنما هو
ظلال رجال يطوفون وقت الأصيل حول القبة في مكان يحاذي الكوى من أعلاها،
فيوهم السدنة النساء والأطفال ومن في حكمهم من الرجال أنها شخوص الشهداء،
حدثني بهذا الشيخ محمد بخيت العضو الأول في المحكمة الشرعية العليا , والشيخ
أبو الفضل الجيزاوي من مدرسي الدرجة الأولى في الأزهر كل على حدته، زاد
الأول اكتشاف حيلة أخرى , وهي أنهم يطلعون الناس في قبر هناك على رأس
مكسو بشعر طويل يزعمون أنه رأس شهيد لم يتغير بمرور القرون عليه , ولكن
الشيخ وصل إلى الرأس فإذا هو جمجمة قديمة بالية وإذا بالشعر قد ألصق عليها
حديثا بنحو صمغ أو غراء، لأجل التغرير والإغراء، ولهولاء الدجالين حيل كثيرة
في خداع الأغراء، وحسبك قصة أحمد المغربي السابقة في الاعتبار.
وهناك تعليل آخر لما يتراءى لبعض الناس من نحو الذي ظهر لكم , وهو أن
اشتغال الخيال بالشيء من هذا القبيل ينتهي أحيانًا بتمثل بعض الخيالات للمرء كأنها
محسوسة كما شرحنا ذلك في مبحث رؤية الأرواح من مقالات الخوارق والكرامات؛
فراجعه في مجلد المنار السادس فالأرجح عندي أن ما ظهر لكم من هذا القبيل،
ومنه ما نسب إلى الشيخ أحمد الرفاعي أو إلى الشيخ علي أبي شباك الرفاعي من
رؤية كف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقظة فهي رؤية خيالية لا حقيقية
حسية. على أن رؤية الأرواح غير مستحيلة عقلاً، ولكن العاقل لا يسلم بخلاف
مقتضى الظاهر إلا بدليل قطعي لا يحتمل التأويل , ودعوى رؤية أرواح الأولياء
وأجساد الشهداء كانت شائعة في كثير من بلاد أوربا في القرون المتوسطة التي
يسمونها المظلمة، فلما جاء عصر العلم والنور تلاشت تلك الدعاوي فلم يبق لها إلا
أثر ضعيف في بعض عامة القرى، وكذلك يكون في غير تلك البلاد فإن سنته
تعالى في جميع أصناف البشر واحدة، ثم إن المشتغلين بالعلم من الأوربيين يدعون
أنهم وصلوا أخيرًا إلى اكتشاف طريقة صناعية لاستحضار الأرواح ورؤيتها , وأن
بعض الناس أشد استعدادًا لها من بعض، فإن صح هذا كان طريقًا طبيعيًّا لتعليل
بعض المشاهدات، ولكنها لا تعد من قبيل الكرمات.
***
رائحة الأولياء ورؤيتهم
وشفاء المرضى برؤيتهم
(س٥٣) أحمد زكي أفندي عبده (السويس) : قد اطلعت في الجزء الخامس
على جواب سؤال عنوانه (إثبات الولاية بالرؤى والأحلام) حملني على سؤال
حضرتكم عما يحصل في بعض البيوت التي فيها قبور تنسب إلى بعض أولياء الله
تعالى من الرائحة الذكية التي تحدث في ليال معلومة من كل شهر تقريبًا , على أنّي
شممت هذه الرائحة وما كان في البيت بخور ... وأذكر لحضرتكم أن وجيهًا
حدثني بأنه مرض منذ سنين مرضًا حار في علاجه الأطباء فعز الشفاء، ولم ينجح
الدواء، إلى أن رأى ذات ليلة وهو بين النائم واليقظان شخص ولي مدفون في البيت
دخل عليه ووضع يده على خده مدة قليلة، ثم رجع من حيث أتى، وما جاء
الصبح إلا وقد شفي من مرضه وعافاه الله، وأنه وصف اليد بأنها ليست يد آدمي
وأنها كوسادة ناعمة لينة محشوة قطنًا وضعت على خده ثم رفعت، أرجو
الإفادة عن هذه الحوادث وما يشاكلها من رؤية الولي المدفون في البيت يصلي أو
يسبح أو يتوضأ مما هو شائع أمره، ولكم من الله الأجر.
