للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


السؤال والفتوى

اشتراط الولي في النكاح
(س٥٨) أ. م. المدرس في (القاهرة) : لقد أنصفتم فيما كتبتموه في
مقالة (الأولياء والكفاءة إلخ) إذ اقتصرتم فيها على ما ورد في الكفاءة من
الأحاديث مع بيان مذهب الحنفية في ذلك , وتركتم الحكم للرأي العام , وإنما نود
أن تبينوا لنا رأيكم فى وجوب اشتراط الولي أو عدمه مستدلين على ذلك بالكتاب
والسنة كما هي طريقتكم مع بيان حكمة الشريعة فى ذلك بتفصيل كاف وبيان شاف ,
لا زال مناركم هاديًا وعلمكم نافعًا كافيًا.
(ج) الذي يفهم من القرآن العزيز وكلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
ومضت به السنة , ونقل عن جماهير الصحابة ولم ينقل عنهم خلافه أن الولي هو
الذى يزوج , وأنه لابد منه إن وجد , وأن الأنثى لا تزوج نفسها , ولكن ليس للولي
أن يزوجها بدون رضاها , واكتفى الشرع بسكوت البكر لحيائها , واشترط أمر
الثيب للولي , وبذلك أعطى النساء حقًّا لم يكن لهن فى غير هذه الشريعة العادلة ,
وجعل الرجال قوامين عليهن مع العدل والشفقة وعدم الإكراه حفظًا لنظام البيوت
وجمعًا بين مصلحة الرجال والنساء , وإليك الدلائل:
قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُم} (النور: ٣٢) وهو خطاب للرجال
الذين يتولون العقد.
وقال تعالى مخاطبًا لعموم المكلفين: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ
تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ} (البقرة: ٢٣٢)
فالآية صريحة في نهي الأولياء عن عضل الثيب , ولا يملك العضل إلا من بيده
عقدة النكاح , ومن زعم أن الخطاب بالنهي للأزواج نرد عليه بالسياق وبما أخرجه
البخاري وأصحاب السنن وغيرهم بأسانيد شتى من حديث معقل بن يسار قال:
كانت لي أخت فأتاني ابن عمي فأنكحتها إياه , فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة
ولم يراجعها حتى انقضت العدة , فهويها وهويته , ثم خطبها مع الخطاب , فقلت له:
يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها , والله لا ترجع إليك أبدًا ,
وكان رجلاً لا بأس به , وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فعلم الله حاجته إليها
وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله هذه الآية. قال: فَفِيَّ نزلت فكفرت عن يميني
وأنكحتها إياه. وفى لفظ: فلما سمعها معقل قال: سمعًا لربي وطاعة , ثم دعاه فقال:
أزوجك وأكرمك. ولو كان لها أن تزوج نفسها لفعلت مع ما ذكر من رغبتها. ثم
إن الآية إنما حرمت العضل على الولي ولو أراد الله أن لا يجعل للولي حقًّا على
الثيب لنزلت الآية في بيان أن لهن أن يزوجن أنفسهن. ولا يقال: إنها خاصة
بتحريم العضل عن الأزواج السابقين لأن العبرة بالعموم لا سيما مع اتحاد العلة
المشار إليها في تتمة الآية , وهي قوله تعالى: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُون} (البقرة:
٢٣٢) فإنها تشير إلى مراعاة المصالح في هذه المعاملات , ولا تجعلها أمورًا
تعبدية , ومصلحة المرأة فى العودة إلى زوجها الأول مع التراضي كما أن مصلحتها
أن تتزوج مطلقًا فالعضل محرم على كل حال , وهو لا يتحقق إلا إذا كان الولي هو
الذى له حق التزويج برضاها.
