للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


آثار علمية وأدبية

(تاريخ التمدن الإسلامي)
صدر الجزء الثالث من هذا الكتاب لمؤلفه جرجي أفندى زيدان صاحب مجلة
الهلال وهو يبحث (فى العلم والأدب، وما كان منهما عند العرب قبل الإسلام من
التغيير في القرائح والعقول , وما نقل عن اللغات الأجنبية من العلوم , وما كان من
تأثير التمدن الإسلامي في كل ذلك) فما كان قبل الإسلام هو النجوم والأنواء
والميثولوجيا والكهانة، ويعني بالميثولوجيا: الخرافات المتعلقة بتأليه النجوم
والأنواء، والميثولوجيا الخرافات وأما العلم الحقيقي الذي كان عندهم فهو التاريخ ,
والأنساب فرع منه والأدب , ومنه الشعر والخطابة , وما هو ممزوج من الحقيقة
والوهم وهو الطب، وقد ذكر المؤلف هذه كلها سردًا على وجه التقسيم، وكانوا
يعرفون علومًا أخرى لم يتكلم عنها كعلم الريافة (استنباط المياه من الأرض)
والقيافة والعيافة والزجر وغير ذلك، ولم يكن شيء من هذه العلوم مدونًا في
الصحف والكتب، بل كان مما يعملون به ويتناقلونه باللسان لأنهم أميون. وأما
العلوم الإسلامية فهي لسانية ودينية وعقلية وكونية وفيها أكثر مباحث الكتاب.
وذكر المؤلف في مقدمته أن من الإفرنج من هضم في كتبه المسلمين أو
العرب، وغمص حقهم العلمي فلم يعترف بفضلهم، بل زعم أنهم أفسدوا ما نقلوه ,
ومنهم من أنصف واعترف بفضلهم، وهم المستشرقون الذين بحثوا وعرفوا، ولكن
بعض هؤلاء أطنب في مدح العرب، وذكر لهم من المزايا ما لا يوجد له ذكر في
كتبهم مع أن الكتب العربية هي منبع التاريخ والمعارف الإسلامية، وأنه هو توسط
بين الطرفين، ولكن لا يخفى عليه أنه يصح أن نجعل ما بين أيدينا من الكتب هو
الميزان لمعارف العرب , فإن معظم كتب سلفنا قد ضاع من أيدينا، ولم يُبْقِ لنا
الجهل بقيمة تلك الآثار، وما يلزمه من سوء الاختيار إلا أدنى الكتب وأقلها فائدة
ومكاتب الإفرنج مملوءة بتلك الذخائر المفقودة، والآثار الضائعة، ثم إن الأجنبي
عن الأمة قلما ينصفها في فضلها تمام الإنصاف، وأقل من ذلك وأبعد عن المعقول
أن يهبها ما ليس لها من المزايا والأوصاف إلا أن يكون الكاتب من أصحاب الأهواء
المعروفة لا من أهل العلم والمعرفة، ومن الهوى حب الإغراب , والكذب في
المبالغة والإطناب.
وقد قرأنا نبذًا من الكتاب متفرقة فرأيناها شاهدة لما نعتقده في المؤلف من
الإنصاف، ولكننا رأينا بعض المسلمين يرميه بالتعصب، ووصلت شكواهم منه
إلى أكبر معاهد العلم الإسلامي في مصر، وهذه الشكوى لا تزيد على ما كتبه إلينا
بعض أهل العلم في دمياط، وقد طلب منا كغيره الرد عليه , فرأينا من الظلم أن
نجازي من يتعب في خدمتنا بذكر هفواته قبل التنويه بفائدة كتابه، ولذلك بادر إلى
تقريظه قبل مطالعته، وهذا نص الكتاب الوارد من دمياط:
(قرأت ما نشر صاحب الهلال في هذه الأيام الأخيرة من تاريخ التمدن
الإسلامي؛ فوجدته وإن نوه بما للإسلام والمسلمين من الفضل إلا أن في طوايا
الكتاب وزوايا الكثير من صحائفه ما يرمي المسلمين في العصر الأول بالجمود
والتعصب الديني فإن لم يتيسر لك تصفح الكتاب فانظر الصحيفة التاسعة والثلاثين.
