للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


سياحة العلماء وهداية الحكماء
يوم وليلة فى الريف
حالة العامة:
في أصيل يوم الإثنين (١٨ج١) سافر كاتب هذه السطور مع أستاذه الشيخ
محمد عبده إلى جهة (فم البحر) بدعوة الشيخ عبد المؤمن موسى عبده بهاده وكان
قد سبقنا في صباحه إلى هناك السيد علي الببلاوي شيخ الجامع الأزهر والشيخ أبو
الفضل الجيزاوي والشيخ سليمان العبد من كبار المدرسين فى الأزهر. والشيخ عبد
المؤمن هذا لم يقصد بدعوة العلماء إلى بلده التفاخر بهم فقط كما هو شأن أهل الدنيا
لاسيما العمد، بل قصد استفادة أهل بلده من علمهم وإزالة الشبهات، ومقاومة
الخرافات بإرشادهم؛ وذلك أن أكثر ما عليه عامة المصريين في القرى وغيرها من
الخيالات والاعتقادات والتقاليد الدينية مأخوذة عن أهل الطريق الذين يطوفون البلاد
والقرى لطلب الرزق بالدين والطريق فهم عميان يقودون عميانًا، ويجتهدون في
جعل الدين كله محصورًا في التعلق بهم وبشيوخهم والاعتقاد بكراماتهم، والتوسل
بهم إلى الله تعالى لقضاء الحاجات وتنفيس الكربات، وجلب الرزق ونيل الرغائب،
وقرن التوسل بالنذور للأموات والعطايا للأحياء، هذا ما يقنعون به الدهماء، ومن
أخذ عليهم أو أخذوا عليه العهد يلقنونه أحزابًا وأوردًا يذكرون لها من الخواص
والمنافع الدنيوية ما يذكرون حتى ضاع أكثر معارف الدين وآدابه وأعماله إلا هذه
الأمور وما يتصل بها من الأوهام والخرافات التي لا سند لها إلا ما اخترعوه من
الحكايات، وما خفي عليهم أمره من مثار الشبهات. فمن سَيَّبَ عجلاً أو نذر شيئًا
للسيد البدوي أو غيره ولم يقدمه , ومن اعتاد الذهاب إلى مولده ولم يذهب , فأصابه
مرض أو مصاب فى نفسه أو أهله أو ماله فأولئك يعتقدون أن الذي أوقع بهم هو
السيد , كأن السيد حاكم مستبد ظالم يفرض على الناس ما لم يفرضه الله عليهم
وينتقم منهم أشد الانتقام إذا هم قصروا في أداء ذلك، ولا يغار على حق من حقوق
الله تعالى فهو لا يتصرف بمن يترك الصلاة، أو يمنع الزكاة أو يؤذي جاره أو
يسرق متاع أخيه أو يفسد عليه زرعه أو يسمم بعض ماشيته.
كان الناس على هذا زمنا طويلاً لا يكادون يسمعون إنكار منكر ولا تنبيه منبه
ولا إرشاد مرشد إلا ما قَلَّ وندر، حتى كان بعد انتشار المنار في هذه السنين
الأخيرة أن قام كثيرون من قرائه ينكرون على الناس البدع والخرافات الفاشية فيهم,
وكان الشيخ عبد المؤمن المذكور لسلامة فطرته من أشدهم غيرة وأكثرهم دعوة
وأقواهم حجة، ولم يكن له مساعد في النهي عن هذه المنكرات في تلك الجهات إلا
الشيخ عليًّا الجربي وبعض الأذكياء , ولكن كان لهما معارض شديد التأثير في
العامة هناك بما له من سمت الصلاح والنسبة إلى الطريق والعلم وهو الشيخ محمد
الدلاصي فكان الناس فى (بهاده) ونواحيها حزبين يختصمان حزبًا يقول ويوقن
بأن لا نافع ولا ضار إلا الله تعالى، وأنه لا يتوسل إليه تعالى إلا بما شرعه لعباده
في كتابه وعلى لسان رسوله من الفرائض والسنن، وأنه لا سبب لقضاء الحاجات
وجلب المنافع والمضار إلا ما هدى الله الناس إليه من سننه المطردة في خلقه.
وحزبًا يقول: إن الأولياء في قبورهم يضرون وينفعون , ويحيون ويميتون ,
ويعطون ويمنعون، وأنه يتوسل إلى الله تعالى بذواتهم ويدعى بواسطتهم لا وحده
... إلخ، ما هو معلوم مشهور من أمثالهم.