وقال تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً
فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة: ٢٣٧)
الظاهر أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي , وهو مروي عن ابن عباس وعائشة
وطاووس ومجاهد وعطاء والحسن وعلقمة والزهري , ولكن روى ابن جرير
وغيره فى المرفوع أنه الزوج وفي إسناده مقال وإن حسنوه , ولم يذكره السيوطي
فى أسباب النزول , ولم نرجح الأول عليه لهذا ولكن للسياق , فإنه يقول للأزواج:
إذا طلقتم قبل الدخول فعليكم أن تدفعوا نصف المهر المفروض إلا إذا سمحت
المعقود عليها بذلك بنفسها أو سمح وليها به , وليس يظهر , أو سمح الزوج به لأن
الزوج هو المكلف بالدفع , وإنما قال به قوم وأولوه لأن من قواعدهم أن الولي لا
يملك التصرف بمال موليته , ولذلك خصه بعض من قال: إنه الولي بالمطلقة
الصغيرة , وفاتهم أن المذاهب لا يصح أن تقيد القرآن ولا أن تخصصه. على أن
الجمع بين الآية وبين قاعدتهم سهل , وهو أن يحمل على عفو وسماح يعلم به الولي
رضاها أو يعوضها عنه مثله أو خيرًا منه إذا رأى أن اللائق به أن لا يأخذ من
الزوج شيئًا لأنه لم يدخل بها , وقد رأيت أن الآية تحث على هذا العفو لأن المأخوذ
فى هذه الحالة يثقل على النفوس من الجانبين؛ الزوج يراه كالغرامة والولي
والزوجة يريانه كالصدقة. ومن نظر فى التعامل والآداب الإسلامية يرى أن ما
جرى عليه المسلمون من إمضاء الولي أمثال هذه الأمور , وعدم حضور البنت
المطلقة إلى مجلس الطلاق وتصريحها بعفو , أو مباشرتها لقبض. ومن اتفاق
الناس على أن هذا لا يليق بها , ومن التسامح بين الأولياء والبنات لا سيما إذا كان
الولي أبا أو جدًّا , كل ذلك من العمل بآداب القرآن وفضائل الإسلام. وهناك آيات
أخرى كآية النساء: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} (النساء: ١٩) وآية البقرة: {وَلاَ
تُنكِحُوا المُشْرِكِينَ} (البقرة: ٢٢١) خاطب الرجال لأنهم هم الذين يزوجون ولم
يخاطب النساء بذلك قط.
وأما الحديث فقد روى أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن من حديث أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا
البكر حتى تستأذن) . وهو يُفهِم أن حق مباشرة العقد للرجال , ولكنه أوجب أن
يكون برضى النساء , فالثيب لابد من أمرها صريحًا , ويُكْتَفَى أن يستأذن البكر
فتسكت , ولذلك قالوا: يا رسول الله , وكيف إذنها؟ قال: (أن تسكت) وهذا أصح
حديث فى الباب اتفق عليه أهل الصحيح , وهو يدل على أن من الآداب الاسلامية
أن لا تصرح البكر بطلب الزواج لأنه لا يليق بالحياء الإسلامي الذى هو فخر لها
وهي لا تعرف الرجال , فليعقل هذا من يقولون: إن الشريعة أعطت للبنت الحق
في أن تزوج نفسها بدون رضاء أبيها أو غيره فلا يصح أن يقال: إن ذلك مخالف
للآداب الدينية. وفى حديث عائشة المتفق عليه قالت: قلت: يا رسول الله تستأمر
النساء في أبضاعهن؟ قال: نعم. قلت: إن البكر تستأمر فتستحي فتسكت. فقال:
(سكاتها إذنها) وفى رواية (إذنها صماتها) , وهذا الاستفهام من عائشة يدل
على أنه لم يكن يعهد فى ذلك العصر أن يزوج المرأة غير وليها , وكأنهم رأوا من
الغريب أن تستأمر في ذلك.
وقالوا: ينبغي أن تعلم البكر أن سكاتها إذن. ولا ينافي هذا حديث ابن عباس
عند مسلم وأصحاب السنن (الثيب أحق بنفسها من وليها , والبكر تستأذن فى نفسها
وإذنها صماتها) لأنه يحمل على أنه لا يزوجها إلا بأمر صريح منها جمعًا بين
الأخبار الماضية والآتية وموافقة للكتاب , وأنه لا يصح العقد إلا بذلك , وأما البكر
فيجب استئذانها , ولو زوجها بدون إذنها يكون العقد موقوفًا على إجازتها , ويدل
على ذلك فى الموضعين ما تقدم في الجزء العاشر من حديث عبد الله بن بريدة ,
وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أمر الفتاة لها فأجازت عقد أبيها وتزويجه إياها.
وحديث خنساء بنت خدام الأنصارية وهو أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك ,
فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها رواه أحمد والبخاري وأصحاب
السنن.
وعن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي)
رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي وكذلك ابن حبان والحاكم وصححاه , وذكر
له الحاكم طرقًا , وقال: قد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه
وسلم عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش , ثم سرد تمام ثلاثين صحابيًّا فلا يضر
مع هذا وما سيأتي الاختلاف فى وصله وإرساله.