ليس هذا كل ما أقصد من الكتابة لحضرة الفاضل صاحب المنار، وإنما أهم
ما دعاني إلى الكتابة استلفات نظره إلى مسألة دينية أشار لها حضرة الكاتب تحت
عنوان (المأمون والاعتزال) صحيفة ١٤١ , وهي مسألة الخلاف في القرآن هل
هو مخلوق أو غير مخلوق فإنه حرفها بظنه، وفسرها برأيه حيث قال بعد أن نوه
بفطنة المأمون، وميله إلى البحث العقلي ما نصه: (فتمكن من مذهب الاعتزال ,
وأخذ يناصر أشياعه , وصرح بأقوال لم يكونوا يستطيعون التصريح بها خوفًا من
غضب الفقهاء , ومن جملتها القول بخلق القرآن , أي أنه غير مُنْزَل) فنستلفت
نظرك أيها الفاضل لقوله: أي أنه غير مُنْزَل بل إلى الكتاب كله والسلام) .
(المنار)
أما ما جاء في (ص ٣٩) فهو منتقد، ولكنه معتقد المؤلف فيما أرى , ولم
يقصد به إهانة الإسلام والنيل منه، قال: كان الإسلام في أول أمره نهضة عربية ,
والمسلمون هم العرب، وكان اللفظان مترادفين , فإذا قالوا: العرب؛ أرادوا
المسلمين , وبالعكس.
ولأجل هذه الغاية أمر عمر بن الخطاب بإخراج غير المسلمين من جزيرة
العرب. ونقول: إن هذا غلط سرى للمؤلف من استعمال الأجانب من عهد بعيد
فأطلقه، والصواب أن المسلمين في صدر الإسلام كانوا يطلقون كلمة العرب أحيانًا
في مقابلة المسلمين فيعنون بهم المشركين، ولم يكن اللفظان مترادفين عند المسلمين
في وقت ما على الإطلاق، بل كانوا يطلقون لفظ المسلم والمسلمين على كل من
دخل في الإسلام، وإذا أطلق على العرب خاصة كان تجوزًا يعرف بالقرينة. ولم
يخرج عمر غير المسلمين من الجزيرة اجتهادًا منه، بل عملاً بأمر النبي - صلى
الله عليه وآله وسلم - فقد أوصى بذلك في مرض موته , ثم قال المؤلف:
(وأما الإسلام وقوامه القرآن ففي تأييده تأييد الإسلام والعرب، وتمكن هذا
الاعتقاد في الصحابة لما فازوا في فتوحهم، وتغلبوا على دولتي الروم والفرس
فنشأ في اعتقادهم أنه لا ينبغي أن يسود غير العرب، ولا يتلى غيرالقرآن، وشاع
هذا الاعتقاد خصوصًا في أيام بني أمية، وقد بالغوا فيه حتى آل ذلك فيهم إلى نقمة
سائر الأمم عليهم) .