وكان الشيخ عبد المؤمن يتمنى عَلَيَّ من زمن طويل أن أدعو الأستاذ الإمام
لزيارة بلدهم ليتكلم على الناس بالقول الفصل الذي يرجى أن يمحو كل شبهة
ويخرس لسان كل بدعة، حتى كان أن ذهبنا في ذلك اليوم الذي ذكرناه في صدر
المقال فاجتمع في تلك القرية أشهر علماء العصر، وقد اجتمع علينا أكثر أهل البلد
ليلاً متوقعين أن يسمعوا من الأستاذ الإمام ومن سائر الأساتذة الأعلام ما يقطع عرق
النزاع والخصام، وكان تلامذة الشيخ محمد الدلاصي يتوقعون منه أن يدافع عما هم
عليه، بل كان منهم من يظن أن حجته في ذلك ستعلو كل حجة , وافتتح الشيخ
عَلِيّ الجربي الكلام بسؤال الأستاذ الإمام , فأجاب حفظه الله تعالى بتقرير عقيدة
التوحيد الخالص وهي: أن لا فاعل إلا الله، وأنه لا يدعى معه أحد سواه وأن
التوسل بالأولياء والصالحين إنما يصح بمعنى الاهتداء بهديهم البَيِّن، وبأن لله أن
يكرم من عباده من شاء، ولكن لا يصح أن تكون الكرامات والخوارق كصنعة من
الصنائع في أيدى الأولياء. والحق أنه ليس لهم من الأمر شيء، وأنه لا يكلف
مؤمن بأن يعتقد بولي مخصوص، ولا بكرامة ولي معين، وكان قد وضح ذلك بما
وافقه وصدقه عليه العلماء الحاضرون.
***
ديوان الأولياء والتصرف الباطن
ثم قال منشىء هذه المجلة: يقولون: إن للأولياء ديوانًا يجتمع فيه الأحياء
والميتون فما أقروا عليه فهو الذي يقع في الكون، وإننا نرى حوادث الكون في
جملتها وتفصيلها منافية لمصلحة المسلمين حتى علت عليهم الملل كلها فاستولت
على معظم بلادهم الدول المسيحية وسبقتهم في العزة والمكانة الشعوب الوثنية، فإذا
كان أولياء المسلمين وأنصار الدين هم المتصرفون في الأكوان لا يجري فيها إلا
ما يجرونه، ولا يستقر إلا ما يقرونه فما بالهم ينصرون الكافرين على المسلمين ,
وكيف اعتز الإسلام بطائفة من سلفهم ثم هو يخذل الآن باتفاق الأحياء منهم والميتين؟
فقال الأستاذ الإمام: قد يقال: إن الأولياء يرون أن المسلمين صاروا أبعد عن
دينهم من سائر الأمم فهم ينتقمون منهم حتى يرجعوا إلى دينهم , والحق أن مسألة
الديوان والتصرف الباطني عند الصوفية المتأخرين هي رمز إلى ما كان عليه
سالفهم عندما كانت هذه الطائفة حية عاملة. ذلك أن الفقهاء كانوا يكفرون الصوفية
وكان الحكام أنصارًا للفقهاء، فكان جميع أمر الصوفية مبنيًّا على الكتمان ,
فوضعوا الرموز لعقائدهم واصطلاحاتهم وأعمالهم، وبالغوا في التستر كما هو شأن
الجمعيات السرية العاملة، وكان لهم اجتماع خفي يتباحثون فيه وينظرون في أمرهم وحمايتهم من أعدائهم، وكل ما يتفقون عليه في الباطن يسعون بتنفيذه بوسائله في
الظاهر , فإذا اتفقوا على عزل حاكم أو قتل ظالم لا يكفون عن السعي حتى ينفذ
ذلك. فهذا هو الديوان , ومعنى كون ما يجرى في الظاهر محكومًا به في الباطن،
وكذلك كان شأن الباطنية (والصوفية فرقة منهم معتدلة) كما هو معلوم في التاريخ،
ولما بَيَّن الأستاذ هذا استحسنه الشيوخ أشد الاستحسان.