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة نكحت بدون إذن
وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل , فإن دخل بها فلها المهر بما
استحل من فرجها , فان اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له) رواه الذين رووا
ما قبله , وحسنه الترمذي منهم , وأخرجه أيضًا أبو عوانة وابن حبان والحاكم
وأعلوه بإنكار الزهري له , وأي مانع من نسيانه إياه , وقد رواه عن ابن جريج
عشرون رجلاً. ورواه أبو داود الطيالسي بلفظ (لا نكاح إلا بولي , وأيما امرأة
نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل , فإن لم يكن لها ولي فالسلطان
ولي من لا ولي له) .
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزوج
المرأة المرأة , ولا تزوج المرأة نفسها؛ فإن الزانية هي التي تزوج نفسها) رواه
ابن ماجه والبيهقي وقال الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات. وروى الشافعي
والدارقطني عن عكرمة بن خالد قال: جمعت الطريق ركبًا , فجعلت امرأة ثيب
أمرها بيد رجل غير ولي , فأنكحها , فبلغ ذلك عمر فجلد الناكح والمنكح ورد
نكاحها. وقد نقل بطلان العقد بغير ولي عن علي وعمر وابن عباس وابن مسعود
وأبي هريرة وعائشة , وهؤلاء أعلم الصحابة , وقال الحافظ ابن المنذر: إنه لا
يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك. فتبين أن الكتاب والسنة وعمل الصحابة
وأقوالهم وإن شئت قلت كما يقول الفقهاء: إجماعهم على أن النكاح لا يصح بدون
ولي , وجرى على هذا سلف الأمة وخلفها عملاً. حتى الحنفية الذين رووا عن
أئمتهم في المسألة روايتين؛ ظاهر الرواية أن نكاح الحرة العاقلة البالغة ينعقد
برضاها ولو بدون ولي قال فى الهداية: (وعن أبى يوسف أنه لا ينعقد بدون ولي ,
وعن محمد: ينعقد موقوفًا) وقولهما هو الموافق للأحاديث , فهل يصح أن يترك
الحنفية هذ القول عندهم المؤيد بما رأيت من النصوص وعمل الصحابة لأجل تلك
الرواية المخالفة لذلك؟ تأمل وأنصف.
هذا هو شرع الله فى المسألة , وحكمته ظاهرة , وشرحها بالتفصيل يتوقف
على إعادة ما كتبناه غير مرة في استقلال النساء وولاية الرجال عليهن , ونقول هنا
بالإيجاز: إن النساء كن قبل الاسلام كالعبيد والماعون عند العرب وغيرهم ,
فرفعهن الله إلى مساواة الرجال فى الحقوق , والتصرف فى الأموال , ولكنه جعلهن
تحت ولاية الرجال , ولم يعطهن تمام الاستقلال فأوحب أن يكون للمرأة قيم يسوسها
ولكن ليس له أن يتصرف فى مالها ولا فى نفسها بدون إذنها ورضاها بالمعروف ,
وهذا القيم هو الأب ثم الأقرب فالأقرب من محارمها حتى تتزوج فيكون الزوج هو
القيم والرئيس عليها , فليس لها أن تنفصل من البيت موقتًا بسفر بعيد بدون ذي
محرم , وليس لها أن تنفصل منه بالمرة بالزواج بدون إذن الأقرب فالأقرب من
قوام البيت , فلابد من اتفاقها مع وليها في إنفاذ هذا الأمر الذى يهمه ويهمها لأنها
خلقت للقيام بأمر بيت , فإذا طلقها الزوج فإنها تعود إلى بيت الولي فلابد أن يكون
للولي يد في اختيار الزوج لها لئلا يلحقه من سوء اختيارها أذى أو عار. ولأنه
أعرف بأحوال الرجال منها , وأبعد عن الهوى فى الاختيار , ولأن من مقاصد
المصاهرة التآلف بين البيوت (العائلات) والعشائر، وانفرادُ المرأة باختيار الزوج
ينافي ذلك , ويكون سببًا للعداوة والبغضاء. ولأنه ليس في اتفاق الولي معها على
انتقاء الزوج وتوليه العقد عنها أدنى هضم لحريتها بعدما علم من اشتراط رضاها -
ولهذا المعنى ورد في الأحاديث أيضًا طلب استئذان الأم والعلم برضاها - وما علم
من تحريم العضل أي الامتناع من تزويجها بمن يليق بها ويرجى أن يحسن
عيشها معه كما نطقت به النصوص السابقة. وإذا اتفق أنها اذا أرادت زوجًا لم يرده
هو بلا عذر ككونه غير كفؤ يلحقه به العار هو وبيته فقد جعل لها الشرع مخرجًا
برفع أمرها إلى الحاكم , فتبين بهذا أن اشتراط الولي مع رضى الزوجة فى العقد
هو الذى يتم به نظام البيوت ويليق بكرامة النساء والرجال معًا , وأن الخروج عنه
خروج عن الشريعة والمصلحة جميعًا. وأي فساد في العائلات أكبر من خروج
العذارى من بيوتهن وعدم عودتهن إليها لاختيارهن أزواجًا يعقدن عليهم ويدعن
آباءهن وأهلهن في حيرة واضطراب , ويوقعن بينهم وبين الزوج وأهله العداوة
والخصام , وقد أشرنا إلى اشتراط الولي في مقالة الكفاءة , وهذا تفصيله ودليله
والله عليم حكيم.