(ج) ما من مسألة من المسائل التي يتضمنها هذا السؤال إلا وقد تقدم في
المنار ما يفهم منه تعليلها إلا الرائحة، ولكن أكثر الناس يحبون أن نكتب لكل
جزئية تعليلاً؛ فأما الرائحة الذكية فسببها أن بعض الناس يضعون البخور أو
الأعطار عند قبر الولي في الليالي المعهودة بلا شك، وهو أمر قد عرفناه واختبرناه،
ولقد حدث لنا ما هو أبعد منه عن التأويل , وهو أننا كنا في أيام سلوك الطريقة
النقشبندية نشم في وقت الذكر رائحة ذكية جدًّا تأتي نفحة بعد نفحة ثم تذهب، ولقد
كنا نعللها أولاً إذا حدثت ونحن في حلقة الذكر الاجتماعي التي يسمونها الختم، بأن
بعض الحاضرين فتح زجاجة عطرية ثم سدها ونحن لا نراه لأن أعيننا تكون
مغمضة مدة الختم، ثم إن ذلك صار يحدث لنا ونحن نذكر الله تعالى ولو في خلوة
بابها مغلق وليس معنا فيها أحد، وإننا مع عجزنا عن تعليل طبيعي لذلك نجزم بأن
ما يشم عند القبور عادة له سبب طبيعي وهو ما ذكرناه آنفًا؛ لأنه لو كان أمرًا
روحانيًّا أو وهميًّا لما كان عامًّا يشمه كل من حضر، بل الروحانيون أو الواهمون
خاصة.
وأما المريض الذي شفي عقيب الرؤيا فلك أن تعلل شفاءه بما تقدم شرحه في
بحث (إبراء العلل) بالكرامة والوهم من المجلد السادس، على أن صاحبك قد طال
عليه زمن المرض , ومن الأمراض ما يشفى بدون علاج إذا انتهى سيره، وأعرف
رجلاً في طرابلس مرض مرضًا طويلاً لم ينجح فيه علاج , حتى إذا كان ذات ليلة
شعر بأن في غرفته صينية من (الكبيبة) فزحف على استه إذ كان لا يقدر على
القيام حتى وصل إليها فأكلها برمتها، ولم يكن في حال الصحة ليقدر على أكل
نصفها أو ربعها فأصبح معافى، وأذكر أن المقتطف سئل مرة عن رجل مقعد
معروف في لبنان رأى ذات ليلة بعض القديسين المُعْتَقَدين عندهم أو المسيح أو مريم
عليهما السلام (الشك مني) فأصبح يمشي {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ المَفْتُونُ} (القلم: ٥-٦) ومثل هذه الحكايات كثيرة , وتعليلها ما شرحناه من قبل ونبهنا
عليه آنفًا , فإن كان السائل أو غيره يظن أن هذا خاص بالمسلمين؛ فلماذا لم يكن
شائعًا فيهم أيام كانوا قائمين بحقوق الإسلام في الصدر الأول، ولماذا شاع فيهم
بشيوع نزعات الوثنية، وضروب البدع والضلالة؟ ؟ وأما رؤية الأولياء فتقدم
تعليلها كما نبهنا في جواب السؤال السابق.
***
مسافة القصر في سكك الحديد
(س ٥٤) رشيد أفندي غازي في الشام:
لا يخفى أن علماء الفروع قد حددوا سفرًا مخصوصًا للمسافر حتى يجوزوا
قصر الصلاة به، وهذه المدة تنطبق على المسافر من مدينة بيروت إلى دمشق أو
من حمص إلى طرابلس أو منها إلى دمشق أو من مصر إلى الإسكندرية فلو تزوج
دمشقي مثلاً من بيروت، ثم سافر إلى بلده على القطار الحديدي ومعه أهله وأثاث
بيته، وقطع المدة المعلومة في بضع ساعات فهل يجوز له قصر الصلاة أم لا؟
وإذا جاز له فهل من دليل على ذلك يثلج له الصدر، وتطمئن له النفس أم لا؟ ولو
ادعى مدع أن القصر في هذه المدة القليلة غير جائز فما الدليل المصادم لدليله على
طريقة الأصوليين، فلذلك أحببت نشر هذا السؤال على صفحات جريدتكم الغراء
لتتلو الأجوبة، ولتكون معلومة لعموم المكلفين. إذ لو كان سؤالاً خاصًّا لعالم خاص لم تحصل الثمرة المطلوبة , وهو الهادي.