تلك إشارة إلى سمر الشيوخ، وما كان فيه من الفوائد لعامة حاضريه،
ويظهر أن الشيخ الدلاصي سكت واجمًا لا راضيًا؛ لذلك عاد في النهار إلى المحفل
وألقى على الأستاذ الإمام الأسئلة الآتية قائلاً: إنه سمع ما قرره ليلاً واستحسنه،
ولكن لديه إشكالاً يحب كشفه بعرضه على الأستاذ المفتي وسماع الجواب منه،
وقال ما مثاله:
(س١) الناس إمام ومأموم، فالأول متبوع، والثانى تابع لا يعدو وحده فأنا
اتخذت الشافعي إمامًا؛ فإذا وجدت في مذهبه شيئًا، ورأيت في كتاب الله شيئًا
يناقضه أراني مرتاحًا للعمل بقول الشافعي دون قول الله تعالى مثلاً: إن الشافعي
يقول بحل الذبيحة بدون تسمية، ولكن الله تعالى يقول: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ
اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام: ١٢١) ألست معذورًا بذلك؟
(س٢) إن الله فضل بعض الناس على بعض في الرزق وغيره؛ فإذا أعطى
الله عبدًا جنيهًا ألا يجوز لي أن أقول له: أعطنى ريالاً من الجنيه الذي
أعطاك الله؟
وقد علمنا من مشايخنا أن الله تعالى أعطى سيدي أبا الحسن الشاذلي وأبا
العباس المرسي وفلانًا وفلانًا سرًّا لم يعطه لغيرهم , فأي مانع من أن يطلب الإنسان
منهم شيئًا من هذا السر الذي أعطاهم الله كما يطلب الريال من صاحب الجنيه؟
قال الأستاذ الإمام: أما قولك الأول فهو خطأ كبير، وفيه خطر عظيم؛ فإن
الذين أجازوا لك تقليد الإمام الشافعي أو غيره من الأئمة - رضي الله عنهم -
يشترطون في ذلك أن لا تعرض لك شبهة في كتاب الله تعالى فترى أنك تعمل
بنقيضه فإن عرضت لك الشبهة، وجب عليك حالاً السعي في كشفها وإزالتها وإلا
زال الإيمان، فإن الشك في كتاب الله تعالى كفر صريح بإجماع المسلمين، وكذلك
نبذه وراء الظهر، وتقديم غيره عليه.
نعم، الناس إمام ومأموم، ولكن إمام هذه الأمة واحد وهو رسول الله صلى
الله عليه وسلم المعصوم , وإنما العلماء ناقلون ومبينون عنه , فمتى تعارض كلامهم
مع ما جاء عنه رجعنا إليه كما أمرونا إلا أن يظهر لنا عدم التعارض والتناقض.
قال الشيخ الدلاصى: إننى لا أشك في كتاب الله، ولكن أعلم أن إمامي قد
اطلع على الآية، وفهمها أحسن مما أفهمها، ولذلك لا أراني مخالفًا لكتاب الله ولا
شاكًّا فيه، قال الأستاذ الإمام: إن الله تعالى يحاسبك على ما تفهم وتعتقد لا على ما
فهم الشافعي، وأنت قلت الآن: إنك ترى الآية مناقضة لقول الشافعي فترجيحك
قول الشافعي حينئذ يقتضي أن يكون قول الله تعالى مرجوحًا فهو عندك دون
المشكوك فيه حقيقة؛ لأن الشك استواء الطرفين، وترجيح إحدهما يقتضي بطلان
الثاني، ولو ظنًّا؛ فإن كنت تقلد الشافعي، وترى الآية موافقة لقوله فلا إشكال ولا
محل للسؤال.
قال الشيخ الدلاصى: إن أبا حنيفة والشافعي يختلفان في الحكم (أو قال الآية
المفيدة للحكم) ونتبع أحدهما، ولا نرى في ذلك مخالفة للقرآن.
