للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(مراكش والإصلاح وحال المسلمين)
كتب إلينا من فاس أن أبا حمارة يكون سلطنة في تازه. وأنه ظهر خارجٌ آخر
يدعى أبا عمامة (وهو معروف) ، وأنه ليس لدى الحكومة في فاس أكثر من ألف
جندي , وأن الخزينة مفلسة فإن الدين الذي أخذه السلطان عبد العزيز من فرنسا قد
اشترى به من باريس كثيرًا من الأثاث والرياش والماعون وأدوات الزينة
والزخرف، وأن فرنسا قد استلمت إدارة المكس (الجمرك) بطنجة في مقابلة المال
الذي أخذه السلطان منها , وقدره ٦٢ مليون فرنك وابتدأت بالعمل. وأن بعض
الوزراء ميال لسياستها كما كان المهدي المنبهي ميالاً إلى إنكلترا حتى إنه دخل في
حمايتها رسميًّا، وهو وزير وإن كان لا حق له في ذلك، وإن جهل هذا الوزير
الذي ذهب بما كان عند الدولة من السلاح الكثير، وأفسد عليها جيشها وأطمع
الخارجين فيها، وأن السلطان قد صادره بعد عودته من الحج هو وكاتبه، وقد
قبض على كاتبه , وامتنع هو في طنجة بحماية قنصل إنكلترا. ويظن الكاتب أن
في تداخل فرنسا في شئون البلاد خطرًا عظيمًا لأن جميع القبائل مستعدة للمقاومة
بالقوة وأنهم ما أبغضوا السلطان إلا لميله إلى الأجانب، ولولا ذلك لم تمتد دعوة
الخارج وتقوى شوكته.
هذا ملخص ما كتبه الكاتب من أخبار البلاد وهو يقول مع هذا ما يعلمه
المختبرون من أن أكثر علماء تلك البلاد لا يزالون على ما كانوا لم تحدث لهم
موعظة , ولا تجدد لهم اعتبار , ولا اقتنعوا بالحاجة إلى شيء من العلم والعمل غير
فقه المالكية ومقدماته , وعامتهم لا تزال تعتقد مع أكثر خاصتهم أن أعظم واق للبلاد
هو وجود قبور الأولياء فيها لا سيما سيدي إدريس الأكبر رضي الله عنه، ولو
عرفوا مع كتب النحو والفقه شيئًا من تاريخ المسلمين؛ لكان لهم فيه عبرة , فإن
معظم بلادهم خرجت من أيديهم واستولى عليها الإفرنج على بُعْد أكثرهم عنها ,
وكان أهلها يقولون بقول أهل مراكش ويعتقدون اعتقادهم.
كان أهل بخارى قبل فتح الروسية لبلادهم يرون أن قراءة البخاري وسرِّ
سيدي بهاء الدين شاه نقشبند إمام الطريقة المشهورة كافيان لحماية البلاد من كل
سوء، وقد دخلت الجنود الروسية عاصمتهم , وهم مشغولون بقراءة البخاري , فلم
تغن عنهم قراءة البخاري ولا البخاري نفسه ولا شاه نقشبند شيئًا من عذاب الله الذي
تركوا سنته في خلقه وأمره فى كتابه {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال:
٦٠) .
يتوقف امتثال أمر الله في هذه الآية على معرفة الفنون العسكرية، ومنها
الرياضية والطبيعية التي يُحرِّمها الغفل من الفقهاء باسم الدين؛ فيحرموا ما فرضه
الله تعالى على الأمة اعتداء على الله وافتئاتًا على دينه , والعامة تغش بهم لأنها
اعتادت على تقليدهم. ومن ينير الله تعالى بصيرته ويؤتيه فهمًا في كتابه فيحاول
إقناع الناس بما أوجب الله تعالى عليهم من الاستعداد للأعداء بمثل ما يستعدون به
لإزالة سلطة الإسلام - وهو العالم حقًّا - يهيجون عليها العامة بأنه يدعوهم إلى
علوم الكافرين ليفسد عليهم دينهم , وأن ما يستدل به على دعاويه من كتاب الله
تعالى غير جائز لأمثاله؛ لأنه مخصوص بالذين ماتوا من المجتهدين، ولكن كيف جاز
لهم هم أن يجتهدوا بجهلهم فيحلوا ويحرموا بأهوائهم من غير بينة ولا دليل.