(ج) إن الله تعالى أباح لنا قصر الصلاة والتيمم والفطر في السفر، ولم
يحدد لنا طول المسافة , فكان مقتضى الظاهر أن تباح هذه الرخص في كل ما يطلق
عليه اسم السفر لغة , ولكن العلماء حاولوا تحديد أقل مسافة لهذه الرخصة بما ورد
فيها من قول الشارع أو عمله , فاختلفوا في ذلك على أقوال كثيرة وجعلوا التقدير
بالأميال والفراسخ والمراحل , والعبرة عندهم بسير الأثقال المعتدلة، فمن قطع
المسافة المقدرة بأقل من الزمن الذي تقطع فيه بسير الأثقال كان له أن يترخص بلا
خلاف , فلا فرق إذن بين قطعها في السكة الحديدية بقوة البخار وقطعها على فرس
سابق. فلك أن تحج من يعارضك من المقلدين بعدم تفرقة الفقهاء، وأما من يطالب
بالحجة الحقيقية فلك أن تحجه بإطلاق السفر في الكتاب والسنة مع ما ورد في مسند
أحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود من حديث شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي قال:
سألت أنسًا عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج
مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين. (الشك من شعبة) قال الحافظ
ابن حجر في فتح الباري: وهو أصح حديث ورد في ذلك وأصرحه، وروى سعيد
بن منصور من حديث أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر
فرسخًا يقصر الصلاة. وقد أقره الحافظ في التلخيص , وهو يؤيد رواية الثلاثة
الأميال , وبه أخذ الظاهرية وأما حديث ابن عباس عند الطبراني أنه صلى الله عليه
وسلم قال: (يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة بُرُد من مكة إلى عسفان)
ففي إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبير وهو متروك , ونسبه النووي إلى الكذب ,
وقال الأزدي: لا تحل الرواية عنه، فأكثر ما ورد في طول المسافة ثلاثة فراسخ
إذا لم نعتبر رواية سعيد بن منصور مرجحة للشق الأول من حديث أنس وإلا فثلاثة
أميال , وهو فعل لا ينافي جواز القصر في أقل من ذلك، وأقل ما ورد في طول
المسافة ميل واحد رواه ابن أبي شيبة شيخ البخاري عن ابن عمر بإسناد صحيح ,
وبه أخذ ابن حزم مع إطلاق السفر في الكتاب والسنة، وعدم تخصيصه أو تحديده،
ومع كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصر عند خروجه إلى البقيع لأنه أقل من
ميل، وقد يقال: إنه من ضواحي المدينة فالخروج إليه لا يسمى سفرًا. والله أعلم
وأحكم.
* * *
تحويل النقود المعدنية إلى ذهبية
(س٥٥) عبد الحميد أفندي السوسي في (الإسكندرية) : يوجد في ثغرنا
رجل غريب نازل عند أسرة مثرية أخبرني عنه من أثق بقوله أنه توجه إليه ذات
يوم بقصد الزيارة واستأذنه في الدخول , فأذن له فدخل وحياه وجلس , وبعد أن
استقر به المكان أخذا يتحادثان , وكان مخبري معه ولد له يناهز الثامنة , فما
كان من الشيخ إلا أن أعطى الولد (قرش نيكل) فأخذه الولد وبعد هنيهه استرده
الشيخ منه ووضعه بين راحتي كفيه , وأخذ يدعكه بلطف ويتمتم ويتفل عليه , ثم
ناوله للولد ثانية وإذا هو جنيه إنكليزي فاندهش مخبري من عمل هذا الرجل إلا
أنه بعدما انصرف من عنده أخذ من ابنه الجنيه وصرفه من صاحب له , وانتظر بعد
ذلك أن يتغير الجنيه فلم يتغير، وبلغني أن الرجل عمل مثل ذلك مع أفراد آخرين ,
فما رأيكم في ذلك الرجل وفيما عمله، أفيدونا.