قال الأستاذ الإمام: إذا كان الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي، ولم يكن هناك
قرآن تقرؤه وتفهم منه أنه مؤيد لقول أحدهما فلا حرج عليك في الأخذ بقول من
شئت منهما لأنك لم تنحرف عن كتاب الله تعالى، ولم تلقه وراء ظهرك، وليس هذا
من السؤال الأول في شيء؛ لأن الترجيح هناك بين قول الشافعي وقول الله عز
وجل الذي تراه يناقضه. على أن المثال هناك غير صحيح , فإن الآية لا تناقض
قول الشافعي إذ النهي فيها عن متروك التسمية مقيد بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (الأنعام: ١٢١) وقد فسروه بقوله تعالى في الآية الأخرى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: ١٤٥) فاقتنع الدلاصي، ثم قال الأستاذ:
وأما الجواب عن السؤال الثاني، فهو أننا نسلم أن الله تعالى فضل بعض
الناس على بعض في الرزق، والمواهب الظاهرة والباطنة، ولكن فضل الله على
عبده قسمان: قسم مكسوب يمكن بذله أو البذل منه، وقسم ليس في استطاعة البشر
بذله أو البذل منه؛ كالإيمان والمعارف الوجدانية، ومنها ما يسمه الصوفية بالأسرار
فإنهم قالوا: إنها أمور ذوقية لا يعرفها إلا من ذاقها، فلا يصح أن تطلب، ولا أن
توهب. يقول الكاتب: إننى لا أجزم بأن الأستاذ ساق التقسيم على هذه الصورة
من التمثيل، ولكنني أعلم أنه ذكر قسمين منها ما يدخل في الكسب ويعاون فيه
الناس بعضهم بعضًا كالمال، ومنه ما ليس كذلك، وقال: إنه لا يصح قياس
أحدهما على الآخر، فالمعنى واحد وإن اختلف التمثيل أو جاء بزيادة كلمة، أو
نقص كلمة , ثم ذكر أن الناس يسألون الأموات الذين يعتقدون فيهم الولاية ما قطعه
الله عنهم من رزق الدنيا ومصالحها، وما لا يبذل من ذلك بحسب الأسباب والسنن
الإلهية، وما يبذل , فيطلبون منهم المال وزيادة الغلة ونماء الزرع وشفاء المرضى
والانتقام من الأعداء وأمثال ذلك مما لو كان فى أيديهم، وصح لهم بذله كما يبذل
صاحب الجنيه ريالاً منه لكان لهم في أمر الآخرة التي هم في شاغل عنه.
قال الشيخ الدلاصي: إننا تلقينا عن مشايخنا كما تلقوا عن مشايخهم أن سيدي
أبا الحسن الشاذلي، وسيدي أبا العباس المرسي من أولياء الله تعالى، ومن أصحاب
السر والمدد، وأن تلامذتهم في حياتهم وأتباعهم بعد مماتهم يتوسلون بهم إلى الله
تعالى، ويطلبون منهم المدد، والسر كما نرى ذلك في كتبهم ككتب ابن عطاء الله
السكندري، وسيدي مصطفى البكري (ولعله ذكر أسماء أخرى) فهل نقول: إن
هؤلاء كانوا على ضلال أم كانوا مهتدين؟
قال الأستاذ الإمام: هل جاء مثل هذا الذي تنقله عن هؤلاء الأولياء في كتاب
الله تعالى؟ قال: لا. قال: هل جاء فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:
لا. قال: هل نقل مثله عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة؟
قال: لا. قال: هل نقل عن التابعين والأئمة المجتهدين وقدماء الصوفية؟ قال: لا.
قال: فخذ هؤلاء كلَّهم - رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين
والأئمة الأربعة وقدماء الصوفية كالخراز والجنيد رئيس الطائفة وسائر أهل
القرنين الأول والثاني وضَعْهم في كفة ميزان وضَعْ في الكفة الأخرى من ذكرت من
المشايخ المتأخرين واتبعْ الراجحَ!
قال الشيخ الدلاصي: ولكن هل نقول: إن أبا الحسن الشاذلي وأبا العباس
المرسي وياقوت العرشي وابن عطاء الله السكندري ومصطفى البكري كانوا ضالين
مخالفين لهدي الله ورسوله وأصحابه أم كانوا مهتدين.
قال الأستاذ الإمام: إنك بعد بيان الحق تكرر هذا السؤال تتسقطني لأقول:
إن كل ما خالف هدي السلف فهو ضلال؛ فتخرج فتقول للعامة: إن المفتي أو فلانًا
يضلل كبار أولياء الله تعالى، ولكنني لا أقول لك ذلك , بل أقول: إن الله تعالى ما
كلفك باتباع هؤلاء حتى لو مت ولم تعلم بوجودهم في الدنيا لما سألك الله يوم
الحساب عنهم، ولكن كلفك باتباع كتابه ونبيه وهدي أصحاب نبيه الذين أخذوا
الدين عنه مباشرة، وكانوا به خير العاملين. فهل تقول إنهم كانوا ضالين؟ ثم إنني
أقول لك: إنني أنا أحترم أبا الحسن الشاذلي، وأنا من أهل طريقته لم أسلك غيرها ,
ولكن ليس كل ما ينسب إليه يصح عنه، بل قال لي شيخي الذى سلكت عليه
الطريقة: إن هذه الأحزاب المنسوبة لسيدي أبي الحسن لم تصح عنه. قال
الدلاصي: لكنها متواترة، قال الأستاذ: كيف وفريق من الشاذلية ينكرها ثم حرر
مسألة الخلاف هنا بأمور مرتبة كما ترى:
(أولها) الكتاب والسنة العملية منقولان بالتواتر القطعي وما عداهما من
سيرة النبي وأصحابه وسلف الأمة منقول بأسانيد معروفة يمكن بها تمييز الصحيح
من غيره، وما نقل عن الشاذلي وغيره من الأولياء لا سند له يحتج به شرعًا؛ فإذا
فرضنا أن كلامهم في مرتبة كلام الله ورسوله (ولا يقول بهذا مسلم) وجب ترجيح
كلام الله ورسوله وكلام السلف على كلامهم لصحة النقل كما يرجح بين الحديثين.