* * *
زواج الشيعي بالسنية
(س٥٩) ز. ف. في (القاهرة) : هل يجوز للسُّنّيّة أن تتزوج بشيعي أم
لا؟
(ج) قد علم مما ذكرناه في جواب سؤالك السابق وما قبله أن هذا جائز ,
وذلك أن أهل السنة يذكرون من مناقبهم التي يفضلون بها سائر أهل المذاهب
الإسلامية أنهم لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة وإنْ كفرهم متأول , وقد صرحوا
بصحة إيمان الشيعة لأن الخلاف معهم في مسائل لا يتعلق بها كفر ولا إيمان
فالشيعي مسلم له أن يتزوج بأية مسلمة. وإذا نظرنا إلى ما أصاب المسلمين من
التأخر والضعف بسبب العداوة المذهبية , وأننا في أشد الحاجة إلى التآلف
والتعاطف والاتحاد يتبين لنا أن مصاهرة المخالف فى المذهب ضرورية في هذه
الأيام التي أحس المسلمون فيها بخطئهم السابق فى التنافر والتباعد لأن المصاهرة
من أعظم أسباب الاتحاد.
* * *
تعدد الجمعة وإعادة الظهر
(س٦٠) السيد محضار بن حسن فى (سنغافوره)
ما قولكم دام بقاؤكم فيما هو الجاري ببلد سنغافوره من تعدد الجمعة فيها فى
نحو أربعة عشر مسجدًا مع ما تعلمون من قول متأخري الشافعية في تعددها على
هذا النحو. ولكن هل يجوز الإنكار على من اقتصر على صلاة الجمعة ولم يصل
بعدها الظهر ويباح ثلبه والاستخفاف به أم لا؟
(ج) إن الشافعية يشترطون لوجوب إعادة الظهر أن يكون تعدد الجمعة
لغير حاجة بأن يكون بعض هذه المساجد كافيًا للمصلين. وإذ كانت هذه المسألة من
المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نص عن الشارع فلا يجوز أن ينكر فيها على
من لم يصل الظهر بعد الجمعة , وتجعل سببًا للتنازع بين المسلمين. ودليل
الشافعية على إعادة الظهر ضعيف جدًا , وإن كان ما فهموه من قصد الشارع اجتماع
الناس والحرص على عدم تفرقهم صحيحًا , فإن هذا لا يقتضي أن يطالبوا
بفريضتين فى وقت واحد فإذا قلنا بالتقليد فلا يجوز للشافعي أن ينكر على من اتبع
غير مذهبه؛ لأن جميع الأئمة على هدى من ربهم وإذا اتبعنا الدليل وقوته كان لنا
أن ندعوا الشافعية إلى ترك إعادة الظهر ولكن بالتي هي أحسن , ولا يجوز
لمسلم أن يهين مسلمًا أو يثلبه لأجل الخلاف في أمثال هذه المسائل الظنية , والله
أعلم وأحكم.