(ج) إن المشعوذين يعملون مثل هذا وأغرب منه، والأرجح أن الرجل
أخفى القرش بلطف , واستبدل به الجنيه الذي أعطاه الولد، والظاهر أنه يريد أن
يشتهر بذلك ليقبل عليه الطامعون بالغنى من غير طرقه الطبيعية فيبتز من أموالهم
أضعاف ما ينفقه في سبيل الشهرة بالكيمياء القديمة التي لا يزال يفتن بها كثير من
الناس فيبيدون ما بأيديهم من النقد لأجل أن يستغنوا به نسيئة , وما العهد ببعيد من
قضية محمد بك أبي الشادي المحامي صاحب جريدة الظاهر فقد بذل مبلغًا عظيمًا
على بعض الناس للقيام بهذا العمل الموهوم فكان كأمثاله من الخائبين.
***
حديث التفاوت في التكليف
(س ٥٦) محمد أفندي كامل الكاتب بالمحكمة الأهلية في (أسيوط) : ضم
أحد إخواننا مجلس جمع من الأكابر عدة بينهم عالم كبير , ودار البحث بينهم على
حالة الإسلام , فذكر هذا العالم حديثًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: (أنتم
في زمن لو تركتم عشر معشار ما وجب عليكم لهلكتم , وسيأتي على أمتي زمن لو
فعلوا عشر معشار ما وجب عليهم لنجوا) ولما كان هذا الحديث لا يقبله العقل
لمناقضته للقرآن الكريم أخذ صاحبنا يبين للعالم استحالة قبول العقل له بالآيات
القرآنية , ووافقه الحاضرون لقوة حجته، ولكن صاحب الحديث أصر عليه , ولما
لحضرتكم من الأيادي البيضاء على المسلمين في مثل ذلك جئناكم راجين فصل
الخطاب في صحة هذا الحديث وعدمها.
(ج) الحديث لم يروه أحد بهذا اللفظ مطلقًا، وحقًّا إنه هادم للدين
هدمًا , ولكن روى الترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعًا (إنكم في زمان من
ترك منكم عشر ما أمر به هلك، ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا)
وهو على كونه غير صحيح قد حملوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , إذ
لا يمكن حمله على جميع التكاليف لما يستلزمه من التفاوت بين الأزمنة في
التكليف , واللازم باطل بإجماع المسلمين وبعموم النصوص القطعية، وقالوا: إن
السبب في ذلك أن الإسلام كان عزيزًا وكان الناس كلهم أعوانًا على الحق والخير
فلا عذر للمقصر، وأما الزمان الأخير فيضعف فيه الإسلام ويقل التعاون على
الخير , فيكون للمقصر بعض العذر لفقد التعاون وكثرة الموانع من الخير والإيذاء
في الله. ويمكن حمله على ما يأمر به الحكام والسلاطين لأنه كان في العصر
الأول حقًّا وخيرًا في الغالب، ولينظر الناظر بماذا يأمر حكامنا الآن، أما كون
الحديث غير صحيح فنعني به أنه لا يكاد يرتقي عن المكذوب إلى الضعيف , وآفته
نعيم بن حماد المحدث الكبير المكثر الذي غر كثيرًا من المحدثين بعلمه وسعة روايته
حتى أخرج له البخاري في المتابعات دون الأصول , فهو لا يوثق بما انفرد به ,
ومنه هذا الحديث. صرح الترمذي راويه بأنه غريب لا يعرف إلا عن حماد وقد
عد ابن عدي في الكامل جملة مما انفرد به , ومنه ما صرحوا بوضعه، وفي
الميزان عن العباس بن مصعب في تاريخه أن حمادًا وضع كتبًا في الرد على
الحنفية وأخرى في الرد على الجهمية، وكان منهم أولاً، وقال أبو داود: كان
عنده نحو عشرين حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس لها أصل، وقال
الحافظ أبو علي النيسابوري: سمعت النسائي يذكر فضل نعيم بن حماد وتقدمه
في العلم والمعرفة والسنن , فقيل له في قبول حديثه؛ فقال: قد كثر تفرده عن
الأئمة فصار في حد من لا يحتج به، وقال في موضع آخر: إنه ضعيف , وقال
الأزدي: كان نعيم يضع الحديث. ولا شك عندي في ذلك , ومن علامة وضع
الحديث عدم انطباقه على الأصول الثابتة.