وكيف وقد اشتهر الكذب عليهم، ودس الزيادات في كتبهم كما صرح بذلك
الشعراني الذي كانوا يدسون عليه في حياته، ويزيدون في كتبه ما يخالف الكتاب
والسنة، ولا تزال كتبه مملوءة بهذه الدسائس (قال) ولو صح عنه كل ما نسب إليه
لما كان مؤمنًا، بل ملبسًا يريد إفساد عقائد المؤمنين، وههنا قال أحد الشيوخ
العلماء: إن فى مصر نسخة من العهود بخط الشعراني تنقص عن النسخة
المطبوعة بنحو الثلث، فلا شك أن كل هذه الأمور المنكرة شرعًا في كتب
الشعراني من الدسائس عليه. قال الأستاذ: وهذا الذي يغلب على ظني، وأنا أعتقد
أن الطبقات والمنن ليستا من تأليفه بالمرة.
ثم قال:
(ثانيها) إذا فرضنا أن النقل عنهم صحيح وأنه لا دسائس فيما ينقل عنهم
فإننا نرجح هدي الكتاب والسنة لعصمة كتاب الله وعصمة رسوله دون غيرهما.
على أن مبحثنا يتعلق بالعقائد والتوحيد، وهي لا يؤخد فيها بأحاديث الآحاد وإن
صحت، فكيف بما لا يصح من قول الناس! !
(ثالثها) إذا فرضنا أن هؤلاء الأولياء معصومون كالأنبياء، ولم يقل بهذا
مسلم فالأولى لنا أن نأول كلامهم حتى ينطبق على هدي الكتاب والسنة والسلف لأنه
الأصل باتفاقهم وإقرارهم.
(رابعها) إذا فرضنا أن الكل في مرتبة واحدة، وأنه لا أصل ولا فرع ولا
يقول بهذا مسلم أيضًا؛ فعلينا أن نعمل بالكتاب لأنه واضح مُبين كما وصفه الله
تعالى في مواضع منه، وبالسنة لأنها بيضاء واضحة كما وصفها صاحبها، وقال:
(ليلها كنهارها) وبسيرة السلف لأنهم أعلم الناس بهما، وأما كلام الصوفية فقد
صرحوا بأنه رموز واصطلاحات لا يعرفها إلا أهلها الذين سلكوا هذه الطريقة إلى
نهايتها، وصرحوا بأن من أخذ بظاهر أقوالهم ضل، وهذا ظاهر فإن كتب محيي
الدين بن عربي مملوءة بما يخالف عقائد الدين وأصوله، وهذا كتاب الإنسان الكامل
للشيخ عبد الكريم الجيلي هو في الظاهر أقرب إلى النصرانية منه إلى الإسلام،
ولكن هذا الظاهر غير مراد وإنما الكلام رموز لمقاصد يعرفها من عرف مفتاحها ,
فإن كنت تدعي ذلك (وأشار إلى الدلاصي) فإن لي معك كلامًا آخر , وإلا حرم
عليك أن تنظر في كلام القوم لئلا تفتن في دينك (قال) وإنني لما كنت رئيس
المطبوعات أمرت بمنع طبع كتاب الفتوحات المكية وأمثالها لأن أمثال هذه الكتب لا
يحل النظر فيها إلا لأهلها: وههنا سكت الشيخ الدلاصي فلم يرجع قولاً، وظهر لنا
أنه اقتنع.