هذا ما وصلت إليه الأمة الإسلامية بإرشاد علمائها، واستبداد سلاطينها
وأمرائها حتى نزع الله منهم أكثر ممالكهم، ولا تزال الأمم الإفرنجية تستولي على
بلادهم مملكة بعد مملكة، ولا يرجع المتأخر عما كان عليه المتقدم. فمن نعاتب
ومن نخاطب.
الخواص والزعماء هم الذين ينهضون بالأمم، ولكن طول عهد المسلمين
باستبداد الأمراء قد أفسد النفوس، وطول عهدهم بالجهل والتقليد قد أفسد العقول،
فأي زعامة ترجى مع فساد نفس المرء وعقله.
تنحي جرائد هذه البلاد على السلطان عبد العزيز وتنعي عليه إسرافه في اللهو
واللعب واللذات الحسية، وكل أمراء المسلمين كذلك، بل يعرفون من طرق
الشهوات واللذات ما لا يخطر له على بال، وإنما يلام هذا السلطان على كونه لا
يعرف شيئًا غير اللهو، وأنى له أن يعرف شيئًا و (العلم بالتعلم) , وهو لم يتعلم
من علوم السياسة وإدارة الممالك شيئًا، ثم أنَّى له أن يعمل بما عساه يعلمه،
و (الحلم بالتحلم) أي أن الأخلاق والأعمال الحسنة إنما تنشأ عن التربية والتعود عليها,
وهو لم يترب إلا على اتباع ما يحب ويشتهي , وإننا نرى من تعلم مَنْ أمرائنا
وعرف ما لم يعرفه غيره لا يتبع إلا هواه إلا أن يعجز عنه ويضطر إلى غير ما
يهوى اضطرارًا.
الواجب على الجاهل بما ينبغي له علمه وتتوقف عليه سعادته إن كان عاقلاً
موفقًا أن يستعين بمن يعلم ذلك , ويقدر على العمل به بقدر الإمكان. ولكن طبيعة
الاستبداد كالمخدر في الجسم لا يحس معه المرء بالحاجة إلى الدواء فيسعى بطلبه
ولو أحس لوجد للمقتضي مانعًا , وهو لذة الاستبداد التي تعلو كل لذة في الكون فهو
يختار أن تطوح أمته في هوة الهلاك على أن يُعارِض استبداده وحكمه المطلق
معارض إصلاح.
السلطان عبد العزيز لا يرى أمامه، ولا حوله داعيًا إلى إصلاح عسكري أو
إداري أو علمي، ولا يشعر بأن الأمة تطالبه بشيء من ذلك، بل ربما كان يعلم أن
أمته تكره كل شيء جديد وإن كان السعادة والسيادة، أفلا يكون معذورًا بالنسبة إلى
سلطان يعلم أن في رعيته الألوف وعشرات الألوف، بل والملايين من العارفين
بدرجة ضعف الدولة , الشاعرين بخطر الجهل في الأمة والاستبداد في السلطة ,
المطالبين بالإصلاح ثم هو يحاربها كلها، ويسعى في إطفاء كل شعلة للعلم، وجذوة
للغيرة في كل زاوية من زوايا بلادها وقراها , حتى إنه ليعد من أكبر الجرائم
السياسية الاطلاع على كتاب في فن التربية والتعليم، ويعاقب على ذلك بدون
محاكمة عقابًا لا حد له ولا شرع ولا قانون؟
ساح شاه إيران فى بلاد أوربا , ورأى فيها من آيات القوة والرقي ما عرفه
الفرق بين العلم والجهل، والعمران والخراب , والترقي والتدلي، والقوة والضعف؛
فاشتهى أن يصلح حال دولته، ولكنه لا يجد في بلاده من يقدر على القيام
بالأعمال الإدارية ولا المالية ولا الحربية ولا التعليمية.
فههنا شعب إسلامي يحب الإصلاح، ولكن سلطانه لا يحبه، وهناك شعب
إسلامي لا يشعر بالحاجة إلى الإصلاح، ولكن سلطانه يشعر به. فلا شعب يقدر
على تقييد سلطان , ولا سلطان يقدر على إصلاح شعب، وأما بلاد مراكش فلا
سلطانها يشعر بما يجب ولا شعبها , فحالها شر الأحوال.
ولكن قد بلغنا أخيرًا أن بعض الكبراء في فاس يشعرون بالخطر الذي ينذرهم ,
ويتمنون لو يقتنع السلطان بمثل ما هم مقتنعون به، ويتفق معهم على العمل
لتلافي الخطر، ثم لا يجدون لذلك وسيلة، ولا يهتدون إليه سبيلاً. المسلمون
مساكين , المسلمون فقراء، أَمَا إنهم ليسوا فقراء الأيدي , ولكنهم فقراء العقول
والقلوب , فإنه لا يزال في أيديهم أفضل بقاع الأرض، ولكنهم قوم يجهلون.