***
لبس الحرير والتحلي بالذهب
(س٥٧) ومنه: هل اتخاذ المسلم الحرير دثارًا، والتحلي بالذهب شعارًا،
محرم عليه حقيقة بإجماع الأئمة، ما نص كتاب الله وسنة رسوله في ذلك؟
(ج) ورد في حديث الصحيحين وغيرهما النهي عن لبس الحرير والوعيد
على ذلك بأن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وحملوه على الحرير المحض،
قالوا: ومثله الغالب فيه الحرير لما يأتي، وخصه بعضهم كالحنفية باللبس فلا مانع
عندهم من الدثار ونحو الزنار وحرم بعضهم كل استعمال حتى أغطية الأواني،
وقالوا: فالنهي خاص بالرجال لحديث أبي موسى عند أحمد وأبي داود والترمذي
والنسائي وغيرهم: (أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي وحرم على ذكورها) ،
صححه الترمذي ولكن في إسناده سعيد بن أبي هند عن أبي موسى قال أبو حاتم:
إنه لم يلقه، وقال ابن حبان في صحيحه: إن حديثه عنه لا يصح، وقالوا فيه غير
ذلك.
وجملة القول فيه أنه لا يحتج به , وكذلك حديث علي عند أحمد وأبي داود
والنسائي وابن ماجه وابن حبان أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخذ
حريرًا فجعله في يده اليمنى وأخذ ذهبًا فجعله في شماله، ثم قال: (إن هذين حرام
على ذكور أمتي) - زاد ابن ماجه: (حل لإناثهم) ، ولا حاجة إلى تفصيل ما
قالوه في إعلاله والطعن بسنده، ولكن جرى العمل في السلف والخلف على لبس
النساء الحرير والتحلي بالذهب.
وفي حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود: إنما نهى رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن الثوب المصمت من قز، أما السَّدَى والعَلَم فلا نرى به بأسًا،
ورجال الحديث ثقات ومن ضعف خصيف بن عبد الرحمن من رجاله لم يشك في
صدقه , وقد وثقه ابن معين وأبو زرعة، وأخرجه الحاكم بسند صحيح والطبراني
بإسناد حسن، وثبت في الصحيح: أن الصحابة لبسوا الخز، وكانت ثياب الخز
على عهدهم تنسج من حرير وصوف، وروى أبو داود: أن عشرين صحابيًّا لبسوا
الحرير الخالص، وفي حديث عمر عند أحمد ومسلم وأصحاب السنن: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير الخالص إلا هكذا ورفع لنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه الوسطى والسبابة وضمهما - ومن لفظ (إلا
موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة) زاد أحمد وأبو داود (وأشار بكفه) ، وفي
حديث البخاري النهي عن الجلوس على الحرير والديباج.
هذا ملخص ما ورد في السنة مختصرًا، أما ما ورد عن العلماء فقد ادعى
بعض الزيدية الإجماع على تحريم الحرير الخالص، وهو غير صحيح فقد روى
ابن علية وغيره الخلاف في أصل التحريم، وكان الذين أباحوه وهم الأقلون يرون
أن الأمر والنهي في الأمور الدنيوية العادية للإرشاد؛ أي لا للتحليل والتحريم الديني،
ولهذا نظائر لا خلاف فيها يقولون: الأمر للإرشاد، النهي للإرشاد: والجماهير
على تحريم الحرير الخالص للرجال وعلى حل قدر أربع أصابع من المطرز
والموشى، ومن السجوف على جوانب الثوب وجيوبه وفروجه , وتحريم ما كان
الحرير فيه هو الغالب في النسيج وحل ما كان غيره هو الغالب، وبعضهم يعتبر
قلة الحرير وكثرته في النسيج الوزن كالشافعية , وبعضهم يعتبر النسج , فيكفي أن
يكون سداه حريرًا ولحمته قطنًا أو غيره. ومحل هذا الخلاف عند عدم الضرورة أو
الحاجة , ففي حديث عند أحمد والشيخين وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه
وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير لحكة كانت بهما،
ورواية الترمذي أنهما شكوا إليه القمل، كذلك قد ورد النهي عن المعصفر والأحمر
وسيأتي تعليله بعد الكلام على الذهب.