ونقول: إن القرآن بلا شك أساس الإسلام، ولكن ليس فيه ما يدل على أن
العرب يجب أن يكونوا ممتازين على غيرهم , بل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: ١٣) نعم، إن تأييد العرب له تأييد لهم إذ لولاه لم يخرجوا من
ظلمة جاهليتهم , ولكن فتح بلاد الروم والفرس لم يزد الصحابة اعتقادًا بما ذكره ,
وإنما كانوا يعتقدون كما يعتقد كل مسلم إلى الآن وإلى ما شاء الله أنه لا يصح أن
يعتقد بأن شيئًا من الدين إلا ما جاء في القرآن والسنة، أو أرشد إليه الكتاب أو
السنة، وهذا الاعتقاد لا يمنع جواز قراءة كل كتاب نافع والانتفاع بكل علم في أمر
الدينا، ولاسيما وقد قال لنا نبينا: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وأمرنا أن نطلب
العلم ولو بالصين , وأن نأخذ الحكمة أينما وجدت. وما كان من أمر بني أمية؛
فهو من الأثرة والطمع ولم يميزوا أنفسهم على الأعاجم وحدهم، بل ميزوها قبل
كل شيء على آل بيت النبي عليه وعليهم السلام ثم قال:
(أما في الصدر الأول فقد كان الاعتقاد العام أن الإسلام يهدم ما قبله، فرسخ
في الأذهان أنه لا ينبغي أن ينظر في كتاب غير القرآن؛ لأنه جاء ناسخًا لكل كتاب
قبله) اهـ. ونقول: إن معنى هدم الإسلام لما هو قبله أن من دخل فيه لا يؤاخذ
على الكفر والمعاصي التي كان عليها قبله كما يعلم من النصوص الصريحة، وليس
معناه أنه أبطل العلوم والفنون الدينية والدنيوية معًا، كيف وأكثر المسلمين يقولون
إلى اليوم بأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد عندنا ما ينسخه بخصوصه، وأما
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النظر في كتب اليهود، وعن تصديقهم وتكذيبهم
فسببه عدم الثقة بما ينقلونه عن كتبهم على أنها محرفة، وقد {نَسُوا حَظاًّ مِّمَّا
ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: ١٣) ومثلهم في هذا النصارى، وقد خالف هذا النهي بعض
الرواة، فأدخلوا في كتب المسلمين من الإسرائيليات ما شوه كتب السير والتفسير
والحديث بالأكاذيب والخرافات، ولولا نقد الحفاظ لاختلط علينا الأمر بسوء قصدهم ,
أو فهمهم كما اختلط على من قبلنا. وقد جعل المؤلف هذه النبذة مقدمة للنبذة التي
يرجح فيها أن العرب هم الذين أحرقوا مكتبة الإسكندرية، وما كان أغناه عن ذلك.
هذا ما أشار إليه الدمياطي عن (ص٣٩) وأما تفسير المؤلف لخلق القرآن بما
فسره به في (ص١٤١) فهو من اجتهاده الغريب الذي انفرد به، ولم يخطر على
بال أحد قبله من المعتزلة، ولا من أهل السنة , فإن هؤلاء لا يكفرون المعتزلة
بالقول بخلق القرآن , والفريقان مع سائر الفرق الإسلامية على إجماع واتفاق على
كفر من يقول: إن القرآن غير منزل؛ لأن هذا القول تكذيب صريح للقرآن وللنبي
لا يحتمل التأويل ولا التعليل، والذي يقول به يستحيل أن يلتزم شيئًا من عقائد
المسلمين وعباداتهم. وإنما يعنون بخلق القرآن ما كانوا يسمونه مسألة اللفظ، وهو
أن ألفاظ القرآن التي يكيفها التالي بصوته مخلوقة، ومن فوائد إنكار أهل السنة
والجماعة لهذا القول: أنه ربما يفضي إلى أن يقول بعض الناس إنه يلزم من
حدوث ألفاظ القرآن أن لا يكون منزلاً من الله تعالى - كما قال المؤلف - فيخرجوا
من الإسلام.
وإنا لنعلم أن كثيرًا من المسلمين يظنون أن المؤلف يتعمد أمثال هذا القول
طعنًا في الدين وتشكيكًا في الإسلام، وقد صرحنا من قبل باعتقادنا فيه، وأنه يقول
ما وصل إليه علمه بحسن نية، وأنه ليس من متعصبي النصارى الذين يرضون
تعصبهم بإفساد العلم كاليسوعيين الذين حرفوا كتب المسلمين لهذا الغرض، حتى لا
ثقة بكتاب يطبع عندهم، وبينا سبب وقوع هذه الأغلاط في كتب جرجي أفندي
زيدان، وهي أنه لم يدرس المسائل الإسلامية، ويأخذها عن أهلها من كتبها، وإنما
يتناول نتفًا منها من كتب التاريخ والأدب وغيرها؛ فيجيء بيانه للمسألة أو حكمه
عليها خطأ في بعض الأحيان مهما كانت ظاهرة جلية في مواضعها كما صرحنا
بذلك في تقريظ الجزء الثاني من هذا الكتاب. وعذر الذين يسيئون الظن فيه أنه
يقول في الإسلام بما لم يقل به أحد , ويعزو إلى أهله ما لم يخطر لأحد منهم ببال
من غير دليل , كتفسيره مسألة خلق القرآن بأنه غير منزل من الله، والحقيقة ما
قلناه , وليس لنا أن نعد ما هو بديهي عندنا بديهيًّا عند المخالفين لنا في الدين الذين
لم يدرسوه دراستنا لعدم حاجتهم إلى ذلك. نعم، كان ينبغى لهذا المؤلف الذي نعهد
فيه الإنصاف وحب الحقيقة أن يعرض المسائل الدينية الإسلامية المحضة على عالم
مسلم قبل تدوينها , وهي قليلة لا تزيد في عنائه على مراجعة الكتب في المكتبة
المصرية. وفي الكتاب مباحث أخرى تستحق النقد، ربما نعود إليها في وقت آخر ,
وفيه فوائد كثيرة لا تجدها مجموعة في كتاب عربي.