* * *
الذكر مع النطق باسم العدد
(س٦١) ومنه: ما قولكم فيما صرح به كثير من المتأخرين من أن من قال
في الصلاة هكذا: سبحان ربي العظيم وبحمده ثلاثًا - بلفظ ثلاثًا - لا بتكرير
التسبيح؛ حصل له كمال السنة وكذا لو قال بعد المكتوبة: سبحان الله ثلاثًا وثلاثين ,
الحمد لله كذلك , الله أكبر كذلك , بهذا اللفظ حصل له الفضل الموعود , وإن قال:
سبحان الله مائة ألف مرة يحصل له ثواب من كررها مائة ألف مرة , وما توسط
به بعضهم فقال: له أجر أكثر ممن قالها بدون لفظ العدد , لكنه دون أجر من كرر
العدد. وقد خالف هذا بعض من حضر قراءة عبارات المصنفين المذكور فحواها
فقال: إن النبي قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وما بلغنا أنه ألحق ثلاثًا بشيء
من أذكار الصلاة , بل أمر بتكرير الأذكار , ولم يفهم أحد من الصحابة ما فهمه
هؤلاء المصنفون فمن أدخل في الصلاة ما ليس فيها فقد عصى وتلاعب وابتدع.
أما في غير الصلاة فما ورد على النبي الله عليه وسلم نحو سبحان الله وبحمده عدد
خلقه إلخ فلا شك أن فيه فضلاً كبيرا بموجب الوعد وليس لنا أن نقيس عليه , وذكر
احتجاجًا وردًّا على ما احتج به المخالف لا حاجة إلى تسطيره لكم وقد أحببنا
استجلاء هذا الحقيقة منكم فأفيدونا , ولكم الفضل.
(ج) ما قاله هذا المعترض على المؤلفين هو الحق وكلامه كلام فقيه في
الدين , وقد صرحنا فى المنار مرارًا بأن العبادات لا قياس فيها. والعجب من
هؤلاء المصنفين يمنعون الاجتهاد بمعنى الاستدلال على الأحكام وفهم الكتاب والسنة،
ويبيحون لأنفسهم الاجتهاد بالتلاعب فى الدين وتغيير بعض أحكامه والزيادة
والنقص من عباداته مع إكمال الله إياه فقولهم: يكتفى فى أذكار الصلاة المكررة
التلفظ باسم العدد يقتضي اذا سلم أنه يجوز لنا أن نغير الأذان بأن يقول المؤذن:
(ألله أكبر أربع مرات. أشهد أن لا إله الا الله مرتين) ، وهكذا بذكر لفظ العدد، وما
هو إلا قياس شيطاني يراد به إفساد الدين. فهو قول باطل لا يلتفت إليه. أما قول
الذين سميتموهم متوسطين فهو ليس بشيء أيضًا , وإن كان لا يبلغ فساد الأول
وقبحه , فإن ذكر لفظ العدد لغو ليس له أثر في النفس؛ فنقولَ: إنه مفيد بأثره ,
ولم يعد عليه الشارع بشيء؛ فنقولَ: إننا نسلم به تعبدًا , وليس هو من قبيل:
سبحان الله وبحمده عدد خلقه. فإن هذه الصيغة أمثالها كقولك: الحمد لله عدد نعم
الله , لها أثر فى النفس بما فيها من الاعتراف بكثرة النعم , وتذكرها مجملة ,
واعترافك باستحقاق المنعم بالحمد عليها , وإنما كان الذكر عبادة باعتبار ما له من
مثل هذا الأثر في النفس , ولا ثواب عليه من حيث هو حركات فى اللسان وكيفية
فى الصوت , وإنما الثواب عليه بما ذكرنا من تأثيره فى النفس , فإن ذاكر الله مع
هذا الحضور ينمو الإيمان في قلبه ويصير كثير المراقبة لله تعالى , وذلك أعظم
رادع عن الشرور والرذائل , ومرغب فى الخيرات وأعمال الفضائل , والمراقبة
تثمر الخشية كما أن الذكر يثمر الأنس بالله تعالى أيضًا , وناهيك بذلك سعادة لا
يعرفها إلا من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه , ولهذه المعاني قوبل
الذاكر بالغافل فكان ضده , وإنما موضع الغفلة القلب فهو موضع الذكر أيضًا , وإنما
اللسان محرك لقلب المبتدئ وضعف الإيمان كما أن القلب هو المحرك للسان المؤمن
الكامل. بل الذكر فى الأصل هو ذكر القلب , ومنه التذكر والذكرى والأقوال التى
تكون سببًا لذكر القلب تسمى ذكرًا مجازًا. ولو كان ذكر اللسان مفيدًا بذاته لكان قول:
لا إله إلا الله ممن لا يفهم معناها أو لا يعتقده نافعًا والأمر ظاهر لا يحتاج إلى
زيادة إيضاح.