أما استعمال الذهب في اللباس فقد ورد فيه عن معاوية قال: (نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن ركوب النمار , وعن لبس الذهب إلا مقطعًا) رواه أحمد
وأبو داود والنسائي وفي إسناده ميمون النفاد فيه مقال , وبقية رجال سنده ثقات ,
ورواه أبو داود بسند آخر فيه بقية بن الوليد، وفيه مقال أيضًا، والنمار جمع نمر
كالنمور في رواية أخرى، والمراد بالمقطع ما كان قطعًا في نحو سيف أو ثوب،
وأما استعمال الذهب وكذا الفضة في غير اللباس فلم يرد فيها شيء صحيح إلا النهي
عن الأكل والشرب في أوانيهما وصحافهما والتختم، ولم ينقل خلاف في الشرب إلا
عن معاوية بن قرة، وأما الأكل فأجازه الإمام داود الظاهري , واختلفوا في النهي
فحمله بعضهم على الكراهة وهو قول قديم للشافعي، وعليه العراقيون من أصحابه،
وردوا عليهم بحديث الصحيحين عن أم سلمة مرفوعًا: (أن الذي يشرب في آنية
الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) وفي رواية لمسلم (يأكل ويشرب في آنية
الذهب والفضة) وفي رواية أحمد وابن ماجه عن عائشة: (كأنما يجرجر في بطنه
نارًا) على التشبيه، وأما التختم بالذهب فقد ورد فيه في الصحيح حديث أحمد
ومسلم وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجه عن علي أنه قال: (نهاني رسول الله -
صلى الله عليه وآله وسلم - عن التختم بالذهب وعن لباس القسي، وعن القراءة
في الركوع والسجود، وعن لباس المعصفر) وفي لفظ لأبي داود والترمذي (نهى) ،
ولكن يؤكد لفظ مسلم وغيره رواية (ولا أقول نهاكم) ولذلك ذهب بعض العلماء
إلى أن هذا النهي خاص بعلي عليه السلام حملاً له على المبالغة في الزهد، ومن
حرم التختم بالذهب ترجيحًا لقول الأصوليين أن الحكم على الواحد حكم على الأمة
ما لم يقم دليل على التخصيص؛ يرد عليه قوله: ولا أقول نهاكم، ويلزمه تحريم
المعصفر، وقد حمل بعضهم النهي فيه على الكراهة تنزيهًا، وذهب جمهور الأمة
من الصحابة ومن بعدهم إلى إباحة لبس المعصفر، والقَسي بفتح القاف ثياب من
حرير تنسب إلى بلد بمصر، وقيل هي كقزي نسبة إلى القز المعروف، وثمَّ
روايات أخرى في النهي عن خاتم الذهب، وخاتم الحديد؛ لأن الأول حلية أهل
الجنة، والثاني حلية أهل النار، وفي حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود النهي
عن حلقة الذهب وسوار الذهب وفيه: (ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبًا) .
وجملة القول أنه ثبت في الصحيح النهي عن الأكل والشرب في أواني الذهب
والفضة مع الوعيد والنهي عن التختم بالذهب، وفي حديث مسلم أنه شبهه بجمرة
من نار، ولم أره في المنتقى، وأما مذاهب العلماء فقد حمل الأقلون النهي على
التنزيه لا التحريم، وذهب داود إلى تحريم الشرب في أواني النقدين، وإباحة ما
عداه من أنواع الاستعمال، وقاس كثير من الفقهاء غير الأكل والشرب عليهما حتى
حرم الشافعية اتخاذ الأواني ولو لم تستعمل، فإن جعلوا هذا النهي عن الحرير
الخالص، وعن الأكل والشرب في أواني النقدين تعبديًّا؛ امتنع القياس على ما ورد
به النص الصحيح، وإن قالوا: إن له علة ترجع لمصلحة الناس في معايشهم
وأخلاقهم فهلم نبحث فيها.
اختلفت النصوص والآراء في علة النهي عن لبس الحرير والمعصفر بألفاظ
تفيد عموم النهي حتى للنساء مع ثبوت لبس النبي صلى الله عليه وسلم السندس
والديباج الذي أهداه اليه أكيدر دومة ولبس الصحابة له، وعن النهي عن الأكل
والشرب في آنية النقدين فقط مع حديث ابن حبان: (ويل للنساء من الأحمرين
الذهب والمعصفر) , وفي الصحيحين أن ابن الزبير خطب فقال في خطبته: لا
تلبسوا نساءكم الحرير فإني سمعت عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لا تلبسوا الحرير فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) ، وروى النسائي
والحاكم وقال: صحيح على شرطهما عن عقبة بن عامر أنه كان يمنع أهله الحلية
والحرير ويقول: (إن كنتم تحبون حلية الجنة وحريرها فلا تلبسوهما في الدنيا)
وإنما ذكرنا هذا هنا؛ لأن له علاقة بالتعليل.