وإننا مع هذا نشكر للمؤلف عنايته واجتهاده وسبقه إلى إدخال أساليب التأليف
الحديثة في اللغة العربية، ونرجو أن يزيد في التحري مع الاعتراف بأنه لا عصمة
لأحد في اجتهاده، ونحث أهل العلم والبحث على النظر في كتبه هذه، ومن كان
ينتقدها على الإطلاق فليأتنا بخير منها؛ نكن له من السامعين الشاكرين. وصفحات
هذا الجزء ٣١٤ , وثمن النسخة عشرون قرشًا.
***
(ثلاثون عامًا في الإسلام)
كتاب وضعه موسيو ليون روس السياسي الفرنسي الذي أقام في بلاد المسلمين
٣٠ سنة، وتعلم في أثنائها اللغة العربية وفنونها، وقرأ العلوم الإسلامية، وعاشر
المسلمين في الجزائر وتونس والآستانة ومصر والحجاز , وقد عربت جريدة
اللواء المصرية عنه الجملة الآتية (فى عدد ١٥٠٦ الصادر في ٢٢ ج ٢)
فنشرناها نقلاً عنها لتكون حجة على متعصبي النصارى، وعلى أمثال صاحب
جريدة اللواء الذي ينتصر للمشايخ الجامدين الذين وصفهم صاحب الكتاب، كما
يتحامل على المصلحين الذين يبينون انطباق الإسلام على المدنية الفاضلة،
ويدعون إلى أصوله الكاملة التي طمس التقليد معالمها , وعبرة لنابتة المسلمين أبناء
التربية الحديثة الذين كفروا بهذا الدين تقليدًا للإفرنج الجاهلين به، أو المتعصبين
على أهله. قال المؤلف:
(اعتنقت دين الإسلام زمنًا طويلاً لأدخل عند الأمير عبد القادر دسيسة من
قِبَل فرنسا، وقد نجحت في الحيلة فوثق بي الأمير وثوقا تامًّا , واتخذني له
سكرتيرًا. فوجدت هذا الدين الذي يعيبه الكثيرون أفضل دين عرفته، فهو دين
إنساني طبيعي اقتصادي أدبي، ولم أذكر شيئًا من قوانيننا الوضعية إلا وجدته فيه
مشروعًا، بل إني عدت إلى الشريعة التي يسميها جول سيمون الشريعة الطبيعية
فوجدتها كأنها أخذت أخذًا عن الشريعة الإسلامية. ثم بحثت عن تأثير هذا الدين في
نفوس المسلمين، فوجدته قد ملأها شجاعة وشهامة ووداعة وجمالاًَ وكرمًا، بل
وجدت هذه النفوس على مثال ما يحلم به الفلاسفة من نفوس الخير والرحمة
والمعروف في عالم لا يعرف الشر واللغو والكذب، فالمسلم بسيط لا يظن بأحد
سوءًا، ثم هو لا يستحل المحرم في طلب الرزق، ولذلك كان أقل مالاً من
الإسرائيليين، ومن بعض المسيحيين.
ولقد وجدت فيه حل المسألتين الاجتماعيتين اللتين يشغلان العالم طرًا. الأولى
في قول القرآن: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: ١٠) فهذا أجمل مبادئ
الاشتراكية، والثانية فرض الزكاة على كل ذي مال، وتخويل الفقراء حق أخذها
غصبًا إن امتنع الأغنياء عن دفعها طوعًا، وهذا دواء الفوضوية.