نعم قد رشد من المسلمين أفراد قليلون، ولكنهم في شعوبهم القاصرة ضائعون،
ومع هذا فهم محل الرجاء في جميع الأرجاء، يعدون للإصلاح الأفراد، ويؤلفون
ما استطاعوا بين الآحاد، وإن الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد , فنسأل الله
أن يسدد أمرهم، ويشد أزرهم , ويكثر عددهم , ويقوي مددهم.
* * *
(الحجاج والسلطان والإنكليز)
أرسل السلطان إلى الحجاز لجنة لتحقيق أمر ما كان من التعدي على الحجاج
وسفك دمائهم، ونهب أموالهم، وهذا اعتراف رسمي بالتعدي إجمالاً , وتكذيب لما
نشر في الجرائد العثمانية نقلاً عما كتبه أمير مكة وإليها بعد الحج من أن الحجاج
كانوا في أمن وراحة واطمئنان. والذي نقل عن اللجنة أنها نفت طائفة من وجهاء
المدينة المنورة إلى جهة الطائف.
والمعروف أن هنالك حزبين يتنازعان , والحكام ينصرون من كان أكثر لهم
نفعًا , والناس يعرفون أن علة مصاب الحجاج في مكة لا في المدينة، وهي الأمير
والوالي , ولكن (المابين) راضٍ عنهما , فليغضب من شاء من الحجاج وغيرهم.
وعسى أن تكون اللجنة اتفقت مع الوالي والأمير على حفظ الأرواح والرفق بسلب
الأموال إذ لا يرجى المنع من السلب مطلقًا فيما نظن , فإن الاعتداء على الأرواح
فضيحة كبرى , وإذا تبين استمراره يبطل الحج لأنه يصير محرمًا بعد أن كان
واجبًا إلا إذا قدر المسلمون على حماية حرم الله، وحرم رسوله رغمًا عن الحكومة.
هذا ما كان من أمر حكومة السلطان في ذلك، وقد أنبأنا البرق بأن مجلس
النواب الإنكليزي بحث من عهد قريب في مسألة الحج المصري , وسأل حكومته
عن الطريق التي تسلكها في المحافظة على الحجاج المصريين، وهو نبأ جديد لم
يعهد من قبل، ولا غرو فإن الاحتلال الإنكليزي قد دخل في طور جديد بعد الوفاق
بين إنكلترا وفرنسا، ورضاء الدول بالوفاق , ومنه عدم البحث في أمر الاحتلال
والجلاء , وتفويض الأمر كله في مصر إلى بريطانيا العظمى بشرط أن تكون
حقوق الدول ومصالحها فيها محفوظة، فهل تفطن الحكومة الحميدية إلى وجوب
منع كل سبب يؤدي إلى تداخل الإنكليز في شأن الحجاز والحجاج؟ هذا ما يتمناه
للدولة والسلطان كل مسلم , والله الموفق.
* * *
(الرابطة الدينية والحرب الحاضرة)
لقد ظهر لنا من ميل النصارى إلى روسيا في هذه الحرب فوق ما كنا نعرف
ونظن , فإننا رأينا العوام والخواص منهم يتألمون أشد التألم لكل انكسار وكل خسار
يصيب الجنود الروسية فى الشرق الأقصى ويفرحون أو يتعزون إذا قيل: إنه قد
قتل من العساكر اليابانية عدد كثير. ظهر ذلك لنا مما نشاهد في مصر، ومما ينقل
لنا من أخبار سوريا والمهاجرين السوريين في أمريكا. وقد انتهى الغلو في حب
روسيا عند السوريين إلى أن يترك بعضهم الضحك بل والأكل في المساء الذي
يقرءون في برقياته أن روسيا قد انكسرت في واقعة كذا، وأخذ اليابانيون منها موقع
كذا، أو أغرقوا لها كذا وكذا من السفن الحربية - وإلى أن يكابر بعض أصحاب
الصحف منهم أنفسهم في الانكسار المتوالي من الروس فيصوروا الوقائع بغير
الصور التي انتهى إليهم خبرها، حتى كان في هذه الصحف ما لو اكتفى به القارئ
في تعرف أخبار هذه الحرب لاعتقد أن ليس لليابانيين مزية , وأن ما أخذوه من
المواقع والحصون من الروس قد تركه الروس لهم لحكمة حربية , ولا يلبثون أن