قال بعض العلماء: إن العلة في تحريم الذهب والفضة الخيلاء، فهو إذن
كجر الثوب لا يحرم إلا مع الخيلاء، وقال بعضهم: إنه كسر قلوب الفقراء، وقال
بعضهم: إن العلة اجتماع هذين الأمرين، وإن أحدهما لا يكفي علة، وهذا هو
المعتمد عند الشافعية، وقالوا: إنه يخرج به إباحة استعمال أواني الجواهر كالزمرد
والياقوت فإنها مباحة إجماعًا، والخيلاء فيها أظهر منها في آنية النقدين، ولكن
ليس فيها كسر لقلوب الفقراء؛ لأن أكثرهم لا يعرفها على أن الخيلاء محرم في
نفسه، ويفهم من كلام الغزالي علة أخرى وهي تقليل النقود المسكوكة التي هي
موازين التعامل وقضاء الحاجات، وهذه العلة تظهر في تحريم الآنية دون القليل من
الحلي , وتنطبق على حديث معاوية المبيح لاستعمال الذهب قطعًا صغيرة في حلي
للنساء أو زينة في نحو سيف ومنطقة، وقد ورد في الصحيح أنه كان لقدح النبي
سلسلة من فضة، وعند أحمد (ضبة من فضة) ، وبهذا علل الغزالي تحريم الربا،
وقال: إن النقدين كالحاكم فمن جعلهما مقصودين بالاستغلال كان كمن حبس القاضي
الذي يفصل بين الناس.
هذا قول الفقهاء , وأما المحدثون فمنهم من قال: إن العلة في النهي عن
الذهب والحرير هي التشبه بأهل الجنة؛ لأن الأحاديث نطقت بذلك , ومنها قوله
صلى الله عليه وسلم للابس خاتم الذهب: (ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة)
رواه أصحاب السنن الثلاثة، ومنهم من قال: إن العلة التشبه بالكفار كما في بعض
الروايات، ولكن يعارض هذا ما ورد في الصحيح من لبس النبي صلى الله عليه
وسلم الجبة الرومية والطيالسة الكسروية، ومنهم من قال: إنه التزهيد في الدنيا
لقوله صلى الله عليه وسلم بعد النهي: (فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) ,
ولكن الله يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ
هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَة ِ} (الأعراف: ٣٢) والذي يفهم
من هذا ومن كل رواية فيها ما يشعر بأن النهي عن الذهب والفضة والحرير؛ لأنه
لأهل الجنة أن المراد به النهي عن المبالغة في الترف والنعيم الذي يفسد بأس الأمة
ويصرف همتها إلى اللذات والانغماس في التعميم حتى تهمل أمر الدين، وتكون
طعمة للطامعين لا مجرد الزهد في الزينة. فالترف هو الذي أهلك الأمم، ودمر
القرى، وهو علة الظلم والفساد ومثار الشحناء والفتن، وسبب الاعتداء والخيانة،
وهو يختلف باختلاف أحوال الأمم فرب شيء يعد من الأمور العادية عند قوم، وهو
عند آخرين غاية السرف والترف , ولا شك أن لبس الحرير المصمت والأكل
والشرب في أواني الذهب والفضة هو غاية ما ينتهي إليه الترف والسرف في كل
زمان ومكان لا تختلف الأعصار والأحوال إلا في الصنعة فيه , وتظهر هذه العلة
في النساء كالرجال كما فهم بعض السلف إذا وصل إلى حد السرف. وإذا صح أن
هذا هو العلة وأن النهي ليس تعبديًّا كان ما عساه يعرض للإنسان من أكل أو شرب
في آنية الذهب والفضة عند كافر وكذا غير كافر فيما يظهر غير محرم، وكان
قياس الفقهاء غير الأواني عليها , وقياس الاتخاذ على الاستعمال صحيحًا لاسيما في
حالة فقر الأمة. والعمدة في معرفة الترف في الجزئيات ترتب الضرر في الأمة
عليه بفشو استعمالها سواء كان في أمر المعاش أو في الأخلاق , فالمسألة تسمى في
عرف هذا العصر أدبية اقتصادية.