همت بحب فتاة جزائرية اسمها خديجة وشغفت هي بي حبًّا، إني كلما تذكرت
هذا الحديث أذوب أسفًا. تبادلنا الغرام وتشاكينا الهيام وهي لا تعرف من أمري إلا
أني مسلم. وكان حبي لها حبًا جرى مجرى دمي في مفاصلي , فأردت أن أتخذها
زوجة، وأن أرحل بها إلى فرنسا حين قضاء مهمتي فأطلعتها على شيء من سري.
واأسفاه، إنها حين علمت بذلك نهضت من جنبي مصفرة الوجه مطرقة الرأس،
وقالت: الوداع الوداع , إني أحبك فلا أستحل إفشاء سرك , ثم إني أحب قومي فلا
أستحل أن أبقى بينهم عارفة بأمر يسوءهم، ولذلك لا ينبغي لي أن أعيش فالوداع.
ثم طعنت فؤادها بخنجر فسقطت ميتة وإني لا أنساها ما دمت حيًّا.
ذلك من تأثير هذا الدين الكريم، إنه دين المحامد والفضائل، ولو أنه وجد
رجالاً يعلمونه الناس حق العلم، ويفسرونه تمام التفسير؛ لكان المسلمون أرقى
العالمين وأسبقهم في كل الميادين، ولكن وُجِدَ بينهم - ويا للأسف - شيوخ يحرفون
كلمه , ويمسخون جماله ويدخلون إليه ما ليس منه. وإني تمكنت من استغواء
بعض هؤلاء الشيوخ في القيروان والإسكندرية ومكة فكتبوا إلى المسلمين في
الجزائر يفتونهم بوجوب الطاعة للفرنسويين , وبأن لا ينزعوا إلى ثورة، وبأن
فرنسا خير دولة أخرجت للناس، ومنهم من أفتى بأن فرنسا دولة إسلامية أكثر
من الدولة العثمانية، وكل ذلك لم يكلفني غير بعض الآنية من الذهب.
مثل هؤلاء الشيوخ الذين يحسبون هذا الدين ملكًا لهم لا ينبغي لغيرهم شرحه
وتفسيره، مثل هؤلاء الشيوخ الذين يقاومون المصلحين، ويعدون كل تأويل غير
تأويلهم كفرًا وإلحادًا، مثل هؤلاء الشيوخ هم علة تأخر الإسلام والمسلمين.
سمعت في الجزائر وتونس أن الشيخ محمد عبده المصري يفسر القرآن
تفسيرًا منطبقًا على العلم والمدنية والإنسانية، فوجدت كثيرًا من الشيوخ الجامدين
يرون في ذلك بدعة، ويقولون: ما أتى بمثل هذا أحد من الأولين. فكأنهم يرون
هذا الدين متاعًا لا يخص غير الرازي والجمل والسيوطي وغيرهم من المفسرين
السابقين ولا يخص سواهم من العلماء المجتهدين. إنه إذا مَنَّ الله على الإسلام
بشيوخ عقلاء مثل الشيخ محمد عبده وغيره من المصلحين، كان خير دين أخرج
للناس، وكان المسلمون أرقى العالمين اهـ.
(المنار)
قد سررنا من نشر جريدة اللواء لهذه النبذة، كما سررنا من كتابة ذلك
الفرنسي لها، فعسى أن نراها بعد الآن معترفة على الدوام بمثل ما اعترف به هذا
السياسي الكبير، والعالم المنصف، وأن لا تنتصر بعد لأولئك الشيوخ الجامدين
على العقلاء المصلحين، وإن كان الحق يعلو كل انتصار حيث يجد حرية، وأن
تستفيد بما ينشر المنار من ذلك التفسير الذي هو حجة الله على العالمين في هذا
العصر، ومن سائر محاسن الإسلام وحكمه ومزاياه، فلا يليق بمن ينتحل لنفسه
خدمة الإسلام في مصر أن يجهل أو ينكر ما فيها من الإصلاح الذي يعرفه،
ويعترف به الفرنسي في باريس.