ينقضوا عليهم انقضاض الأسود على القرود فيمزقوهم تمزيقًا - هذا وأوربا بدعواها،
وكبريائها وخيلائها واحتقارها للشرق وأهله قد أعجبت كلها حتى أنصار روسيا
منها بأن اليابان قد بلغت من إتقان الحرب علمًا وعملاً غاية لا مطمع لأحد في
تجاوزها , فنظامهم أكمل نظام، وسلاحهم أحسن سلاح , وشجاعتهم أتم شجاعة،
وقد بلغوا الكمال الحربي في البر والبحر. والمعتدلون من أصحاب هذه الصحف
الذين لا مندوحة لهم عن ذكر جميع الوقائع كما ينقل البرق والبريد يضيفون إلى
أخبار ظفر اليابان ما لا مناسبة له من أعمال روسيا الماضية وانتصارها السابق في
بعض الحروب , وما لها من الأعذار الحاضرة، وما يرجى لها من الأماني
المستقبلة. يمثلون بذلك عظمة روسيا في أعظم تمثال وصل إليه الخيال قبل هذه
الحرب التي ذهبت بالخيالات، وفتحت للناس باب الحقيقة في الحكم. ولسنا نريد
بهذا القول تحقير روسيا أو التكهن بأنها لا تنتصر أو الرد على هذه الصحف ,
وإنما نريد بيان الواقع. في البرازيل جريدة سورية معتدلة حقًّا لا تتعصب لدين ولا
لمذهب ولا لطائفة، وهى جريدة (المناظر) كانت تذكر خلاصة أخبار الحرب كما
تصل إليها فقامت عليها قيامة السوريين هناك، وطفقت جرائدهم ترد عليها ردًّا
عنيفًا.
هذا أثر من آثار الرابطة الدينية، ويعلم من ظهر عليهم أن بعض مظاهره
منتقد وأنه على كل حال لا يفيد روسيا، ولا يدفع عنها شيئًا، وماذا عليها وهم لم
يشعروا باختيارهم، ولم يقولوا ما قالوا، وكتبوا دهانًا لها، وإنما هو سلطان الدين
الأعلى على الأرواح ظهر أثره في الأقوال والأحوال من غير تكلف، ولا اعتمال،
فهل يعتبر بهذا بعض الشعوب الذين استحوذ على أرواحهم سلطان اللذة فغلب فيهم
الشعورَ الديني حتى لا غيرة لهم على دينهم، ولا على أهله الذين يعيشون معهم
فضلاً على الذين يبعدون عنهم؟؟ ، أيتعللون بأنهم استبدلوا الشعور الوطني بالشعور
الديني خلافًا للسوريين؟ لعلهم لا يجرءون على هذا التعلل , فإن السوريين هم
الذين علموا الشرق الأدنى هذا النداء بالوطنية. فإذا كانت آية الوطنية لم تمح آية
الدين عند الأستاذ، فأجدر بها أن لا تمحوها عند التلميذ. وإذا ادعوا أن الشعور
الديني كامل فيهم، فليحاسبوا أنفسهم ليعرفوا حقيقة الدعوى. والله يعلم السر
والنجوى.
* * *
(أهواء الجرائد والدفاع عن الأمير)
لقد كان في قضية السادات وصاحب المؤيد عبرة لأولي الألباب لا نذكر منها
إثبات المحكمة كون طريقة إثبات الأنساب الرسمية غير شرعية، ولا غير ذلك،
وإنما نحب تنبيه الأفكار إلى ضرب من ضروب أهواء الجرائد التي أشرنا إليه في
الجزء الأسبق، وهو أن وكيل السادات قال في المحكمة: إن الخديو المعظم خطب
بنت موكله لصاحب المؤيد ثلاث مرات، ولم ينجح في خطبته (أو كما قال) ، ولا
يخفى أن هذه الكلمة أعظم مما انتقدته الجرائد على رياض باشا أو أبعد منه عن
الأدب مع الأمير - إن لم نقل: أكثر من هذا - فما بال تلك الجرائد التي شنت
الغارة على رياض دفاعًا عن مقام الأمير تلقت كلمة المحامي بالقبول؟ اللهم إنها
نطقت هناك عن هوى، وسكتت هنا عن هوى , فلا الإخلاص للأمير أنطقها , ولا
ضده أسكتها. فهم كمن نزل فيهم {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} (التوبة: ٣٧) .
قلنا في الجزء الماضي: إنه ثبت للمحكمة تزوير نسب صاحب المؤيد،
والأَوْلَى لم تثبت عندها صحته.