وقد بحث علماء الاقتصاد السياسي في استعمال ماعون الزينة وأثاثه ورياشه
هل هو ضار بالأمة أم نافع، فرجحوا أنه نافع لأنه إذا لم يتنافس الأغنياء في ذلك
يجتمع أكثر المال عند فئة من البارعين في الكسب، ويقع باقي الأمة في مهواة
الفقر والعوز، وإذا كان للأغنياء تنافس فيما وراء الحاجيات مما ذكر (وهو ما
يسمونه الكماليات) وسماه الشاطبي في الموافقات (التحسينات) ، ينفتح بذلك
أبواب كثيرة لارتزاق الفقراء والمتوسطين منهم.
وإذا تبين بالاختبار أن استعمال كذا وكذا من الذهب والفضة والحرير لا ينافي
الاقتصاد، بل تقتضيه مصلحة الأمة في مجموعها؛ لم يكن وراءه إلا رعاية
الأخلاق. فإذا كان استعماله غير مؤثر في فساد الأخلاق، وضعف بأس الأمة فلا
بأس به , وإلا وجب اجتنابه. ويختلف هذا في الأفراد باختلاف نياتهم ومقاصدهم ,
وما يعرفونه من تأثيره في أنفسهم , ولعله لا يوجد ضابط للضار والنافع للأمة مثل
حديث معاوية السابق في القلة والكثرة، وحديث ابن عباس ومذهبه في الحديث.
والخلاصة أن نص الشارع صريح في النهي عن الحرير الخالص إلا لحاجة
لبسًا وجلوسًا عليه , وأباح أنس وابن عباس الجلوس عليه، وقال الفقهاء: أي بلا
حائل , فإن كان هناك حائل كالنسيج الأبيض الذي يوضع على الكراسي والأرائك
فلا بأس عندهم. وعن الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة والتختم بالذهب
على ما فيه، وأن بعض الفقهاء حملوا ذلك النهي على الكراهة دون التحريم،
والجمهور حملوه على التحريم، وأن داود خصه بالشرب , وأكثر المتحدثين بالأكل
والشرب، وعامة الفقهاء حرموا كل استعمال إلا نحو ضبة يصلح بها إناء، وأن
الاحتياط أن يجتنب المسلم ما ورد به النهي الصريح، ويراعي المصلحة فيما وراء
ذلك بحسب اجتهاده مع الإخلاص والله أعلم.
***
لبس الزوج الذهب حال العقد هل يبطله
(س٥٧) الحاج وان أحمد في (سنغافورة) ما قولكم إذا لبس الزوج
الذهب والفضة والحرير في حال العقد، هل يصح النكاح أم لا؟ وهل توبته في تلك
الحالة كتوبة الولي فلا يحتاج فيها إلى مضي سنة، أو لا بد منه حتى يصير كفؤًا
للعفيفة، هل يجب على من حضر من الشاهدين وغيرهما إنكاره، وهل يُفَسَّقوا
بتركهم ذلك أم كيف الحكم؟
(ج ٥٧) الظاهر من السؤال أن السائل شافعي المذهب لأن الشافعية هم
الذين يشترطون عدالة الولي والشاهدين لصحة العقد، ويكتفون بتوبة الولي في
المجلس , ولا يجيزون شهاده الفاسق إلا بعد توبته بسنة يستقيم فيها حاله يسمونها
مدة الاستبراء، ولكنهم لم يشترطوا عدالة الزوج , وإلا لامْتَنَعَ التزوج على الفساق
عندهم، ولكن الفاسق لا يكون كفؤًا للتقية العفيفة , ولذلك يشترط في صحة عقده
عليها رضاها ولو بكرًا، والمزوج الأب؛ فإن رضيت ورضي الولي صح العقد.
وأما فسق الشهود بترك الإنكار على لابس الذهب والفضة والحرير سواء كان
الزوج أو غيره فلا يتحقق إلا إذا كانوا يعتقدون أن هذا محرم كبير ويتعين الإنكار
عليهم , وعلموا أن اللابس لا عذر له ومن الأعذار الصحيحة عندهم أن يكون مقلدًا
ببعض القائلين بالحل ممن يعتد بقولهم، وقد مر الخلاف في ذلك في جواب السؤال
السابق.