وقد تذكرت أنني كنت رأيت في كتاب للشعراني أحسبه (الجواهر والدرر)
أنه سأل شيخه عليًّا الخواص: لماذا يطلب من الناس تأويل كلام الأنبياء إذا خالف
ظاهر الشرع، ولم يطلب منهم تأويل كلام الأولياء؟ فأجابه: لأن الأنبياء
معصومون فيجب حمل كلامهم على الصحة دائمًا، والأولياء ليسوا بمعصومين
فيجوز أن يكونوا مخطئين فيما خالفوا فيه. هذا وإننا في خاتمة هذا القول نعرف
القراء بالشيخ محمد الدلاصي فنقول: إنه ليس كمن يعهدون من شيوخ الطرق
الجاهلين بل هو من أهل العلم والفهم، ولولا غلوه باعتقاد تصرف الأموات في
شئون الأحياء لكان من أحسن المرشدين للعامة , وعسى أن يكون رجع عن ذلك فقد
نقل لنا من غلوه أنه أقسم بالله تعالى إن السيد البدوي يميت ويحيي، ويفقر ويغني،
ويسعد ويشقي، ويمنع ويعطي (والعياذ بالله تعالى) ، ونتمنى أن يكون هذا النقل
عنه غير صحيح، وقد عز علينا أن ننشر ذلك عنه، ثم ذكرنا أن الإنسان لا يرى
غضاغة عليه في عزو اعتقاده إليه، وإن كذب لنا النقل فإننا ننشر التكذيب فرحين
مستبشرين لأننا نعتقد أن نفع هذا الرجل يكون عظيمًا إذا هو رجع عن ذلك الرأي
الذي لا حجة له عليه إلا أنسه به، والثقة بمشايخه الذين كانوا عليه، والعقائد لا
تقليد فيها على أنه ربما كان أعلم منهم بكتاب الله الذى استأصل الوثنية من جذورها.
والخطأ في العقائد خطر عظيم , والله الهادي.
***
شرط طلب شيخ الطريق وصفته
ثم سأل أبو زيد أفندي موسى صاحب المنزل الذي نزلنا فيه (والشيخ عبد
المؤمن ولده) الأستاذ الإمام عن سلوك الطريق قائلاً ما معناه: إذا كنت أنا جاهلاً
بما يجب عليَّ لله تعالى، وعاصيًا مقصرًا فيما أعرفه من الواجب ألا ينبغي لي أن
أطلب شيخًا مرشدًا أضع يدي فى يده وأعاهده على السمع والطاعة ليدلني على الله؟
فقال الأستاذ الإمام: ينبغي لك أن تطلب المرشد، وأنا أدلك على طريقة الطلب،
وهي أن تعمل أولاً بجد وإخلاص بما تعرفه من أمور الدين التي لا خلاف فيها حتى
إذا استقمت على ذلك، وظهرت لك أمور أخرى دقيقة يشتبه عليك الحق فيها،
فاطلب من هو أشد منك محافظة على العمل بما تعلم، وأعلم منك بتلك الدقائق
ليرشدك إلى مسلك الحق فيها بالشرط الآتي. ثم سأله الأستاذ عن أمور كثيرة منها:
أتعرف أن أكل أموال الناس بالباطل حرام، وأن إيذاء الناس حرام، وأن التعاون
على الشر حرام، وأن الكذب والخيانة حرام ... وأن الصلاة والزكاة ... من
الفرائض، وأن الصدق والأمانة والتعاون على الخير ومواساة المحتاج من الفضائل
المحمودة حتى ذكر له أمهات الفضائل والرذائل، وكان يجيب عن كل واحدة بأنه
يعرف حكمها، ولا يحتاج فيه إلى مرشد ولا أستاذ.
فقال له: إذا عملت بهذا كله بإخلاص فأنا أضمن لك على فضل الله تعالى
القبول والرضوان , وأن يهديك إلى الدقائق وكشف الشبهات، فإنه قال: {وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} (العنكبوت: ٦٩) وفي
الحديث: (من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم) وتستغني عن المرشد إذا لم
تجده لقلته في هذا الزمن , وإذا وجدت من تراه سابقًا لك في العلم والعمل وحسن
الخلق، وأردت أن تسترشد به فانظر وراء هذا شرطًا واحدا وهو: أن لا يكون
دين هذا الرجل دكانه، أي أن لا يقبل منك جزاء على الإرشاد؛ فإذا رأيته لا يمد
يده للأخذ فامدد إليه يدك وعاهده على الاسترشاد بعلمه وعرفانه، وإذا كان يمد يده
للأخذ منك، فلا تمدد يدك إلى يده إلا بالسكين فإنه لص قد اتخذ الدين حرفة ,
واكتف بالعمل بما تعلم، والله يهديك ويسددك. اهـ بالمعنى مختصرًا.